الإغراق في المحلية : قراءة في مجموعة »أحلام الفيديو» القصصية

1٬466

 

حيدر عبدالمحسن

صحيفة المدى، العدد 4663

1

قرأت قصة «كفاءة من نوع خاص» في ظهيرة تموزية في مقهى للسودانيين في محلة البتاوين في بغداد. أريكة من الخشب القديم، على رصيف يظلله حائط المبنى المجاور.

هنالك مروحة في السقف، ولكنها متوقفة، بينما كان صياح اللاعبين يعلو حول مائدة القمار في المقهى، يحاولون تبديد ساعات الظهيرة الطويلة من يوم الجمعة ذاك، كما كانت تتردد الأخبار والأناشيد الصاخبة في التليفزيون، وكان ينقل أخبار الثورة التي أطاحت بحكم عمر البشير. كل هذا يدور بالقرب مني، وأنا أقرأ في القصة، وأتمنى لو أن صفحاتها تطول، ولا تنتهي.

« كفاءة من نوع خاصّ» قصة طويلة، وكان بإمكان الكاتب التوسع فيها، لتتحول إلى عمل روائي. إنها تشبه الشال الذي يُصنع قديماً في بلاد فارس، منسوجاً من أفضل الصوف، ويتدلى من الأكتاف إلى الأقدام، وبالرغم من حجمه هذا يمكن ضمه في راحة اليد. هي إذن قصة قصيرة وطويلة في الوقت نفسه.

الراوي شاب عراقي يعمل مترجماً في مؤسسة يديرها سامي الأدهمي، وهذا عراقيّ هو الآخر اختار المنفى لأنه اختلف مع النظام الحاكم إلى درجة أن عودته إلى البلاد تؤدي إلى إعدامه. تمضي القصة، وتتبيّن للراوي شخصية الأدهمي، رجلاً ممسوساً بدنيا العمل، لا شيء لديه غير المال ورجال المال والعلاقات التي تقوم على أساس المصالح التجارية. لا توجد قطرة ماء عذبة في الِبركة التي يعيش فيها. في نهاية أحد أيام العمل تتعطّل آلة تصوير الوثائق، ويحاول الراوي تصليحها مراراً دون فائدة. في تلك اللحظة تنتابه رغبة مفاجئة أن يقوم بعمل هو العكس تماماً من إصلاح الجهاز؛ تحطيمه. وتنتقل ذراعاه بالتتالي على بقية الموجودات في المؤسسة، الأجهزة الكهربائية والأثاث واجهزة الفاكس والحاسبات … كل شيء في المبنى كان يقوم بتكسيره وإتلافه وهو «يتمتم بتعاويذ غامضة»، بينما كان سامي الأدهمي واقفاً مسمراً في مكانه، يشفط الهواء بأنفه الكبير، المكوّر، وأنفاسه تصخب بأصوات غريبة.

 

2

عاش الكاتب لؤي عبد الإله في العراق، ثم هاجر إلى بلاد الغرب، وانتقل هذا التقسيم المكاني إلى أغلب قصص مجموعته «أحلام الفيديو». هنالك تداخل عميق ومتشابك وقوي بين مكانين المسافة بينهما مثل ما بين المشرق والمغرب. المنفى، بلاد الضباب، والعراق، وطن الكاتب وتربته الأولى وماؤه الأصل. يشتبك المكانان في صراع في ضمير القاصّ، لا غالب فيه ولا مغلوب، فالاثنان يعيشان في عقل الكاتب، وفي قلبه، يوجهانه كلّ إلى جهة، عالمان مختلفان يمزقان حياة القاصّ إلى درجة أن القصة لديه تشبه في النتيجة بطاقات التهنئة السحرية في الأعياد، عليها رسم لفتاة، أو لفتى، وبتحريك الصورة إلى اليمين أو الشمال يتغير الرسم إلى جبل أو بحر أو صحراء لا شيء فيها غير الرمال. الصورة السحرية ذاتها نجدها في قصص «أحلام الفيديو»، فمدن لندن وديترويت وويلز تحلّ مكانها مدن بغداد والموصل والبصرة، ويتبادل الشخوص اسماءهم، جاك وبربارة يصيران سامي وإقبال. محلّ الكاتب الأول، وطنه، يلاحق الكاتب في كل هنيهة من العيش، إلى درجة أنه صار يتعامل مع الحياة التي أمامه لا باعتبارها واقعاً واحداً، ولكن واقعين، أو عالمين منفصلين من يعيش فيهما يعاني حتماً تدميراً نفسياً وروحياً يؤديان به إلى أن يكون مصاباً بعاهة تشبه الفصام…

رغم أن الكاتب هاجر من بلده ومزّق بطاقة العودة، لكن قصصه تثبت أنه أكثر الكتاب محلية، بعد أن خاض كثيراً في تجربة العيش في المنفى، واستطاع أن يتعامل مع الحياة التي أمامه، لا باعتبارها واقعاً واحداً، ولكن واقعين أحدهما بلده، والثاني هو المنفى.

