الربيع العربي بين شتائين

2٬198

يقول ميلان كونديرا في كتابه “خيانة الوصايا” معلقا على رواية تولستوي “الحرب والسلم” بأننا نسير في الحاضر محاطين بالضباب، ولن نستطيع أن نرى خطواتنا إلا بعد أن يصبح الحاضر ماضيا، عند ذلك فقط حين نلتفت إلى الوراء نجد أن كل الضباب قد انقشع وأننا نستطيع مشاهدة خطواتنا والطريق الذي رسمته بوضوح.

ولهذا السبب قد يبدو أي حكم في هذه اللحظة عما سيؤول إليه الربيع العربي الذي ابتدأ مع هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يوم 18 ديسمبر 2010، متسرعا. لقد احتجنا إلى أكثر من نصف قرن لنرى نتائج ثورة أكتوبر وإسقاط النظام القيصري في روسيا، بشكل واضح. ولعلنا لن ننتظر مثل هذا الوقت الطويل لمشاهدة الصورة الحقيقية التي ستأخذها البلدان التي عصف الربيع العربي بأنظمتها السياسية المختلة حتى الآن: تونس وليبيا ومصر واليمن.

مع ذلك، فقد كشف الربيع العربي عن مدى عمق الاحتقان السياسي والاجتماعي السائد في المجتمع العربي، وعمق التهميش لقطاعات واسعة منه في المشاركة بصياغة حاضرها ومستقبلها، وهذا ما جعله جارفا لا تقف أمامه أي قوة، كأننا أمام قارورة تفتح عن طريق الخطأ بعد إغلاقها قرونا، ليخرج منها مارد عملاق قزّمه الضغط داخل جدرانها إلى حد التلاشي، وأعشته الظلمة فجعلته عاجزا على الرؤية الواضحة.

في مداخلتي هذه أود تسليط الضوء على ثلاثة عناصر، لعبت دورا مهما لا في التغييرات التي جلبها الربيع العربي معه فحسب بل في تنويعاته الأخرى  أيضا: حجم ودرجة العنف، ودور القوى الأجنبية، وطبيعة الاتجاهات الفكرية، وغير ذلك.

وهذه هي: (1)  ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، (2) آليات بناء الدولة العربية الحديثة، (3) الحركات المستقبلية والسلفية.

(1)          ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات

لقد شهد العالم تحولا كبيرا منذ بدء الثورة الرقمية في بداية الثمانينات، وقد تجسدت بأشكال عديدة، منها تزايد المحطات الفضائية بشكل منقطع النظير، وبفضلها أصبحت المسافة الفاصلة بين الحدث وبلوغه كخبر في شتى أنحاء العالم قصيرا جدا. وهذا ما خلق تدريجيا ديناميكية جديدة في ردود الفعل لدى قطاعات بشرية واسعة، كان الخبر عند وصوله إليها في الماضي يتطلب وقتا أطول ويمر بعدة مصافٍ(مرشحات) تجعله قليل الإثارة عند وصوله لمن يعنيهم، وهذا ما سرّع من أعمال العنف وأعمال العنف المضادة. فحال ظهور صورة ما في نقطة نائية داخل الجنوب الأميركي أمام مشاهدين يسكنون في أطراف باكستان المعزولة مثل وزيرستان حتى تبادر حشود من سكانها بأعمال عنف واسعة ضد مجموعات تختلف معهم اثنيا أو دينيا أو مذهبيا.

كذلك فقد ساعد تطور حقل “المؤثرات الخاصة” عبر الكومبيوتر  على خلق عوالم افتراضية غير موجودة على أرض الواقع لكنها مندمجة فيه ومتماهية معه إلى الحد الذي يصعب الفصل بينه وبين الواقع الحقيقي.

ووجود هذه الوسائل الإعلامية بيد فئات صغيرة لا تعد إلا بالأصابع مثل روبرت مردوخ صاحب أكبر احتكار إعلامي عالمي.

أتذكر جيدا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر أن لقطة اصطدام الطائرة بمبنى المركز التجاري العالمي قد تكررت مئات المرات خلال وقت قصير على محطة “سي أن أن”، في حين أن العديد من المجازر وقعت قبل ذلك اليوم وبعده لكن الإعلام  الغربي بشكل عام نجح في التعتيم عليها.

يقول الفيلسوف الفرنسي الراحل جان بودريلار في كتابه “حرب الخليج لم تحدث”. إن الحرب قد وقعت لكن الجديد  هو في الطريقة التي قدمت بها للمتلقي، والتي لعبت التسهيلات الضخمة فيها بجمع المعلومات ومعالجتها وتقديمها، إلى الحد الذي يجعلك لا تعرف أماكن وقوع المعارك أو كيف دارت.

هذا النجاح الهائل بتحويل تلك الحرب إلى موضوع تسلية جماهيرية استمر في الحروب اللاحقة سواء في العراق أو ليبيا (خلال شهر القصف الجوي الذي قامت به طائرات الناتو قبل مقتل القذافي)، لكنه في الوقت نفسه تمكن من إضعاف روح المقاومة لدى قطاعات واسعة من الناس أمام هذه القوة القدرية التي تستطيع أن تهدم الجسور والبنايات بدقة مدهشة من على ارتفاعات شاهقة. وهنا دخلت ضمن ثورة تكنولوجيا المعلومات ما عرف بالأسلحة الذكية والطائرات بلا طيار وقدرات التحكم بإصابة الأهداف (وفي حالة وقوع خسائر بشرية عرضا فتسويق مصطلح”أضرار عرضية” collateral damageيساعد على قبولها طالما أن هناك نسبة من الخطأ لا يمكن إزالتها).

