الطريق إلى جهنم معبّد هو الآخر بالنوايا الحسنة

2٬904
الطريق إلى جهنم معبّد هو الآخر بالنوايا الحسنة
لؤي عبد الإله GMT 10:15 2011 الأحد 1 مايو
ماذا تريد المعارضة السورية تحقيقه: النموذج التشيكي أم النموذج اليوغوسلافي؟
السير نوماً أو كما يسميها البعض بـ “السرنمة” تقليدا لكلمات مثل “البسملة” أو “الحوقلة”. ومجازا تعني سياقة سيارة بدون كوابح نزولا على طريق جبلي لا أحد يعرف ماذا تخبئ انعطافاته من حفر وفجوات وانزلاقات لركابها، خصوصا مع غياب خارطة صادقة تكشف عن أسرار هذا الطريق.
كذلك، فإن السير نوما يتطلب غياب الذاكرة التي تجعل الشخص المصاب به قادرا على الاستفادة في حركته من تجاربه أو تجارب الآخرين السابقة.في الكثير من تلك اللحظات التاريخية الحرجة تصبح السرنمة ظاهرة واسعة. تذكروا كيف كان المحافظون الجدد الذين تسلموا الحكم في الولايات المتحدة متفائلين من نتائج غزوهم للعراق باعتباره نزهة ستحقق لهم ولحليفتهم الاستراتيجية إسرائيل ما يأملونه بأقل الخسائر. وها نحن في عام 2011 نرى كم أن الإدارة الأميركية الحالية حريصة على سحب قواتها بأسرع ما يمكن من العراق وبأقل ما يمكن من فقدان ماء الوجه بعد خسائر فادحة في الأرواح.بالمقابل، علي التذكير بمدى دخول المعارضة العراقية في الخارج (أو الجزء الأكبر منها) بنفق السير نوما حين اصطفت مع المشروع الأميركي (مثلما يحدث اليوم مع تلك المنظمات المعارضة السورية في واشنطن وباريس ولندن) من منطلق أن التحالف مع الشيطان مشروع إذا كان ذلك يؤدي إلى التخلص من نظام شمولي قاد البلد إلى حروب كارثية حصدت أجيالا من أبنائه وأوصلت البلد إلى حالة خراب مادي وروحي شبه مطلق.
وبالفعل، نجحت وزارة الخارجية الأميركية باستقطاب عدد من المثقفيين العراقين المقيمين في المنفى لتستفيد منهم ضمن مشروعها اللاحق: غزو العراق وتدمير الدولة العراقية تحت تسمية “إسقاط النظام”. من جانب آخر، تبنت مؤسسات أميركية وبريطانية كل الجهود الهادفة إلى تجميع العديد من القوى العراقية الموجودة في الخارج في أطر شبه تنظيمية غلب عليها الطابع الطائفي- الاثني.

لقد ظن الكثير من المثقفين العراقيين الذين شاركوا في “المغامرة الأميركية” أنهم سيسهمون في بناء دولة علمانية ديمقراطية يحكمها دستور عصري ويتم تداول السلطة فيه. كل ذلك من دون الانطلاق مما هو قائم على الأرض: أي مؤسسات الدولة العراقية بأجهزتها العسكرية والأمنية والمدنية، ولذلك لم يجدوا ضيرا حين أصدر الحاكم المدني الاميركي بريمر أول قرار له لدى وصوله إلى بغداد بحل الجيش العراقي.

وإذا كان قرار حل الجيش العراقي حسبما جاء في كتاب الجنرال انتوني زيني رئيس أركان القيادة العسكرية الوسطى للولايات المتحدة ” الاستعداد للمعركة” Battle Ready هو تلبية لمطلب إسرائيلي بحت فإن قرار إخراج أعداد كبيرة من مؤسسات الدولة من حرفيين وخبراء تحت طائلة اقتلاع البعث أدى إلى تعطيل عمل مؤسسات الدولة الخدمية بشكل قاتل، وفي نفس كتابه ذكر زيني أن الكثير ممن شملتهم سياسة اقتلاع البعث انتموا إليه لضمان ترقيتهم ضمن السلم الإداري للوظيفة.
بالمقابل، وجد الكثير من هؤلاء المثقفين العراقيين أن أحلامهم وطموحاتهم الشخصية قد ذهبت أدراج الرياح، وما برز مع تحقق الفراغ الأمني وغياب القانون والنظام هو دخول الأعداد الكبيرة من الناس تحت حماية المجاميع المتطرفة الصغيرة ذات الطابع الطائفي وهذه بدورها نجحت في تصعيد المواجهات الطائفية من خلال مهاجمة الأماكن المقدسة للطرف الآخر.

