أحلام الفيديو

2٬219

كان صباحا هادئا كغيره، مكللاً بالغيوم الرمادية، حينما استيقظ حسين على رنين الجرس الناعم، لكنه كالعادة لم يثر شيئا من الفضول في نفسه، إذ من يقرع باب البيت في هذه المدينة من دون موعد سوى “شهود يهوه”[1] أو قارئ عدّاد الغاز أو…

 

جره الكرى إلى وهاده الرحبة، فمضى باستسلام صوبه، غاطساً تحت ملمس اللحاف المخملي إلى مملكته الشفيفة. ها هو مرة أخرى في صحبة أبيه يتمشى معه وسط أرض بور فسيحة مغطاة بالملح، بين الحين والآخر يدوس أحدهما على شتلات العاقول اليابسة، فتنبعث خشخشة غريبة منها. لم يغير أبوه شيئا من ملابسه: العقال والكوفية والصاية نفسها، لكنه بدلا من كيس تبغه كان يحمل غليونا، وبدلا من التحدث عن أبقاره وزرعه، كان يناقش موضوعا علميا جد معقد. كل ما استطاع استيعابه من محاضرة أبيه الطويلة، هو أن الفضل يعود إلى نابليون في اكتشاف نظرية النسبية لا إلى آينشتاين، وأن سرعة الضوء متغيرة حسب تقلب الطقس. فجأة، تمتد يد أبيه اليمنى لتقبض على ذراعه، يصرخ به محذرا من صلّ مندفع تحت شتلات الشوك، لكن جسده يندفع بتهور إلى الأمام ليدوس بقدمه اليمنى فوق ذيل الثعبان.

 

يستيقظ فزعا فتستقبله العتمة الأليفة، وشيئا فشيئا يندغم مع مناخ الحجرة، حيث ضوء النهار الخافت يتسرب عبر الستارة السميكة، فتظهر ملامح الزهور الكبيرة، الموشاة بها، لكن الألوان تظل باهتة لعينيه على رغم طبيعتها الصاخبة، ومع تراتيل الشحرور الرقراقة تستعيد الأشياء صلابتها وحقيقتها. كم يختلف مزاج أبيه في الأحلام عما كان عليه حقا؛ بدلا من الجفاف والقسوة الموسومتين في طبعه، يجده الآن إنسانا آخر ليّن العريكة، سهل المعشر؛ وبدلا من محدودية التفكير وضيق الأفق يحل محلهما ولع بالنقاش واتساع هائل في الرؤية. شيء واحد ظل مثار استغراب حسين: استخدام أبيه الدائم للإنجليزية في كل أحاديثه، وهو الرجل الأمي، الذي لم يتقن طيلة حياته، أكثر من لهجة أبناء الريف.

 

أثناء هبوطه السلّم الموصل إلى الطابق الأرضي، شاهد ورقة بيضاء مطلة من شق باب البيت المخصص للرسائل. كانت إعلاما عن وجود طرد بريدي مسجّل، عليه أن يتسلمه من مركز البريد المحلي. اختضت الدماء في عروقه وهو يقلّب الورقة. منذ سنوات وهو يتوق إلى رسالة شخصية، لكن ما كان يحصده دوما قوائم كهرباء أو تلفون، وأحيانا رسالة لا شخصية، تغريه بفتح حساب مصرفي جديد، أو اختبار بوليصة تأمين أكثر ربحا. رغما عن ذلك أصبح الذهاب أولا إلى الباب الرئيس طقسا لا إراديا يكرره كل يوم لحظة استيقاظه ليبحث في الإعلانات المقحمة إلى بيته عن ضالته غير القابلة للتعريف.

 

لن يستطيع الذهاب لالتقاط “جوهرته” من البريد قبل عودة بربارة من السوبرماركت. طفلته ما زالت غارقة في نومها الملائكي، بعد مساء مثير قضته بصحبة أطفال الأصدقاء الذين احتفلوا معها بعيد ميلادها الثالث. فبدلا من النوم عند السابعة، امتد استيقاظها حتى العاشرة، وكم أثار قلق زوجته ذلك الأمر، مما جعلها تختطف نادين من أمام الطاولة الملأى بالكيك والمشروبات، لتحرك يدها بقليل من الانفعال، “إنها تقول لكم ليلة سعيدة”، ومن خلال الدموع كررت صغيرته ما طلبت بربارة منها ترديده، ملوِّحة بكفها الناعم لهم. قال محتجاً وبطريقة مرحة، “في مدينتنا ينام الصغار بعد الكبار”، فدفع الآخرين للضحك، لكن زوجته الجادة دائما حدجته بنظرة تأنيب رقيقة، كأنها تقول له، “متى ستكف عن سلوكك الطفولي؟”.