لقد وصلت ثمار ثورة تكنولوجيا المعلومات إلى العالم العربي خلال التسعينات من القرن الماضي، وكانت الحرب على العراق (والتي أطلق عليها اسم يشير إلى تكافؤ القوى فيها: حرب الخليج) بداية لتدشينها، وقد توجت بدخول الانترنت في بداية القرن الواحد والعشرين بشكل واسع، وتلاها ظهور شبكات التواصل الاجتماعي مثل “فيس بوك” والتي لم يكن يحلم مبتكرها مارك زكربرغ أن تتحول شبكته( التي انشئت في البدء للتواصل مع الفتيات في جامعة هارفارد حيث كان يدرس)، بعد 4 سنوات على إطلاقها قوة تنظيمية هائلة يجتمع حولها الآلاف ويتبادلون الآراء ويخططون لمظاهراتهم.

من الطريف، أن هذا الابتكار الذي دخل بسرعة هائلة إلى الكثير من مدننا العربية، في مقاهي الانترنت والجامعات والبيوت وعبر الهواتف الجوالة، جعل معظم أدوات المراقبة والرصد التي تملكها أنظمة الكثير من الدول العربية( مع قانوني الطوارئ ومنع التجمع) شبه عاطلة. فإذا كانت الأجهزة الأمنية قد طوِّرت بالدرجة الأولى في الكثير من البلدان العربية لتعقب اجتماعات خلايا الأحزاب السياسية المحظورة، والتنصت إلى ما يدور بين الناس في المقاهي والأماكن العامة، فإن ثمار ثورة تكنولوجيا المعلومات قد جعلت قدرات الأجهزة الأمنية للأنظمة الاستبدادية العربية جزءا من عالم المتحجرات. فبفضل شبكات اجتماعية مثل “فيسبوك” ورسائل الايميل التي تصل إلى الآخرين خلال أقل من ثانية وهواتف الجوال المنتشرة بشكل اخطبوطي بدأت تظهر قوة منظمة لم يكن يحسب لها حساب قبل عقد واحد فقط. ومع بلادة الاجهزة الأمنية وعجزها في تطوير أدوات رقابتها لتتماشى مع  أشكال التجمع والتنظيم الجديدة، بدأت فئات الشباب المتعلم (من أبناء الطبقة المتوسطة) تملك شجاعة ناجمة عن كسر حاجز الخوف الذي كان سائدا بفضل عزل الفرد عن غيره عبر الرقابة والرصد وجعله يشعر بضآلته.

لذلك، كان اختيارا صعبا أمام قوى الأمن والجيش، عند مواجهتها آلافا من المتظاهرين يظهرون فجأة في مكان ما، ومعهم هواتفهم الجوالة المزودة بكاميرات فيديو قادرة على التصوير وتحويلها إلى الانترنت ووكالات الأنباء والفضائيات. ولن تمر سوى دقائق حتى تجد هذه الأشرطة مكانها في العرض عبر محطات بارزة مثل “سي أن أن” أو “الجزيرة” أو “بي بي سي”.

بربط الخيوط السابقة مع ما يمكن تسميته بـ “تأويل” الحدث وإعادة معالجته رقميا، يمكن للمشاهد أن يتابع حدثا جرى في زمان ومكان مختلفين عن الزمان والمكان المزعومين من قبل هذه المحطة أو تلك، من قبل هذه الوكالة أو تلك، من قبل هذا الموقع الانترنتي أو ذاك.

لقد شجع تطور العمل في مجال “المؤثرات الخاصة” إلى صياغة أكثر من حقيقة وأكثر من تأويل لها، وكأننا أصبحنا في غابة من المعلومات يتواصل بثها يوما بعد يوم، ساعة بعد ساعة، دقيقة بعد دقيقة. وقبل أن يتمكن المتلقي من معرفة صحة هذا الخبر المدعوم بالصورة تكون الصورة قد اختفت وحلت أخرى محلها.

هنا يمكننا أن نصل إلى ملمح أساسي من ملامح عصرنا “الرقمي”: حالة الشحن والشحذ العاطفي عبر حاسة البصر، فالتحليل واستخدام أدوات المنطق قد أقصيا جانبا وأصبحت مخاطبة اللاشعور أو الاحساس الأولي، هي السائدة. وحتى إذا اكتشف المرء أن هذا الخبر أو ذلك كان كاذبا فإن ذلك لن يغير شيئا من التأثير العاطفي له، إذ أنه ترسخ في طبقة أعمق من اللاشعور.

عشية  البدء بغزو العراق عام 2003، وصلت نسبة المقتنعين بتورط الرئيس العراقي السابق صدام حسين  في هجمات 11 سبتمبر 2001 إلى 85% من المشاركين باستطلاعات الرأي في الولايات المتحدة. وهذا كان ثمرة عمل دؤوب ظل يقطر ساعة بعد ساعة عبر أجهزة الإعلام المرئية والصحف ووكالات الأنباء بخلق واقع افتراضي آخر لا يمت بصلة إلى الحقيقة، واليوم أطالع خبرا ليس بالغريب: كانت وكالة الاستخبارات المركزية والمخابرات البريطانية على علم بعدم وجود أي سلاح كيمياوي في العراق.

كذلك هو الحال مع تغطية الحراك العربي إعلاميا، تظل أسئلة من نوع: هل هناك دوافع أخرى غير خدمة الحقيقة تقف وراء متابعة مئات الملايين من البشر ساحة التحرير في مصر عشية تقديم حسني مبارك استقالته وتسلم قيادة الجيش دفة الحكم بفضل قناة سي أن أن؟

كانت صور انتحار “محمد بوعزيزي” حرقا قد انتشرت مثل النار في الهشيم متجاوزة حدود الزاوية التي وقع هذا الحدث التراجيدي فيها، عاصفة بالمنطقة كلها، من دون أن يراود أيا منا سؤال لماذا؟ وكيف؟ ولعل أسئلة من هذا النوع ستثار لو كنا ما زلنا محكومين بأسلوب التغطية الإعلامية لما قبل عصر الثورة الرقمية.

أتذكر كيف استقبلنا صورة الراهب البوذي الذي أحرق نفسه في فيتنام احتجاجا على الحرب خلال الستينات من القرن الماضي. وعلى الرغم من قوة الصورة التي جاءت مرافقة للخبر، فإن تأثيرها كان ضئيلا مقارنة بتأثير احتراق بوعزيزي المروع.