لقد انتهى الأمر بالعراقيين إلى أنهم بدلا من أن يتعاملوا مع طاغية واحد أصبح عليهم أن يتعاملوا مع طغاة صغار كثيرين. وبدلا من أن يكون القمع ذا اساس سياسي أصبح واسعا على شتى الخيارات الشخصية، ابتداء من طريقة قص الشعر، وانتهاء بالملابس التي ترتديها النساء. وكان الثمن الذي دفع مقابل ذلك قتل الكثير من النساء في مدن مثل البصرة لعدم ارتدائهن الملابس “المحتشمة”، ومع غياب القانون تعرض البلد إلى كارثة فقدان أفضل كوادره من أطباء وعلماء وخبراء إما غدرا أو لمغادرتهم العراق إلى الأبد.
أسمع الكثير من المعارضين السوريين المقيمين في الخارج يقولون إن حركة الاحتجاج السائدة في سوريا الآن هي ذات طابع وطني يتجاوز الطوائف والاثنيات. لعل ذلك صحيح. لكنني اتخوف من أن من سيقرر المستقبل في بلد مثل سوريا هو ليس الأغلبية وما تريده بل تلك الأقليات الصغيرة والمتطرفة التي ستركب الموجة لاحتلال القيادة من خلال أعمال قتل مروعة لأفراد بارزين من هذه الطائفة أو تلك مثلما حدث في العراق ومثلما حدث في البوسنة ومثلما حدث في لبنان والجزائر وغيرها، لتدفع نحو حرب أهلية قصيرة او طويلة المدى لكن ما تتركه من آثار مخربة لروح الشعب ستحتاج إلى أجيال عديدة لتندمل، هذا إذا لم يترتب عليها نشوء دويلات شبيهة بتلك التي تشكلت في البوسنة والهرسك بعد سقوط المعسكر الاشتراكي في أوائل التسعينات من القرن الماضي.

لم يعرف العراق منذ نشوء دولته عام 1921 أحزابا دينية أو طائفية حتى عام 2003. وظل قادته وأعضاؤه في أغلب الأحيان من فئات اجتماعية شتى. فحزب الاخاء الوطني الذي تأسس عام 1931 يترأسه شيعي وسني هما جعفر أبو التمن وياسين الهاشمي، وكان فؤاد الركابي أول زعيم لحزب البعث الذي تأسس في أوائل الخمسينات من القرن الماضي شيعيا من مدينة الناصرية. في الوقت نفسه كان يوسف سلمان مؤسس الحزب الشيوعي العراقي مسيحيا. لذلك فإن بروز الأحزاب الطائفية بعد الغزو الأميركي للعراق كان خرقا كاملا لمسار الحياة السياسية في العراق الحديث، وأخطر ما ترتب عليه هو حالة التشرذم على أساس طائفي لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، ومعها شلت خدمات الدولة بشكل مفجع وحلت محلها مافيات طائفية أو اثنية ترتبط بهذا الحزب أو ذاك، وهنا أصبح أقارب أعداد هائلة من الشخصيات البارزة تحتل الوظائف على أساس المحسوبية بدلا من أن تكون محصورة بعائلة وأقارب طاغية واحد.

مما حدث في العراق خلال السبع سنوات الأخيرة، أظن أن أخطر ما ترتب عليه الغزو الأميركي للعراق هو تدمير تلك اللحمة التي تجمع أبناء البلد الواحد من شيعة وسنة ومسيحيين وغيرهم. فبغداد التي تشكل العائلات المسلمة ذات الاختلاط المذهبي فيها أكثر من 50% قد وجدت نفسها ضمن انقسام طائفي لم يعرف له مثيل في ذاكرة عدة أجيال من العراقيين الأحياء.

خلق انهيار النظام السوفيتي من الداخل مناخا جديدا في شرق أوروبا لا مكان فيه للانظمة الاستبدادية (مثلما هو الحال الذي يعيشه العالم العربي اليوم)، لذلك جاء تشكل ما عرف آنذاك باسم “المنتدى المدني” CIVIC FORUM في تشيكوسلوفاكيا متساوقا مع مسار الأحداث وجمع هذا الكيان وجوها بارزة ومنظمات شعبية كثيرة يجمعها هدف واحد: تحقيق الديمقراطية بوسائل سلمية ومعارضة العنف. ولعب رئيس هذا التجمع الكاتب المسرحي المنشق فاكلاف هافل دورا مساعدا على إيجاد الحل الوسط وتحقيق المصالحة بين الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي الحاكم والفئات الشعبية المعارضة. ففي الحكومة الائتلافية الأولى شارك الشيوعيون فيها. وساعد انتخاب شخصية ليبرالية وانسانية مثل هافل لمنصب رئيس الجمهورية عام 1990، على قطع الطريق أمام الانجراف في طريق الانتقام، فقد أكد في العديد من خطبه أن الجميع يتحملون مسؤولية ما وقع من تجاوزات لحقوق الانسان خلال فترة الحكم الشيوعي الذي امتد لأكثر من أربعين سنة.