 

لبربارة روح مغرقة في النقاء، وحينما ينظر في عينيها الصغيرتين لا يجد سوى انجذاب كلّي له، ولا بدّ أن الرغبة ستراوده آنذاك للاعتراف لها بخياناته الصغيرة، فلن يكسب منها إلا فهما وتبريرا لحماقاته. ستقوده إلى جلسة تحليل نفسي حميمة تغمره خلالها بالأسئلة عن أحلامه الأخيرة، عن تجارب طفولته ومراهقته، ولا بدّ أنه سينغمر في إعادة ماضيه وفق الشكل الذي يجعله مفهوما لديها، إذ أي جواب يستطيع تقديمه لها حينما تسأله إن كانت أمه تغطيه قبل أن تتركه ليلا في سريره، وهو الذي لم يعرف النوم إلا على الأرض، محاطا بإخوته العشرة، وما الذي سيقول لها حول قسوة أبيه؛ “هل كان يلعب معك؟”، “أحيانا”.

 

راوده من وقت إلى آخر شعور قوي بأن الماضي قد تغير، مثلما تغير مسار حياته بعد التقائه ببربارة. لكأن ضربات تلك العصي التي تلقّاها من أبيه وشتائمه البغيضة أضغاث أحلام، أو هي أحداث وقعت لأحد معارفه، “كانت أمك تساعدك في تعلم القراءة؟”، “كثيرا”. يغمره إحساس غريب بأنه نُسخ على حين غرة، رجلاً ناضجاً، ثم ألقي به وسط هذه الجزيرة الهادئة، وما تلك الصور المختلجة في أعماق روحه سوى أصداء حياة أخرى، وقعت في زمان ومكان جد بعيدين، لشخص آخر غريب عنه. لكن للنسيان سلبياته أيضا، ها هو يجد نفسه عاجزا عن تذكر سلسلة الأحداث التي وقع البارحة؛ ما الذي كان عشاؤه؟ عمّ تحدث مع زوجته قبل أن يمارسا الحب؟ ماذا دار من حوار مع جارته العجوز صباحا؟ لكأن العالم الذي يحياه شبيه بفلم صامت؛ لا غضب، لا مشاحنات، لا انفعال، لا شكوى. “كم الطقس جميل هذا اليوم”، سيقول جاره المتقاعد، “إنه الوقت المناسب لشتل النرجس الأصفر، أليس كذلك؟”، فيجيبه حسين بحماسة مفتعلة، “أنت على حق، عليّ أنا أيضا شراء الشتلات في نهاية هذا الأسبوع”. كانت فكرة تعلم تصوير الفيديو التي أوحت بها بربارة جد مناسبة له، كي يخفف من رتابة العمل ، وليوثق الأحداث المهمة في حياته قبل أن تبتلعها دوامة النسيان. ولم يتطلب الأمر سوى حضور درس مسائي مرة واحدة في الأسبوع وشراء كاميرا. كانت حفلة عيد ميلاد نادين مناسبة مهمة لاختبار ما تعلمه خلال الأشهر الأخيرة. صاح بلطف بطفلته، بعد توجيه الكاميرا صوب مجموعة الأطفال المتحلقين حولها، “الآن انفخي على الشموع”، ثم أعقبها التصفيق والغناء. لكن المشهد لم يعجبه عند عرضه بعد وقت قصير؛ بدت نادين فزعة، واستغرق إطفاء الشموع وقتا طويلا، تخللته سعلات ابنته الحادة، مما اضطره إلى إعادة تمثيل المشهد كله. كم يمنحه الفيديو القدرة على صياغة الماضي وفق رغبته، إذ في الإمكان تبديل أحداثه لحظة وقوعها، ثم توثيقها كيفما يشاء. مع الفيديو يصبح الماضي صناعة أكثر من كونه حقيقة. ها هو يتابع مشاهد الحفلة على الشاشة؛ الأغاني المنتقاة، حركات أجساد الصغار الرشيقة، وجوه الكبار البشوشة، البالونات والأشرطة الملونة، الكعكة الدائرية الكبيرة، وكأن لا مجال للفوضى كي تخترق نظام الأشياء الساكنة في دهاليز الماضي البهي…ليس هناك سوى ما هو أنيق وجميل…