(2)          آليات بناء الدولة العربية الحديثة

(أ‌)  تشكل المجتمعات العربية تنوعا مثيرا للدهشة، فهي تتدرج من قبائل بدوية استوطنت الأمصار (أو بنتها) خلال المائة سنة الأخيرة، وهي  ما زالت تحتفظ بأواصرها وعصبيتها القبلية السابقة للأواصر الوطنية، إلى تلك التي نجحت مدنها وأريافها في تذويب  قبائلها وبروز مجتمعات حضرية تقوم على أساس العائلة. فتلك القبائل التي يذكرها ابن خلدون في المغرب العربي مثل لمتونة، وزناتة وصهناجة وغيرها قد انصهرت إلى حد كبير في بوتقة المدن. ولعل تونس تشكل النموذج المثالي في تشكل مجتمع المدينة شبه الخالي من التركيبة القبلية.

على العكس من ذلك نجد أن مجتمعا مثل ليبيا يسوده التركيب القبلي في توزع السكان بين البلدات والمدن، حيث يتجاوز عدد القبائل فيها المائة. في الوقت نفسه، نجد صورتين مختلفتين في الجوهر ما بين المجتمعين السعودي والعراقي. فكما يقول الكاتب السعودي إبراهيم البهيلي: إن الحضارة في العراق هي الأصل خلال قرون طويلة، أما البداوة فيه  فهي العدوان المتكرر على هذا الأصل، تصرفه عن مساره  وتعوقه عن انتظام سيره. وهذا الوضع كانت له نتائج وخيمة على المجتمع العراقي خلال الخمسين سنة الأخيرة.

يكتب ابن خلدون في “المقدمة” أن “الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة”. وهذا واضح اليوم في بلدان مثل ليبيا واليمن، وما يمر به هذان البلدان اليوم دليل على صحة فرضية ابن خلدون، فهو يبرر ذلك لـ  “اختلاف الآراء والأهواء وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبيةُ تمانع دونها، فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها”. كذلك هو الحال مع بلد مثل سوريا حيث تكثر العصائب فيها على شكل طوائف دينية ومذهبية عديدة.

على العكس من ذلك، نجد مجتمعات المغرب العربي(إضافة إلى مصر ذات الأكثرية المسلمة) تتبع مذهبا واحدا هو المذهب المالكي، وهذا عنصر قد ساعد على تحقيق تحول سكان المدن إلى مجتمعات حضرية بمعنى الكلمة، من دون احتكاكات أو صدامات بين شرائح المجتمع المختلفة.

وإذا كانت المجتمعات العربية تشكل معا طيفا واسعا يتدرج في تركيبته من كيانات قبلية وطائفية محض إلى كيانات فردية وعائلية مدينية؛ من حالة بداوة صافية ترفض التقيد بالقوانين والأنظمة (بغض النظر عمن وضعها)، إلى حالة تحضر كاملة، وبين الاثنين هناك تدرج متعدد لحالات تقع ما بين الاثنين. فحسبما يراه عالم الاجتماع العراقي علي الوردي فإن العراق محكوم بقانون الصراع ما بين البداوة والتحضر، ما بين سلطة القبيلة والطائفة وسلطة الدولة التي هي بشكل أو بآخر ستكون متأثرة بالاولى.

ب) وهنا قد يكون مناسبا التوقف عند طبيعة الدولة العربية؛ فباستثاء مصر التي أراد واليها في أوائل القرن التاسع عشر محمد علي باشا بناء دولتها على النمط الغربي، وإرساء مبدأ المواطنة كأساس لها بدلا من مبدأ الملة الذي ساد في الامبراطورية العثمانية، والذي طبق في العراق وبلاد الشام، نجد أن بناء الدولة في معظم المجتمعات العربية الأخرى جاء بعد الحرب العالمية الأولى.  ولعل النسيج المديني لمصر كان مشجعا لتحقيق ذلك المبدأ إضافة إلى أنه يتماشى مع المشروع التنموي الذي كان محمد علي باشا يحلم به بتحويل مصر إلى بلد رأسمالي منتج.

لكن العقبات التي وضعتها بريطانيا بالتعاون مع العثمانيين عرقلت تحقيق هذا المشروع. بدلا عن ذلك جاء الاحتلال البريطاني لمصرعام 1882 ليحول اقتصادها إلى تابع لمقتضيات الصناعة البريطانية.

لقد طرحت التجربة السياسية المصرية نموذجا متقدما في كيفية إدارة الخلافات الداخلية، خلال النصف الأول من القرن العشرين، لكن فشل المشروع التصنيعي جعل المجتمع محكوما بقانون مالتس، القائل إن الزيادة السكانية تسير وفق متتالية هندسية في حين تسير زيادة الانتاج وفق متتالية عددية، وهذه الحالة ستظهر نتائجها الوخيمة على المدينة خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي.

بالمقابل، تأسست الدولة العربية الحديثة، في الغالب، على يد فرنسا وبريطانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد اقتسام غنائم الحرب بينهما. ففي العراق، جلبت وزارة المستعمرات، ابن الشريف حسين، فيصل، وفرضته ملكا، وعلى اساس ما ترك من حطام الدولة العثمانية من جيش وشرطة ودوائر حكومية قليلة، نشأت الدولة العراقية الحديثة، على أساس مبدأ المواطنة (نظريا)، وعلى أساس مبدأ فصل السلطات الثلاث، وتبني قوانين أصبحت جزءا من الموروث الانساني، تهدف إلى ترسيخ مبدأ المساواة بين المواطنين بغض النظر عن دينهم وقوميتهم ومذهبهم.

لكن السعي لفرض دولة مركزية مماثلة لما هو قائم في بريطانيا آنذاك، من دون الأخذ بنظر الاعتبار التكوين القومي والقبلي والطائفي للمجتمع بنظر الاعتبار أوجد بذورا لاحتقانات متكررة لاحقة.

