التحجر الحضاري

1٬953

 

لا أجد أي غرابة في صعود داعش، فقبلها سبقتهم القاعدة، وقبلها سبقهم سيد قطب الذي أدار ظهره على عصرنا معتبرا إياه جاهلية جديدة، وضمنيا مطالبا بالقطيعة مع العالم في إنجازاته العلمية والثقافية والفنية لأنها في نهاية المطاف جزءا من جاهلية مقيتة.

عرف الغرب منذ القرن السابع عشر تطورا في مجال العلوم التطبيقية والنظرية، وشهدت أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ثورة علمية هائلة في مجال ما سمي بـ فيزياء الكم والتي تمكنت من تفكيك الذرة وفهم ما تحتويه من أسرار كثيرة ترتبت عليها عدة ثورات (غير دموية) في مجال المنتجات الالكترونية من راديو وتلغراف وتلفزيون إلى عصر الترانسستور الذي سمح بتحويل الراديو أو التلفزيون بحجميهما الكبيرين إلى علب صغيرة يمكن حملها في الجيب وجاءت ثورة الرقاقات لتسمح بتحويل الكومبيوتر الذي كان يحتل بيتا بأكمله في الستينيات من القرن الماضي إلى جهاز صغير يمكن وضعه في الجيب، ثم جاءت أخيراً الثورة الرقمية وثورة السليكون لتدفع بادوات الاتصال والتواصل والتسلية والكمبيوترات والحواسيب خطوات جاوزت ما كان يتخيله الرواد الكبار من اينشتاين وبور وبورن وغيرهم.

عند متابعة تاريخ تطور الأفكار والنظريات نجد أن الكثير من بلدان أوروبا شارك علماؤها في صياغتها. ومن بين بلدان آسيا هناك مساهمة متواضعة من الهند فقط. وكأن هناك حوارا عميقا قائماً بين العلماء ومساهمات متعددة من بلدان مختلفة مثل الدنمارك وألمانيا وبريطانيا وآيرلندا وغيرها. وكل حل رياضي أو كيميائي أو فيزيائي لمشكلة قائمة كانت تستقبل من قبل الآخرين بترحيب كبير بغض النظر عن المصدر.

أمام هذا التطور الهائل الذي يثير أسئلة كثيرة عن الوجود أصبح التقوقع ورفض حتى أوليات الاكتشافات العلمية التي أصبحت بديهيات هو الطريق الوحيد أمام تيار كبير من السلفيين ودعاة الإسلام السياسي وأصبح العنف لبعض أطراف منهم هو الطريقة الوحيدة لمواجهة هذا الفيض من المعرفة في جميع الحقول العلمية والانسانية وأصبح الحصول عليها سهلا عبر الانترنت ووسائل التواصل الأخرى. ليس مستغربا أن يظهر رجل دين سعودي في التلفزيون (وهنا المفارقة) ليعلن أن دوران الأرض حول الشمس أكذوبة. فكأن منتجات هذه الثورات العلمية والتقنية التي تحققت في القرن العشرين أصبحت وسيلة لنشر آرائهم وقناعاتهم المجمدة للعقل وروح الابتكار، وفرضها بالقوة متى كان ممكناً، على الرغم من أنها تنتمي إلى عصر لم يعرف الانسان فيه سوى الجمل والحصان كوسيلتي نقل.

ولعل العنف وقطع الرؤوس وفرض الشعائر بالقوة على الناس كما تقوم به داعش هو تعبير عن أزمة عميقة ناجمة عن الفجوة القائمة بيننا كبلدان مستهلكة محض وبلدان تقوم بمهمات تطوير النظريات العلمية وتطبيقاتها العملية. وهذا يذكرني بحال تلك الشعوب التي اختفت عن وجه الأرض.

لم تنقرض شعوب وقبائل في أمريكا واستراليا وأفريقيا بسبب قسوة المستوطن الجديد القادم من أوروبا فقط بل لأن هذه الأقوام لم يحالفها الحظ كي تتطور مع تطور العالم القديم (أوروبا بالذات) حضارة وعلما وسلاحا وكيانات اجتماعية وثقافية، إذ بقيت عبر مئات السنوات أو ربما آلاف السنوات وهي تكرر نفسها  ثقافة وادوات وسلاحا. ولعل الفجوة الهائلة في التطور العلمي بينها وبين أوروبا لم تسمح لها بالتطور السريع حين واجهها المستوطنون الجدد فجأة، فكان لزاما عليهم أن تشجع العمليات الانتحارية ووسائل المواجهة البدائية من سحر وشعوذة  وأسلحة بدائية كالسيف والرمح والقوس أمام المدفع والبندقية.

العنف الذي تمارسه داعش وبوكو حرام والقاعدة وغيرها هو تعبير حسب اعتقادي عن حالة عجز مطلق أمام انفتاح أبواب المعرفة العلمية والثقافية أمام الجميع، ورفض التواصل والتفاعل مع العالم ككل إذ ما عاد التطور العلمي والتقني اذي يشهده العالم أجمع حكرا على أوروبا وأمريكا فقط بل أصبح العديد من بلدان آسيا كالصين واليابان وكوريا طرفا فعالا فيه.

يحذر نجيب محفوظ في إحدى المقابلات معه من أن يصيب العرب ما أصاب الهنود الحمر وقبائل الأمازون من انقراض بسبب هذه العزلة والعجز في مسايرة إيقاع التطور.

وداعش ومثيلاتها هي علامة منذرة لهذا الانقراض الذي لن يكون انقراضا جسديا بل انقراض لدولها وقيمها وسيادة الحروب الأهلية والخراب في كياناتها دون توقف، والانكفاء على ماضيها القديم وتأويلاتها المختلفة له ليعمق من نزاعاتها الداخلية. هذا لا يعني انعدام مصلحة بعض الدول الكبرى في تخريب كهذا، لكن البكتيريا عادة لا تصيب الكائن الحي بالأذى إلا إذا كان مهيأ داخليا لذلك.

 

 

اقرأ ايضاً