 

غفا على الكنبة قليلا، قبل أن تعيده إلى الصحو أصابع زوجته اللدنة، وهي تمسد شعرات رأسه الضئيلة. قالت برقة، “قد تبرد هكذا، هل أجلب لك غطاء؟”. سألها عن حال السوبرماركت، “مزدحم بشكل غريب”. قال وهو يتململ ناهضا، “هكذا هو يوم السبت كالعادة”. في الطريق إلى البريد راحت التوقعات تنوس في رأسه بدون هوادة. بدا له الشارع الرتيب بأبنيته الفكتورية أكثر تألقا وإشراقا، لكن الرزمة التي وضعها الموظف بين يديه، دفعت بحماسه إلى الخفوت. أثناء عودته ظلت عينان تطلان من حين إلى آخر على اسمه وعنوانه المكتوبين على الظرف البني الكبير، وبأصابعه كان يضغط على إضبارة الأوراق المحشورة داخله.

 

أثارت محتويات الرزمة في نفسه حنينا خفيا لتلك المرحلة المغرقة في القدم، حينما كان عضوا قياديا في منظمة الحزب الطلابية. “رفيقنا العزيز… ندعوك لحضور احتفالنا المنعقد يوم…”. يقلِّب في النشرات المطبوع بتواريخ مختلفة؛ حروب ومجاعات وقعت، زلازل ومحن، انشقاقات ونزاعات حزبية جديدة. تسترجع ذاكرته بوضوح غريب آخر الأشهر التي قضاها مع المنظمة المنشقة عن الأصل، والمعارك الطاحنة التي كان يخوضها ضد المناوئين. وفي المستشفى التي نُقل إليها التقى بربارة. كان إقصاؤه من الموقع القيادي غير قابل للتأويل بعد كل ما قدمه من تضحيات للمنظمة، ولم يقده موقف رفاقه اللامبالي من القرار إلاّ إلى الانهيار العصبي.

 

على يد طبيبته بدأ خطوات تعميده صوب طريق آخر، مبتعدا خطوة خطوة عن تلك الحلقة المغلقة، وشيئا فشيئا خفتت حدة الغضب والمرارة، ومع الاقتران بها بدأت رحلة الاندماج التدريجي بهذا العالم. ستقول له بعد خروج الضيوف، وبأسلوب اعتذاري، “الناس هنا لا يصدرون أحكاما قطعية بأي شيء” تذكيرا بما كال من آراء في تلك السهرة معهم. سيثور آنذاك ويكسر الصحون والكؤوس، ثم يغادر البيت ساخطا، مسعورا، ليعود بعد عدة أيام، وليجد كل شيء على ما كان عليه من قبل؛ تستقبله زوجته بهدوء مثير للدهشة، كأن لم يقع أي خلاف بينهما، وكأن غيابه لم يزد عن بضع ساعات… “الضحك العنيف قد يخيف الأطفال، حبيبي…”، تقول له مشيرة وبشكل خفي إلى اندفاعه المتحمس مع بعض أصدقائها في آخر لقاء بهم.