وكأننا أمام فرض نموذج جاء ثمرة تطور تدريجي في الجزر البريطانية خلال أكثر من قرن استنادا إلى أفكار فلاسفة كبار مثل توماس هوبز (1588-1679) وجون لوك(1632- 1704)، رسخوا مفهوم المواطنة وأن الدولة تقوم على أساس قبول الشعب بها، وأن كل السلطات يجب أن تكون “تمثيلية”، إضافة إلى مبدأ فصل السلطات الثلاث. وكلا هذين الفيلسوفين لعبا دورا أساسيا في تطوير نظرية “العقد الاجتماعي” التي أصبحت أساسا للدولة الحديثة. كذلك هو الحال مع المؤسسين الآباء للولايات المتحدة الكسندر هاميلتون وجيمس ماديسون وتوماس جفرسون فهم تبنوا معظم أفكار جون لوك في “إعلان الاستقلال” ثم على صياغة الدستور الأميركي.

حال حصول العراق على استقلاله عام 1932 عن بريطانيا، وسوريا عن فرنسا عام 1946، برزت قوى نشأت ضمن الفترة الكولونيالية لتطوح بالدولة ذات اليمين وذات الشمال، فقادة الجيش الذي تعلموا وتدربوا خلال الحقبة الاستعمارية، أصبحوا غير مكتفين بالامتيازات التي تقدمها لهم مناصبهم، على الرغم من أن أغلبهم من خلفيات اجتماعية فقيرة.

فبين عامي 1936 و1970 وقع في العراق ما يقرب من 10 انقلابات عسكرية ناجحة. ولعل أبرز انقلاب عسكري (يراه الكثير من العراقيين ثورة) كان ذلك الذي وقع يوم 14 يوليو 1958، وفيه تم القضاء على النظام الملكي وتفكيك نظام الانتاج الزراعي الاقطاعي من دون خلق بديل انتاجي آخر سوى الاعتماد شبه الكامل على موارد النفط، وفتح الباب لسلسلة انقلابات أوصلت صدام إلى الحكم بفضل علاقته بقائد آخِر انقلاب عسكري جرى في العراق عام 1968: الفريق أحمد حسن البكر رئيس العراق ما بين عامي 1968 و1979.

أما في سوريا، فالانقلابات العسكرية المتكررة وقرارات النخبة السياسية بالاندماج الكامل بمصر عام 1958 آل إلى وضع كارثي اقتصاديا واجتماعيا انتهى بالانفصال عام 1961 إثر انقلاب عسكري قاده المقدم عبد الكريم النحلاوي. وما بين هذا العام وعام 1970 جرى انقلابان عسكريان، أوصل آخرهما حافظ الأسد إلى سدة الحكم.

لعل من المناسب الوقوف قليلا عند طبيعة الدولة والنظام اللذين سادا قبل قدوم الربيع العربي، وطبيعة العلاقة بينهما، وهنا قد يكون استحضار ابن خلدون مساعدا لفهم تلك الطبقة اللاشعورية التي ظلت راسخة لدى الزعماء العرب في معنى الحكم حتى بعد مضي أكثر من ستة قرون.

(ج) تقوم نظرية نشوء الدولة لدى ابن خلدون على مبدأ العصبية القبلية، وتأثير هذا العامل يكون أقوى إذا تزاوج مع رؤية دينية جديدة، مثلما هو الحال مع حركة الموحدين وقبائل المصامدة في المغرب. ويضع ابن خلدون عمرا لتلك الدولة التي تقوم على أكتاف قبيلة سحنتها قسوة العيش في البادية وصلّبت من عودها، وفي الجيل الأول تكون هذه الدولة قوية لصلابة العصبية بين أبنائها وعدم بروز تمايز كبير بين الملك وحاشيته وأبناء جلدته. فالهدف من إقامة الدولة لا لإرضاء الرعية المغلوب على أمرهم بل التمتع بما يجنيه المنتصرون من خراج وغنائم مقابل توفير الأمن والاستقرار لهم، لكن هذا التقارب بين الحاكم وأبناء قبيلته يبدأ بالانحسار في الجيل الثاني، مع زيادة التنافس بين المقربين من الملك، ورغبة الأخير باحتكار المجد لنفسه. وهنا يظهر الاستبداد الفردي بأفضل أشكاله. وفي الجيل الثالث تختفي العصبية تماما ويغرق الملك وحاشيته بالملذات وطيب العيش ودعته، ولحماية حكمه يبدأ بالاعتماد على الأجانب لحماية دولته مثلما حدث في الدولة العباسية ابتداء من عهد الخليفة المعتصم بالله حين اعتمد على قبائل تركية، وتلاه الخلفاء الورثة معتمدين على الديلم والسلاجقة وغيرهم، حتى تأتي قبيلة أخرى أو تحالف من القبائل بعصبية جديدة من البادية فتطيح بتلك الدولة مثلما حدث في بغداد عام 1258 عندما تمكن المغول من تدمير الدولة العباسية وقتل الخليفة، الذي كانت سلطته آنذاك شكلية تماما.

يمكن القول إن تاريخ الديمقراطية على الصعيد العالمي لا يعدو أن يكون فصلا من مجلد كبير يستند إلى الاستبداد، فالحكم الذي يقرره الشعب بنفسه هو ابتكار بشري، جاء في أعقاب كوارث تسببت فيها أنظمة الاستبداد الفردي أو الأوليغاركي. وجاء ظهور أول تجربة في أثينا ابتداء من منتصف القرن الخامس ما قبل الميلاد وحتى سيطرة المقدونيين عليها عام 322، وما ساعد على تحقق هذا النظام هو غلبة الطابع الصناعي والتجاري على حياة المدينة فتحولت، كما يقول أرنولد توينبي في كتابه مختصر دراسة التاريخ، على المستوى السياسي من نظام ارستقراطي يقوم على المنبت إلى نظام بورجوازي يستند إلى الملْكية.  مع ذلك فإن ديمقراطية اثينا لم تتضمن انتخاب الممثلين عن الشعب بل مشاركة قطاع واسع من الناس في التصويت المباشر على القرارات بشكل مباشر.

