التاسع من أبريل 2003: استيقاظ عالم مطفأ

2٬600

لؤي عبد الإله

التاسع من أبريل 2003: استيقاظ عالم مطفأ

يبدو أن تلمس ما يعنيه المنفى مستحيل لمن لم يعشه شخصيا. مع ذلك فإنه لن يتمكن من إدراكه على حقيقته إلا في لحظة انهياره.

كان شعورا غريبا ذلك الذي  تسرب إليّ  كأنه مورفين يتسرب تدريجيا في عروق المريض. كانت الحقنة صباحا قبل خروجي إلى العمل حينما فتحت التلفزيون على مضض لآخذ قسطا عابرا من أخبار الحرب الحزينة لكنني بدلا من ذلك فوجئت بصورة لا تنتمي أبدا إلى كوابيسي التي ظلت تحضرني منذ مغادرتي للعراق: أن أجد نفسي راجعا إلى بيتي لكن في لحظة ما يطوَّق البيت  برجال بلا ملامح معينة، كأنهم مخلوقات خرساء أرسِلت لتؤدي عملا واحدا هو مسكي. في تلك اللحظة تغزوني مشاعر متناقضة تتراوح بين الندم والفزع لأفزّ آنذاك من حلمي البغيض. لكن ما ظهر على الشاشة كان حلما آخر؛ فنتازيا من نوع آخر، ولولا ضوء الشمس الساطع في ذلك الصباح لأيقنت أنني ما زلت وسط نومي أشاهد حلما بدايته خدعة تغريني للعودة إلى أهلي كي تنقض علي تلك الكائنات الدموية مرة أخرى: هاأنذا أتابع رجلا مسنا يحمل بين يديه إحدى صور “صانع الكوابيس الأعظم” اللامتناهية، لكن بدلا من أن ينهال عليه تقبيلا إرضاء لتلك العيون المتربصة به هاهو يندفع ضاربا إياه بجنون خارق للمألوف. كان مظهر هذا الشيخ خاليا من أي كياسة وما حوّل المشهد إلى كابوس كوميدي هو اندفاع هذا الرجل ببكاء هستيري: هذا هو الذي قتل مليون عراقي ، هذا هو الذي دمرنا، هذا هو…

خرجتُ من البيت بعد هذه الجرعة مثل ملاكم تلقى ضربته القاضية لكنه لم يعلم بها. كان يظن أنها مجرد ضربة عادية كغيرها وأمام المكتب  قضيت ساعات

العمل كأن شيئا لم يحدث. أثناء رحلة الطريق إلى البيت برز في ذهني هذا السؤال الذي دُفن منذ وقت طويل تحت ركام يأس عميق وتحت الاستسلام إلى قوة العادة التي يفرضها الحاضر المعاش علينا: هل يعني ما شاهدته اليوم أنني أستطيع الذهاب إلى بغداد: هكذا ببساطة. حالما جاء الإيجاب في ذهني حتى تعمقت كثافة المورفين أكثر في دمي: مددت يدي لأتلمس ما حولي: هذه المدينة التي أمضيت فيها واحدا وعشرين عاما ظلت صورة تخفي وراءها صورة مدينة أخرى غادرتها مجبرا في سن السابعة والعشرين، وعند مغادرة بغداد  كانت هناك قناعة مخادعة في نفسي بأن الرحلة لن تكون إلا لعدة سنوات ثم أعود إلى بيتي. كل شيء تركته في مكانه: غرفتي، مكتبتي، صور أصدقاء الطفولة والغرامافون  العتيد، ولم تتردد الأم في رمي دلو من الماء ورائي ضمانا خرافيا لعودتي السريعة إلى البيت.

في رواية البير كامو الطاعون يُجبر سكان وهران على البقاء  ضمن أسوارها بعد تفشي الوباء ولم يركز الكاتب الفرنسي إلا على أولئك الذين بقوا في المدينة ولم يتناول حال أولئك الذين تمكنوا من الهروب من وهران أو أنهم كانوا في الأصل خارجها قبل أن يحل الطاعون. بمَ سيشعرون تجاه من تركوهم وراءهم ليواجهوا الوباء لوحدهم؟ هناك مشاعر مؤكدة بالإثم والحنين لكن أكثر أنواع العذاب: هو ذلك الاكتشاف التدريجي بأنك قد أقصيتَ وإلى الأبد عن نصفك الآخر الذي تركته وراءك والذي يأخذه الآخرون كأمر مسلَّم به: تلك الأمكنة التي تفتحت فيها أوائل الحس بالذات. في أي لحظة اكتشفت أنك كائن له ذاكرة؟ أين وقع ذلك؟ وجوه الأطفال الذين ترعرعتَ معهم، أصدقاء المراهقة الذي اكتشفتَ معهم حقائق الحياة الأولية، تلك الصبيَّة التي  خفق قلبك لها لأول مرة، تلك المدرسة التي  أخذك أبوك إليها ثم تركك فيها لتقضي أول نهار فيها بعيدا عن البيت. في لندن شدني نهر التيمز فكأن دجلة التي ظلت بوصلتي أينما اتجهت قد تلبست صورة نهر آخر.