بإجراء مقارنة ما بين سوريا اليوم ودول شرق أوروبا عشية وقوع التغيير في تركيبة سلطاتها، نجد عدة نقاط متشابهة. فإذا كان غورباتشوف قد أعلن عن سياسة “البيروسترويكا” عام 1987 والتي آلت إلى إصلاح الأنظمة “الاشتراكية” من “استبدادية” إلى “ديمقراطية”، فإن هناك شوطا كبيرا سبقه، وجرى خلاله تفكيك بطيء للديكتاتورية في هذه الدول. فبعد موت ستالين عام 1953 وانتقاد خروشوف الشهير لسلفه عام 1956 بدأت صفحة جديدة، استردت بها هذه الدول أنفاسها من سطوة الأجهزة الأمنية والمخابراتية المطلقة على الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وبفضل تراكم هذا الانتزاع البطيء للحقوق الشعبية من أنياب هذه الأنظمة توفرت الأرضية للانتقال السلمي إلى النظام الديمقراطي. وإذا نظرنا اليوم إلى سوريا فسنجد الكثير من التحولات الصغيرة المتراكمة قد حدثت ابتداء من عام 1991 في المجال الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. هناك أعداد كبيرة من الكتب تصدر كل سنة وحجم الرقابة أصبح يوما بعد يوم أخف واقل. هناك الانترنت والفضائيات والجوال والبنوك والاستثمارات الخارجية والداخلية وتوسع السياحة وبروز عدد ليس كبير لكنه معتبر من منظمات المجتمع المدني وتشكل عدد محدود من جمعيات معنية بحقوق الانسان مع جمعيات أخرى معنية بتقديم خدمات اجتماعية وانسانية عامة. بل حتى تحول العسكريين الكبار إلى البزنز هو علامة على اختفاء أهمية الموقع العسكري لمنح السلطة للشخص بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء عصر تلك الدول التي ظلت تدور في فلكه وتكسب حمايته الكاملة. بالتأكيد كل هذه الانجازات لا تستجيب مع الهدف الأساسي المتمثل بتحقق النظام الديمقراطي الحقيقي، لكنها أساسية كي يمكن تحقيق هذا النظام. فالنظام الاستبدادي الذي يتم إسقاطه بالقوة من دون تلك الفترة الانتقالية سينشأ فوقه نظام استبدادي آخر قد يكون أسوأ من سابقه.

يمكن القول إن قبول النظام بإجراء الاصلاحات الأساسية المتمثلة بتبني الشروط الأولية لأي دولة حديثة هو لصالح الأفراد المنضوين فيه. فبإيجاد جسور مع قطاعات شعبية جديدة قد يكون ممكنا أن يلعبوا دورا مع الكثير من الفئات المعتدلة لخلق مجتمع تحكمه مؤسسات منتخبة ينفصل فيه الدين عن الدولة.

بالمقابل سيضمن قبول أطراف المعارضة بالحوار مع النظام وإيجاد أرضية إصلاح مشتركة عبور هذه المرحلة بسلام وتحقيق بديل مثالي لكل منطقة الشرق الأوسط. فالحالة المدنية والمدينية المتقدمة في سوريا (ضعف البنية القبلية وانتشار المدن العريقة فيها) غير متوفرة في العديد من البلدان المجاورة. وبالتأكيد فإن التنوع الاثني والديني والمذهبي هو ظاهرة صحية لغنى المجتمعات إذا وافق الجميع على التعايش والتفاعل الحرين في ما بينهم.

تحضرني مقارنة بين أولئك المعارضين الحريصين على التصعيد مع النظام السوري ودفعه إلى التورط أكثر فأكثر في جرائم قتل، وبين فاوست الذي أراد أن يحقق خير البشرية من خلال بيع روحه للشيطان. لكن مصيره كان الجحيم، ولم يتمكن أيضا من تحقيق حلمه الانساني الرائع.
كان على فاوست أن يتذكر أن الطريق إلى جهنم هو الآخر معبّد بالنوايا الحسنة.

*روائي عراقي

 

اقرأ ايضاً