أما تجربة الحكم الديمقراطي الثانية فقد ظهرت في بعض المدن الايطالية خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، مع غلبة الطابع الصناعي والتجاري فيها، مثل ميلانو وبولونيا وفلورنسا وفنيسيا، بعد عدولها عن نظام الإقطاع السائد في الغرب آنذاك إلى نظام جديد يقوم على العلاقات المباشرة بين المواطنين الأفراد والحكومات المحلية التي تكسب سيادتها من المواطنين أنفسهم.

ويأتي الفصل الثالث لبروز الديمقراطية ببريطانيا في القرن السابع عشر، مستندا إلى جملة أفكار طورها مفكرون كبار مثل هوبز ولوك، ومن بينها فكرة المواطنة والمساواة بين المواطنين، والمجتمع المدني والحكم على أساس مبدأ قبول الشعب بالحاكم، ومبدأ العقد الاجتماعي الذي طوره لاحقا جان جاك روسو ليكون أساسا قامت عليه الثورة الفرنسية.

لكن هذا التحول ما كان ممكنا تحققه من دون وقوع تحول اقتصادي كبير في بريطانيا وانصهار مقاطعاتها بنظام مركزي قوي والعزلة الجغرافية التي وفرت لها أمانا من أي غزو أجنبي بفضل أسطولها البحري القوي. يقول أرنولد توينبي في كتابه مختصر دراسة التاريخ : “أتاح الابتكار الإنجليزي السياسي المتمثل في الحكومة البرلمانية وضعا اجتماعيا يناسب الابتكار الانجليزي الخاص بالاتجاه الصناعي. فإن الديمقراطية بمعنى نظام حكومي تصبح فيه السلطة التنفيذية مسؤولة أمام برلمان يمثل الشعب، والاتجاه الصناعي بمعنى أنه نظام يتضمن الانتاج الآلي بأيدٍ تتجمع في المصانع، هما النظامان المسيطران في عصرنا. ولقد قدر لهما أن يسودا العالم بما يتيحانه من خيرة الحلول التي أمكن للمجتمعات الغربية العثور عليها، لمشكلة تحوير مأثرة ثقافة المدينة الايطالية السياسية والاقتصادية، من المدينة إلى مجال الدولة الملكية. ولقد تحقق كلا هذين الحلين في إنجلترا”في ذلك القرن.

قبل الوصول إلى النظام الديمقراطي في بريطانيا هناك تاريخ فاجع يمتد عدة قرون وفيه كانت الصراعات على المْلك دموية، عكستها بشكل رائع بعض مسرحيات شكسبير، كذلك كان الصراع ما بين الملك وسلطة المندوبين عن أصحاب الأطيان قاسيا تخللته فتن أهلية ومعارك.

وكأن ولادة الدولة الحديثة التي تسير بآلية ذاتية أشبه بحركة الكواكب حول الشمس حيث تحكمها قوانين ذاتية تتمثل بقانون القوتين الطاردة والجاذبة، فانطلاقا من حكم ملكي مستبد تنشأ الدولة وتسير بأوامر الحاكم أولا، ومع مرور الوقت يتنامى موظفوها  وكأنهم براغٍ وعتلات داخلها، لحماية حكمه واستقطاع الضرائب لصالحه، وثانيا توفير الأمن لرعيته، وثالثا فض الخلافات المدنية بينهم، لكنها تصل إلى جهاز حي يسيّر نفسه بنفسه، بغضّ النظر عمن يحكم. هنا يبرز التمايز ما بين السلطة والدولة. الأولى تسيّر الثانية لتحقيق أهدافها لكنها مؤقتة، في حين أن الثانية مسيَّرة من قبل أي سلطة منتخبة لكنها دائمة.

عند النظر إلى البلدان التي كانت تحت الانتداب(أو الحكم المباشر)  البريطاني أو الفرنسي، نشأت دولها أولا لتلبية احتياجات المحتل في توفير الأمن والتمكن من ربطها اقتصاديا عبر جعلها تابعة. كذلك فإن الفترة القصيرة التي مرت على تأسيس الدولة لم تسمح لأجزائها المختلفة أن تلتحم بعضها ببعض لتشكل جسما متناسقا يتحرك لوحده من دون تدخل قوة خارجية.

وهنا نستطيع تلمس حقيقة أن هذه الدول عند استقلالها كانت تعاني من فقر دم شديد بمفاهيم أصبحت أساسا أوليا للدول الغربية مثل “المجتمع المدني” و”العقد الاجتماعي” ومبدأ المساواة بين المواطنين، وأن وجود الحاكم في سلطته مرهون بقبول المواطنين به.

وقد سمح نظام الانتخاب المتتالي للعديد من البلدان الأوروبية بفصل ما يمكن تسميته بمؤسسات الدولة والحكومة التي لا تشكل إلا طبقة رقيقة فوق سطح الدولة وتضم الوزراء ونوابه، وحال خسارة الحزب الممثل لهؤلاء الوزراء المنتخبين ومساعديهم ينسحبون من الدولة من دون أن يتركوا أثرا على آلية عملها. هذا النظام سمح للبلدان بالتخلص من الاحتقانات الناجمة عن عدم الرضا بأداء هذا الحاكم أو ذاك من خلال الانتخابات المنتظمة، وحتى لو كان البديل ذا سياسة مشابهة للأول فإن التبدل يمنع تراكم الفساد وسيادة الطغيان. فالسلطة، كما قال المؤرخ  البريطاني جون ادبرغ (1834-1902) تميل إلى الإفساد، أما السلطة المطلقة فمفسدة بشكل مطلق.

بالنسبة للبلدان العربية ما بعد الاستقلال، كانت الصفة الأساسية المشتركة بينها هو الحاكم المطلق سواء كان ملكيا أو رئاسيا. فليس هناك من فترة  قصوى لحكمه، وبذلك أصبحت الدولة تقتدي بالنموذج موضوع دراسة ابن خلدون في كتابه “المقدمة”.