 

تنفتح له فجأة أزمنة مغرقة في القدم؛ فيض من العواطف يجتاحه، وهو يصافح رفاق الأمس، يستعيد صورهم القديمة المبعثرة في دهاليز ذاكرته المنطفئة، مختلطة بضجيج القاعة الرتيب، وأضواء المصابيح الثاقبة. بدوا له شخوصا وهمية لا تمت بصلة إلى أولئك المراهقين الذين قدموا يوما إلى هذه الجزيرة للدراسة، ولكأن اللحظة التي انفصل خلالها عنهم دهور خلَّفت وراءها فيهم غضونا عميقة، شعورا بيضاء، ورقابا مثخنة بطبقات الشحم. لكنهم ما زالوا يتمتعون بالحيوية نفسها؛ ها هم يتحلقون حوله، يربتون على كتفه بحرارة. يقول أحدهم بنبرة معتذرة، “لقد أثبت مجرى الأحداث صحة أفكارك”، يقول آخر بانفعال غريب، “لهذا السبب قررنا اختيارك قائدا للمنظمة”، يقول ثالث، “كان موقفنا تجاهك خطأ استراتيجياً”، فيجيبه الأول”كنا دوغمائيين”.

 

وشيئا فشيئا، دفعته المجموعة صوب المنصة. تسربت إلى سمعه همهمات بعض الجالسين، “إنه القائد الجديد”، وحينما قدّمه مذيع الحفل انفجر التصفيق مجلجلا، تقاطعه الهتافات والأهازيج. في تلك اللحظة مرت في ذاكرته كشرارة خطبه النارية المرتجلة التي اعتاد أن يلقيها على الحشود، ولا بدّ أن وضعه الحالي ليس إلا فيلما من الماضي سجلته عدسة فيديو بدائية، لكن ملمس مكبِّر الصوت البارد، والصمت الذي غلَّف القاعة بعد وقوفه أمام الجمهور، أعاده إلى الواقع الصلد، فدفع العرق للانهمار غزيرا فوق عينيه. سحب بضعة مناديل ورقية من علبة موضوعة أمامه، مسح وجهه بتأن. سيعاود التملي في حشود الحاضرين، بحثا عن أبيه المتوفى بينهم، فما يشاهده الآن ليس إلاّ حلما ثقيلا آخر، لكن بدلا من أبيه كانت بربارة جالسة في الصف الأول، جنب رفاق الأمس من دون أن تدري ما يجري حولها، ووراءها كان الجمهور غارقا في صمت مهيب منتظرا بلهفة ما سينطق به زوجها. حاول في تلك اللحظة، سعيا للنجاة، استحضار روحه المتمردة الأخرى، كي تقوم بإرضاء ذلك البحر البشري المتوتر، لكنه لم يحصد سوى كلمات مهشمة ذات إيقاع موسيقي غريب. تلفَّت حوله فأثارت انتباهه حال الفوضى التي رصِفت وفقها الكراسي والطاولات. كان كل شيء قبيحا حوله، وغير صالح لكاميرا الفيديو؛ الكتل البشرية المتحلقة حول كل طاولة، المسافات الفاصلة بينها، والملابس المتنافرة الألوان.

 

سيحكي لهم عن ضرورة الاعتناء بجمالية الحاضر كي يمكن الحفاظ عليه عبر تصويره. سيطلب منهم النهوض فورا، والبدء بتغيير مواقعهم ومواقع كراسيهم وطاولاتهم؛ سيطلب منهم الاعتناء بغلق أزرار قمصانهم وسترهم، وضبط ربطات أعناقهم، وتمشيط شعورهم، وحينما همّ في الحديث تصادمت في فمه الكلمات ببعضها البعض.

 

فجأة غمره شعوره بالخفة، جعله يتخلص دفعة واحدة من قيوده، وحينما صفق بيديه مرة واحدة ردد مكبِّر الصوت الصدى مرارا. غمره صوت ذلك المغني الريفي المنبعث من أزمنة موغلة بالقدم، كضباب يتصاعد من القاع، ليمنحه أجنحة جامحة. ها هو أخيرا ينطلق بالأغنية الفولكلورية بدون كابح، يصفق بيديه، ويضرب الأرض برجليه، تجرفه قوة بركانية هائلة، فتزيح عن طريقها طبقات الصخر السميكة…

 

لا يستطيع تذكر ما حلّ بعد ذلك. كل ما بقي في مخيلته صورة زوجته وهي تنسل بهدوء من القاعة وقبل أن تغلق الباب وراءها رفعت بيدها مودعة إياه وداعاً أبدياً.

 

*من كتاب “أحلام الفيديو”، 1996، دار الجندي، دمشق

 

[1] جمعية دينية تبشيرية واسعة الانتشار في أوروبا.

اقرأ ايضاً