الأمر الآخر الذي يلاحظه القارئ لقصص لؤي عبد الإله هو هيمنة الماضي على جوّه القصصي. كل شيء يأتي من الماضي الذي ضاع مرة منّا، وإلى الأبد:

» مضى زمن طويل على قاسم عبد الجليل، وهو يشاهد حلماً واحداً، تقع أحداثه في قريته التي غادرها مكرهاً إلى بلدان نائية .«

قصة «حالة حصار »

«جرّه الكرى إلى وهاده الرحبة، فمضى باستسلام صوبه، غاطساً تحت ملمس اللحاف المخملي إلى مملكته الشفيفة. ها هو مرة أخرى في صحبة أبيه يتمشى معه وسط أرض بور…»« أحلام الفديو»

هل تتسع السنون التي فاتت أن تكون هي الملجأ الأخير لنا؟ لكل من درس تاريخ العراق الحديث يقدّم لؤي عبد الإله هذه الرؤية الشديدة الخصوصية في قصة «أشجار السدر»، فيها يكون الزمن الماضي هو الأمس، الثالث عشر من تموز عام 1958، اليوم الفاصل في تاريخ العراق.

في القصة التي تحمل اسم المجموعة «أحلام الفيديو» ينهال الماضي على رأس حسين دفعة واحدة مثل جبل من التراب. من أجل إلقاء خطبة في حفلٍ مع أصدقائه من بني بلده يصعب على الكلام الإفلات من بين شفتيه لأنه نسي الكلمات كلها، الانكليزية والعربية، ويفزع حسين من مشهد هؤلاء القوم المتأوروبين المتجمعين في صالة الحفل، قومه، كيف استحالوا أكثر إفرنجة من الإنكليز، وتنقذه من هذا الموقف أغنية عراقية ريفية، ينطلق بها «بدون كابح، يصفّق بيديه، ويضرب الأرض برجليه». يظلّ يتمايل ويطقّ أصابعه على النغم، وكأن القاص يمزّق هنا الصورة السحرية التي مرّ ذكرها قبل قليل، لأنها في الحقيقة بلا صورة! كما أننا نستطيع أن نعدّ القدرة على بثّ السخرية المرّة في القصة إحدى ملامح فن لؤي عبد الإله القصصي، دون الهبوط في قيمة الإنسان والخوض في أوحال الابتذال. السخرية هي أعلى مراحل القطيعة مع اللا مبالاة، ولا بدّ لكتابة قصة ساخرة من أن يتجول الكاتب في جوانب الحياة كي يستطيع في الأخير تقديم منحوتة يكتنف بناؤها الغموض والوضوح معاً، الجِدّ والهزل معاً، الحياة والموت…

 

3

إذا كان هناك من يشبّه صنع الرواية بعملية حفر البئر بإبرة – باموق – فإن كتابة القصة القصيرة لدى لؤي عبد الإله تشبه نحتَ صورة مدينة على رأس دبوس أو حبة رز. كل كلمة تتقاضى ثمنها في إطار الدقة التي يتسم بها العمل، بالإضافة إلى روح المغايرة وحبّ اكتشاف الجديد في هذا الفن، مع الأخذ بالحسبان أن جمال النص الأدبي لدى الكاتب يأتي بالدرجة الأساس من عدد الدلالات التي يؤدي إليها المعنى، حتى كأن عدد القراءات تبلغ عدد القرّاء. النسغُ في القصة واحد، لكن العصارة أكثر من واحدة. إن كل جيل من كتاب القصة يقدّم إضافة مهمة لما قدمه السابقون، وبهذا الشرط الوحيد يمكننا القول عن فن ما بأنه حيّ، والقصة الحقيقية هي التي تجعلنا نصل إلى نتيجتها دون صعوبة. إعمالُ الذهن لا يفيد في الفنّ كثيراً، وقد يؤدي في النهاية إلى أن يجعل الطريق أمامنا مسدوداً.

على الرغم من روايته الرائعة « كوميديا الحبّ الإلهي» التي صدرت عام 2008 عن دار المدى، وبطبعة ثانية عن دار دلمون الجديدة عام 2015، أعتقد أننا نجد لؤي عبد الإله الحقيقي في قصصه، خصوصاً مجموعة «أحلام الفيديو»، ففيها أعمال لا نستطيع الاكتفاء بقراءتها مرة واحدة، ولا عدة مرات، ولكن علينا أن نمرّ عليها الواحدة بعد الأخرى في كل عام، وباستمرار.

أصدر الكاتب لؤي عبد الإله المجاميع القصصية التالية:

– العبور إلى الضفة الأخرى، الطبعة الأولى عن دار الجندي (دمشق)1992، والثانية عن دار دلمون الجديدة (دمشق) 2016

– أحلام الفيديو، دار الجندي 1996، دار دلمون الجديدة 2016

– رمية زهر، دار المدى (دمشق) 1999، دار دلمون الجديدة 2015

– لعبة الأقنعة، دار دلمون الجديدة 2015

 

اقرأ ايضاً