ولعل ذلك يعود إلى هزالة سمك الدولة ومؤسساتها وعدم وصولها إلى حالة الحركة الذاتية لقصر فترة عمرها، إضافة إلى  هزالة المجتمع المدني بمؤسساته التجارية والصناعية والخيرية والخدماتية والمالية، إنه مجتمع ما زال في طور النمو، وهذا ما يعطي الحاكم شعورا بأن وجوده “ضرورة” تاريخية. ولتحقيق ذلك، يؤسس أو يجلب معه إلى الحكم حزبه السياسي، ومع مرور الوقت وتزايد انتزاع الحاكم المجد لنفسه، وتهميشه للقياديين الآخرين في حزبه، يقع الانشقاق بين الطرفين، فيدفع هؤلاء ثمن مخالفتهم للزعيم المفدى. بالمقابل يسعى الأخير مثلما هو الحال مع الملوك الذين يصفهم ابن خلدون، بالالتجاء إلى شرائح أخرى، هم من أبناء قريته السابقين أو عشيرته أو أبناء طائفته ، وفي حالة غياب طرف يحميه سينتهي به المطاف، مثلما هو الحال مع الدول التي فنيت، والتي وصفها ابن خلدون، بعد قدوم قوة بدوية جديدة ناهضة، وفي عصرنا هذا يكون هذا الحاكم الجديد ضابطا تربى على يد الحاكم السابق لكنه قرر أخيرا، وهذه هي الحال في العراق حين قام عبد الكريم قاسم بانقلابه على الحكم الملكي وقتل رئيس الوزراء السابق الذي كان يتوسم في مرؤوسه الذكي خيرا جزاء ما قدم له من دعم. نستطيع اليوم  تلمس غياب حزب يحمل رؤية مستقبلية قادرة على كسب قطاع من الشعب، مثلما هو الحال مع بورقيبة في تونس وعبد الناصر في مصر. بدلا من ذلك أصبح الحاكم مندمجا بكتلة من رجال الأعمال، يلعبون دور الوسيط بين الشركات الأجنبية والمحلية مقابل عمولة ما. بالمقابل، التخلي تماما عن مشاريع التنمية التي ميزت العهود الأقدم لأسلافهم، وهذا هو الحال في مصر وتونس.

كذلك، فإن كل عنصر من عناصر اللعبة الديمقراطية، يتم تفريغها من جوهرها مثل الانتخابات المنتظمة ومبدأ تداول السلطة وحق التفكير والتعبير.

حالة الاختناق والضآلة التي شعرت بها قطاعات متعلمة واسعة وراء الحراك الشعبي الواسع. فالفساد الذي تراكم عقدا بعد عقد بسبب تعمق الفساد المطلق الناجم عن السلطة المطلقة، أصبح عائقا جذريا أمام أي شفاء لجسم المجتمع الحي.

لكن هذه الجموع المتذمرة كان يحركها اتجاهان ظلا قائمين داخل المجتمعات العربية منذ أوائل القرن العشرين:  إنهما اتجاها “المستقبلية” و”السلفية”.

(3)          الحركات المستقبلية والسلفية

جاء صعود الحركة القومية التركية في أواخر القرن التاسع، وتخليها عن الإطار الديني الذي كان يجمع كل البلدان الواقعة تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، دافعا لأولئك الضباط العرب ( خصوصا العراقيين) الذين يخدمون داخل الجيش العثماني ليطمحوا هم أيضا بدولتهم العربية الموحدة. وما دفعهم على البدء في نشاطاتهم بهذا الاتجاه ما كانوا يرونه من زملائهم الأتراك سواء في الكليات العربية أو الميادين العسكرية من افتخار الأخيرين بشخصيات يعتبرونها من أسلافهم مثل هولاكو وجنكيز خان في حين كان الضباط العراقيون يرونها سببا في دمار العراق وتخريبه، إذ جاء سقوط الدولة العباسية على يدي هولاكو، وعلى يديه تم تدمير صروح الثقافة والعلوم في هذه المدينة التي كانت أم الحواضر الإسلامية آنذاك. لذلك، لم يكن غريبا أن يصطف العديد من هؤلاء الضباط مع الشريف حسين في ثورته ضد العثمانيين، ظنا منهم أن بريطانيا  ستوفي بوعدها بتكوين دولة عربية في منطقة الجزيرة والهلال الخصيب.

وجاء انكشاف معاهدة سايكس- بيكو بعد الحرب العالمية الأولى صدمة كبيرة لتلك القوى التي اصطفت مع بريطانيا وقاتلت ضد العثمانيين؛ فبدلا من الدولة الموحدة قسمت تلك المنطقة ما بين فرنسا وبريطانيا، تحت يافطة “الانتداب”، وجاء معه وعد بلفور بإنشاء دولة يهودية في فلسطين دافعا آخر لبروز التيار القومي العربي كحركة سياسية تجسدت في أحزاب سياسية هدفها الأساس هو تحقيق الوحدة العربية الشاملة.

انطلق الكثير من دعاة الوحدة العربية سواء كانوا سياسيين أو تربويين أو مؤرخين من فكرة أن العالم العربي كان موحدا خلال العهدين الأموي والعباسي، ولا بد أن إسقاط صورة ذهبية لتلك الحقبة، بما تحقق من تقدم علمي وثقافي وصناعي قد ساهم في تطور الفكر القومي العروبي في بلدان مثل سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والأردن.

يعرّف المؤرخ آرنولد تويني السلفية بأنها اتجاه يسعى إلى إحياء لحظة من الماضي بإسقاطها على الحاضر. وهي تأخذ أشكالا مختلفة في السياسة واللغة والفن والعمارة والثقافة. وغالبا ما تظهر حين يعيش مجتمع ما أزمة عميقة، وحالة من الاضطراب وشعورا عميقا بالقنوط.

