أربع حالات

2٬181

النار

قبل عام أو أكثر قليلاً، استقبل الفلكيون في مراصدهم ضيفاً قادماً من عالم اللانهاية، وما كان هذا الزائر سوى شعاع جديد لنجم سبق له أن مات منذ ملايين السنوات، ولكي تصلنا ومضاته الضوئية، احتاج إلى كل هذا الزمن المديد، ومعها استطاعت تلك المراصد أن تلتقط صورة ذلك النجم، مومضا ببريقه المتوهج، فارشاً نثار مسحوق ضوئه بين ثنايا القبة السماوية، حاله حال ملايين الشموس المنبثة كحبات الرمل على ساحل لا متناهي الأرجاء.

في لحظة استقبالنا تلك النار المقدسة، كان المصدر عدماً. ملايين من السنوات تمر بعد ذلك الفناء وصورة ناره تنتقل عبر مساحات الكون الأزلية، قاطعة طريقاً طويلاً، لتصل إلينا أخيراً، ولتبقى معنا عصورا تقدَّر بملايين الأعوام.

كم نستقبل ونحن على مشارف قرن جديد أضواءً قادمة من قرون سابقة، نجوما قد ماتت منذ زمن بعيد، وما بقي منها سوى تلك النار التي يستطيع البعض منا تلمسها، التدفؤ أو التطهر بها، الاحتراق فيها. كأنها تلك النار المقدسة التي سرقها برومثيوس من الآلهة، ومنحها لبني البشر فأخرجهم من الكهوف المظلمة، الباردة، الرطبة، إلى عالم الدفء والنور.

أليس ممكنا اعتبار أناس فانين كموزارت وشكسبير ودوستويفسكي أشباها لذلك النجم الذي شغل الفلكيون أنفسهم في رصده؟ ألا تختفي وراء ابتسامة “الموناليزا” تلك الحزمة الضوئية التي أرسلها ليونارد دافنشي إلينا قبل أكثر من أربعة قرون؟

كأن أمام الفنان أحد خيارين رئيسيين: أن يكون مماثلا لذلك النجم النائي، المتوحد، المنكبّ على صناعة ناره، والمحترق أخيرا فيها، أو كصانع الألعاب النارية الخلابة للأبصار، والتي تبعث البهجة في النفس، لكنها تنطفئ سريعاً، مخلِّفة وراءها عدما…

الماء

ذلك المشهد الأزلي للبحر والساحل: يندفع الموج من أطراف الأفق متدفقا صوب رمال الشاطئ السوداء، الرمادية، البيضاء، دون هوادة، حتى ينبسط فوقها، متحولاً إلى رغوة بيضاء، وكسراً كريستالية ناعمة، ينبجس منها بريق الضوء الفضي، ثم يسحبها البحر إلى أحشائه، عابثا بالرمل المستسلم له كيفما يشاء، مرسلاً بجيش جديد من الموج الأبيض المتلع رأسه صوب الساحل.

وحينما تكون الجبال محاذية للبحر، فموجاته ترتطم بحافة جرفها، عنيفة، غاضبة، مدوية، منفلعة قنابل عنقودية عليها. وتظل الجبال صامتة، صلبة أمام البحر، ويظل البحر مواصلا إرسال موجاته، اللدنة، الهشة، دون كلل أو ملل إليها، ثم ها هو زمن يمر لا يقاس إلا بمساطر الآلهة الخالدين، وإذا بتلك الجبال الصامتة، الصلبة، الصخرية، العنيدة، قد تحولت إلى رمال ناعمة مفروشة أمام سيدها الأقوى، الأبدي: الماء.

التراب

تسمق شجرة الزان العملاقة عاليةً، أعلى من الأشجار الأخرى، يتفرع جذعها دون انتظام إلى أغصان طويلة، متراخية، بشتى الاتجاهات، تغطيها أوراق داكنة الخضرة، شبيهة بأكف مفتوحة، تترجرج فوقها بقع ضياء الشمس، منعكسةً على الظل المستلقي فوق الشارع العريض، نقاطا من اليورانيوم المتوهج. وكلما يمر الوقت، تزداد طولاً، ويزداد جذعها متانة وسمكاً، وتتسع مساحة الفضاء الذي تحتله، ومساحة الظل الذي تخلقه.

وحينما يقف الناظر أمامها مندهشاً، لا تراوده الرغبة برؤية جذورها المنغرزة في الأرض، عروقاً داكنة، متغضنة،  متلفعة بالأشنات والطين والماء. وهناك في تلك الظلمة، المطلقة، الرطبة، يمسك التراب بمخلوقه بكل حنو، يمنح الجذور النسغ المتصاعد إلى أعلى، تتصل الشجرة عبر أوراقها بالشمس والهواء فتصنع غذاءها.

والتراب في عمله الدؤوب لا يستطيع رؤية ما ينتجه، عدا تلك الجذور المشدودة إليه، لكأنه صانع النبيذ المقيم دوماً في قبو مظلم منكباً على عمله بدأب كلي، فلا يستطيع رؤية مواسم الفرح التي تخلقها جران خمره المعتقة فوق الأرض… برغم ذلك، يظل التراب مردداً لمن حوله: أعطني بذرة فقط أُعْطِك خضرة وظلالاً.

الهواء

برغم غيابه الدائم، فهو حاضر في كل مكان، يحتاج إليه الماء والنار والتراب، لكنه ليس في حاجة إلى أحد. لا يبحث عن أمجاد، لا يفتش عن جذور تشده إلى الأرض. لا بريق النار يغريه، لا اتساع ممالك الماء يجذبه، ولا أحد يستطيع رؤيته، لكنه حاضر في كل مكان، خلف تلك الغيوم المنساقة جنوباً، قادمة من البحر؛ بين ثنايا الشجر المرتعش، وحفيف أوراقه، في شدو العنادل الليلي هو حاضر.

حوار

قال الماء: أنا أقواكم.

قال التراب: بل أنا أقواكم.

قالت النار: أنا الأقوى فيكم.

ثم قال الهواء ضاحكاً: وأنا أضعفكم.

_____________________________________

* الناقد، رقم العدد 38، تاريخ الإصدار 1 أغسطس 1991

اقرأ ايضاً