لكن المضي أبعد فأبعد في حياة موازية يقتضي دفنا تدريجيا لذلك النصف الذي تركته هناك في بغداد، وأي طريقة لاسترجاعه تبدو عبثا: يثار سؤال في ذهني أحيانا بعد استيقاظ مفاجئ وسط الليل: هل حقا أنني عشت مثل الآخرين طفولة في أحياء معينة وأنه كان هناك أصدقاء لي؟ الذاكرة لا تعمل بفاعلية بغياب المسرح الذي وقعت هذه الحادثة أو تلك، بغياب المناخ والوجوه واللهجة. كأننا في كل لحظة من وجودنا نسترجع كل  دقائق حياتنا. لكن بالنسبة للمنفي عليه أن يخلق أمكنة بديلة ووجوها بديلة لإبقاء تلك الآصرة بالنصف الآخر الذي خلّفه وراءه في بلده. هنا يقوم الحاضر على ماض مقطوع قسرا.

في “الجحيم” يلتقي الشاعر دانتي بمجموعة من الناس كانت عقوبتهم فقدان الأمل ولعل هذه المجموعة أفضل تجسيد للمنفيين. هاأنذا أتلمس هذه المدينة التي عشت فيها كل هذه السنوات لأكتشف أنها كانت سجنا من نوع آخر أو بصيغة أدق منطقة تجميد لتلك المساحة المتوقدة من الذاكرة التي تظل مشدودة إلى شبكة وهمية من الأماكن والوجوه والروائح والألوان. حينما شاهدت شوكة عاقول يابسة بعد عشرة أعوام على  مغادرتي لبغداد في مدينة عربية قريبة من العراق امتلأت روحي بانتشاء طفولي، كأن سربا هائلا من الطيور يستيقظ فجأة في قلب الغابة المعتمة لتخفق أجنحته أمام عينيّ. لكن تعمق المخدر في نفسي أعاد صورة ذلك الشيخ الذي شاهدته هذا الصباح على الشاشة وهو يعلن عن انهيار رمز “آلة الخراب”. هل يعني ذلك أنني مثل الآخرين أصبح لدي وطن؟ كم تبدو مفردة الوطن مرتبطة بالأم بطرائق مختلفة وفي كل اللغات: اللغة الأم، الوطن الأم… حينما بلغني خبر وفاة الأم شعرت بعد مرور فترة الحداد بأن خيطا متوترا، كان يشدني إلى تلك البقعة التي قضيت فيها نصف العمر الأول، راح يتفكك، ليحل معه شعور غريب بالحرية: الحرية من الارتباط بالوطن. ليس هناك أمامي سوى الرحيل بخط مستقيم يختلف عن رحلات الطيور المهاجرة التي تكرر أماكن إقامتها سنويا  لكنها تظل محافظة عليها. لم يبق هناك سوى التحرك بعيدا عن النصف الآخر، وفي الطريق تتعمق الشكوك أكثر فأكثر بأنه كان لي ذات يوم أب وأم وأخوة وأخوات وأصدقاء: لكن هاهو الماضي يخترقني ثانية بعد أن ظننت أنه اختفى تماما: هاأنذا أجد ذراعا خفية تمتد لي عبر سحب لندن القاتمة لتمنحني قوة غريبة بعد أن وضعت في كفي قبضة ضوء يملأ العين: ضوء بغداد الساطع في عز الظهيرة. هاأنذا أجد نفسي منغمرا بتيار غامر يدفعني  بدون إرادتي للصراخ في الشوارع أو للركض مقبِّلا كل من حولي لأخبرهم بحقيقة لم أكن أظنها تمتلك أي أهمية أو أنها كانت موجودة أصلا: اسمعوا من فضلكم: أنا مثلكم صار عندي وطن.

نُشرت في جريدة”الحياة” بتاريخ 18 مايو 2003

اقرأ ايضاً