من الأمثلة التي يذكرها مؤلف “مختصر دراسة التاريخ”  عن السلفية، ظاهرة عودة النمط القوطي في العمارة إلى أوروبا خلال القرن التاسع عشر، كذلك كان قرار كمال أتاتورك بمنع استخدام المفردات العربية والفارسية خارج البيوت، نوعا من السلفية اللغوية التي أجبرت  اللغويين الأتراك على المضي بحثا عن كلمات ماتت منذ قرون في معاجم قديمة للتعويض عن كم هائل وثري من المفردات العربية والفارسية. وقد اضطروا إلى التنقيب حتى في السجلات الصينية الملكية التي تعود إلى قرون عديدة بحثا عن مفردات تركية نقية.

بالمقابل كان أتاتورك مستقبلياً، حين منع ارتداء القبعات التقليدية في تركيا وفرض على الجميع ارتداء القبعات الغربية ذات الحافة مع منع ارتداء الحجاب أو غطاء الرأس بالنسبة للنساء.

لذلك فإننا نجد في شعارات حزب قومي برز كرد فعل على هذا المأزق مثل حزب البعث توجهين متعارضين: سلفي ومستقبلي في آن. فشعار الوحدة العربية سلفي في جوهره في حين شعار الاشتراكية مستقبلي في توجهه.

كذلك فقد ظهرت الحركات الماركسية في العالم العربي، وهي ذات توجه مستقبلي يسعى إلى إسقاط صورة متخيلة عن مجتمع اشتراكي أو شيوعي لم تمر به البشرية من قبل على حاضر متناقض باقتصاده وثقافته وذائقة أبنائه.

ومع الفشل الذريع في تحقيق ما وعدت به هذه الحركات سواء القومية أو الشيوعية أو ما بينهما، جاء صعود قوى ذات توجهات سلفية أخرى. فعلى يد الأحزاب القومية العربية تعمقت الحواجز بين الدول التي حكمتها هذه الأحزاب مثل العراق وسوريا، أكثر بكثير مما كانت عليه قبل ذلك، خصوصا في مجالات حيوية ناجمة عن التجاور مثل التجارة والحدود المفتوحة.

كذلك جاء انهيار التجربة الشيوعية المدوي في أواخر القرن العشرين ليثبت بشكل قطعي أن المشاريع المستقبلية الكبرى التي تنطلق خارج الحاضر ستحفر قبرها بيديها. فاليوم، أصبحت رفاة القيصر الروسي الذي اغتيل بعد ثورة اكتوبر 1917 في روسيا أهم ضريح في بطرسبورغ، وأصبح هو وأفراد أسرته من القديسين.

يقول توينبي معلقا: “لا تختلف المستقبلية عن السلفية إلا في ناحية الاتجاه ، أي فوق تيار الزمن أو تحته، وفي هذا الاتجاه تدبر النزعتان سبيل انفلاتهما من مأزق قائم. إلا أن المستقبلية تذهب أبعد من السلفية في حملتها ضد الطبائع البشرية. فإن من طبائع البشر الأصلية الفرار من الحاضر، بإنجاز وسيلة الانسحاب إلى ماض مألوف، ولكن الطبيعة البشرية أشد ميلا إلى التشبث بحاضر مكروه منها إلى المجازفة في مجاهل المستقبل”.

لذلك فإن الجهد النفساني المبذول في حالة المستقبلية، حسب رأي توينبي،  أقوى بشكل واضح منه في حالة السلفية، وغالبا ما تصبح المستقبلية نزعة رد الفعل التالي لتلك النفوس المتحفزة التي سبقت لها تجربة السلفية، فخاب أملها.

مع ذلك فإن العكس قابل للتحقق: بعد الثورة الإيرانية عام 1979 تحول  عدد لا يستهان به من المثقفين الشيوعيين إلى  أحزاب الإسلام السياسي (بفرعيه السني والشيعي).

لعل من المجدي إجراء مقارنة سريعة بين ما أنتجته المستقبلية في تركيا والسلفية في إيران، وهاتان الدولتان ظلتا، على عكس معظم البلدان العربية إن لم تكن كلها، خلال كل تاريخهما خارج السيادة الأجنبية، مع وحدة وتماسك بنائهما سواء الجغرافي أو السكاني.

ابتداء من عام 1923 مضى مؤسس دولة تركيا الحديثة، كمال أتاتورك  بتنفيذ مشروع الحركة الإصلاحية،  التي ظهرت  داخل الرجل المريض: الإمبراطورية العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر، إلى أقصى مداه. سعيا للخروج من جلد الماضي والتحول إلى بلد أوروبي غربي. فإضافة إلى فرض الملابس الغربية على المواطنين الاتراك ألغيت الأبجدية العربية المتبعة حتى ذلك الوقت، وبذلك تم حرق التراث الثقافي المكتوب من دون استخدام أي نار مثلما حدث عند وصول النازية إلى ألمانيا عندما أحرق هتلر الكثير من الكتب ضمن طقوس علنية.

لكن هذا المشروع المستقبلي الذي تضمن قدرا من القسر راح يهتز اليوم مع صعود الإسلام السياسي في تركيا.  فكأن قانون الفعل ورد الفعل الفيزيائي راح يفرض نفسه على الحالة التركية.

بالمقابل نجد أن السعي للعودة إلى مجتمع ينتمي إلى القرن السابع الميلادي باعتباره نموذجا قابلا للتقليد، بنسخة تتآلف مع الحاضر، لم يصل إلا إلى صورة هزلية أفقد معها السلطة الروحية السابقة لرجال الدين في إيران على قطاعات واسعة من أبناء الطبقة المتوسطة الإيرانية.

فإذا كان فرض الحجاب في إيران قد خلق رفضا عميقا له وسط النساء، فإن منع الطالبات من الذهاب إلى مدارسهن بحجاب كان له تأثير مشابه ومعاكس في تركيا: انتشار ظاهرة الحجاب بشكل واسع في تركيا اليوم.

عند النظر إلى الربيع العربي، أستطيع أن أرى موقفا مستقبليا تبنته شرائح ليبرالية من الشباب المتعلم (ذي الأصول المدينية والمتوسطة) يتمثل في القطيعة مع النظام الحالي، ورفض التحاور معه، مثلما حدث في دول أوروبا الشرقية في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث أثمرت “الثورة البنفسجية” في جلوس طرفي السلطة وائتلاف المعارضة حول الطاولة المستديرة، والذي حقق تغيرا سلميا في بلدان مرت بأنظمة استبدادية لا تقل استبدادا عما هو قائم في العالم العربي، مثل بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وألبانيا وبولندا، في الوقت نفسه، غيرت الأحزاب الحاكمة أسماءها وبقيت تمارس حياتها السياسية وتمثيلها لشرائح معينة من المجتمع.

يمكن تحديد ملامح الموقف المستقبلي للشباب الذي استفاد كثيرا من ثورة تكنولوجيا المعلومات في تنظيمه وحركته بإسقاط النظام تماما، ففي مصر وبعد النجاح في إقصاء حسني مبارك والشريحة المحيطة به، على يد قادة الجيش، استمرت الحركة الشبابية بالعمل لإسقاط القيادة العسكرية، وفتح الباب لحركة ذات توجه سلفي، سبق لها أن ناضلت ضد الدولة المصرية عبر أكثر من 8 عقود، تارة بالعنف وتارة أخرى بوسائل سلمية. وهي بقدرتها على البقاء، ونجاحها في تنظيم جهاز تنظيمي متماسك وفعال، استطاعت أن تكسب قطاعا واسعا من الفئات الشعبية ذات الخلفية الريفية. ومثلما كان الشيوعيون الثوار يرفضون النظم السياسية الحالية باعتبارها تمثل “ديكتاتورية البورجوازية” وأن ليس هناك شرعية سوى الشرعية الثورية المتأتية عن طريق الثورة، فإن حركة الأخوان المسلمون تنطلق من منظور رسخه سيد قطب في كراسه “معالم في الطريق”، وهو أننا نعيش في “جاهلية” وعلى المسلم أن يعمل للعودة إلى نموذج النظام السياسي الذي ساد في المدينة المنورة خلال القرن السابع، بعد إسقاط صورة متخيلة عليه.

وهكذا وجدنا أنفسنا بين حركتين إحداهما مستقبلية تهدف إلى هدم البيت ثم البدء ببنائه من الصفر، وأخرى تريد استخدام لعبة الانتخابات البرلمانية لتثبيت سلطتها وابتلاع مؤسسات الدولة المحايدة.

استنتاجات

لعل السؤال الذي يدور في الذهن عند أخذ هذه العناصر الثلاثة حول مستقبل الربيع العربي هو:

هل ستتحول البلدان التي كانت مركز الزلزال إلى نظام ديمقراطي تداولي، تكون السلطة فيه نابعة من اختيار الناخب؟ نظام يلعب دور الحكم بين القوى ذات المصالح المتعارضة؟

لتحقيق ذلك، سيكون ضروريا التخلي عن مبدأ العصبية الذي نجح في إبقاء الأنظمة من خلال توفير قدر من الامتيازات (على ضآلتها) لأعضاء حزب أو طائفة أو قبيلة، أو من خلال حماية قوة عسكرية أجنبية.

حينما يصبح الحزب مبنيا على أساس برنامجه السياسي وما يمثله من مصالح قطاعات واسعة من المواطنين خارج انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقبلية والعرقية ستكون العصبية في طريقها للاختفاء.  ومعها سيتحول المجتمع من بنائه العمودي السائد اليوم إلى بناء أفقي يكون صوت الناخب أقوى أداة للتغيير ضمن إمكانيات الحاضر لا قفزا عليه سواء إلى الماضي أو المستقبل.

وهنا ننتقل إلى التوجهات السلفية والمستقبلية. يبدو لي أن الأحزاب ذات التوجه المستقبلي (الأحزاب الماركسية عموما) قد أوشكت على الاختفاء، بالمقابل هناك تصاعد في نفوذ القوى ذات التوجه السلفي، وهذه تتمثل في أحزاب الإسلام السياسي. وكما لاحظنا فإن كلا التيارين شموليان على مستوى الآيديولوجية، وهما بالقدر الذي يتحركان استجابة للحاضر فهما مدفوعان بمبدأ إسقاط صورة وهمية من الماضي على الحاضر أو صورة مشوشة من مستقبل غامض، وكلا التيارين يؤمنان بشكل مطلق بصواب تفكيرهما وأن ليس هناك طريقة لتحقيقه على أرض الواقع من دون الاستيلاء على الدولة، وتفريغها من طبيعتها المحايدة سياسيا.

وهنا نكون قد دخلنا في دوامة جديدة سبق أن عاشتها الشعوب العربية مرارا أو قد تكون أسوأ.

العتلة الثالثة: الدور اللاحق لثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ خصوصا وأن هذا التواصل المباشر بين قطاعات واسعة من الناس في بلدان وثقافات مختلفة قد خلق أذواقا مختلفة وجعل الشاب اليوم أكثر ارتباطا بحاضره وأقل انشدادا لماض بعيد أو مستقبل مجهول.

كيف سيكون موقف القوى التي وصلت إلى السلطة في البلدان التي عاشت الربيع العربي كاملا من هذه القوة المتصاعدة التي راحت تستقطب أعدادا كبيرة من الناس باتجاهات مختلفة ولكنها في الوقت نفسه وفرت فرصا للتواصل وتبادل المعلومات والآراء بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ المنطقة العربية؟ هل سيتم إلغاؤها أو ترويضها بالشكل الذي تفقد قدرتها على توليد وتعميق الحوار القائم اليوم بين ملايين المجهولين في العالم العربي؟

إن غدا لناظره قريب.

____________________________________

*روائي عراقي مقيم في لندن. صدرت له رواية بعنوان “كوميديا الحب الإلهي” عام 2008.

اقرأ ايضاً