العراق في محفل الدول المستقلة (5)

حواجز الوصول إلى الاستقلال

في الصورة الكابتن ن. ويلسون (وسط) خلال رحلة صيد في منطقة الهنيدي بالقرب من بغداد في مارس (آذار) 1934 (غيتي)

اندبندنت عربية الخميس 8 أكتوبر 2020

1٬494

 

لم يترك تصديق معاهدة عام 1924 ما كان متوقعاً من اضطرابات عنيفة، بعد حمى النشاطات المعادية لها، فقد وصفت صحيفة “الأوقات البغدادية” يوم 12 يونيو (حزيران) الوضع كالتالي “استقبل تصديق المعاهدة بصورة عامة بعدم اللامبالاة، ولم يكن هناك من مظاهر النحيب أو الفرح التي كنا نتوقعها، فلم نسمع شيئاً من هذا، بينما كنا نسير في الشوارع بعد أن أنجز الحادث المهم في المجلس التأسيسي، كما لم نشاهد أو نلاحظ أياً من زمر الشباب المسلحين بالعصي والسكاكين والمسدسات، الذين جعلوا أنفسهم بارزين إلى درجة كبيرة خلال فترة مناقشات المجلس”.

أما المعاهدة الثانية، فكان تصديقها أسهل في مجلس النواب، تلاها توقيع الطرفين المعنيين عليها، في شهر فبراير (شباط) 1926، حين كان عبد المحسن السعدون قد مضى عليه ما يقرب من ستة أشهر في رئاسة وزارته الثانية، وكانت علاقته مع دار الاعتماد البريطاني جيدة.

وهذا ما أدى إلى توتر علاقته بالملك، فالأخير، بالقدر الذي كان يقدر كفاءة رئيس وزرائه، يرى أن دوره في إدارة شؤون البلاد راح يتلاشى.

ولعل من المفيد التذكير بأن السعدون هو السياسي الوحيد الذي لم يكن من مجموعة الضباط الذين انضووا تحت قيادة فيصل خلال الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك، فهو عمل أولاً مرافقاً للسلطان عبد الحميد الثاني، ثم أصبح نائباً عن مدينة الناصرية في مجلس المبعوثين (مجلس النواب العثماني)، وقد يكون عمله الأخير متزامناً مع انضواء فيصل في ذلك المجلس نائباً عن مدينة مكة.

ظل الملك فيصل حريصاً على اتباع أسلوب دبلوماسي راق، في تعامله مع السياسيين العراقيين، ويسعى دائماً إلى تجنب سياسة إقصاء أي طرف في بلد يفتقد مكوناته الاجتماعية التجانس، وصعوبة قبول كل طرف فيه مبدأ الانقياد لسلطة الدولة وقوانينها. فهو حتى بعد نفي المجتهدين الشيعة عام 1924 إلى إيران سعى مباشرة إلى التفاوض معهم للعودة إلى العراق شرط تعهدهم عدم التدخل في السياسة. ولتحقيق هدفه استخدم بعض الوجوه الدينية الشيعية البارزة وسيطاً لتحقيق هدفه، فنجح في الوصول إليه.

طرح الملك فيصل على عبد المحسن السعدون إدخال شخصيات معارضة في مجلس النواب ضمن الحكومة بمناصب ثانوية، لكن الأخير اشترط إجراء انتخابات تشريعية جديدة، فخشي فيصل أن تكون نتائجها لغير صالحه. وأخيراً اقترح السعدون إجراء تصويت في البرلمان لانتخاب رئيس جديد له، وكان مرشحه حكمت سليمان، لكن الأخير فشل في تحقيق الأغلبية لهذا المنصب، فترتب عليه استقالة حكومة السعدون، التي كان الملك يتمناها.

اختار فيصل لرئاسة الوزارة، جعفر العسكري، الذي يعد واحداً من أشد أنصاره، فتمكن من تشكيل الحكومة يوم 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1926.

كان السبب وراء هذا التغيير الوزاري، هو أن الملك ونوري السعيد وياسين الهاشمي (ضمن الضباط المساهمين في الثورة العربية الكبرى) أرادوا تشكيل حكومة قادرة على إقناع مجلس النواب بمشروع التجنيد الإلزامي، فهذه الخطوة بنظرهم ستعزز وضع العراق في الحصول على الاستقلال، إذ كان لديهم شعور بأن عبد المحسن السعدون لن يكون قادراً على التصرف بشكل مخالف لدار الاعتماد البريطاني.

اعتبر الملك والفريق المقرب له، أن التجنيد الإلزامي سيسمح للعراق بتكوين جيش قرابته 20 ألف عسكري بكلفة متدنية تتناسب مع قدرات العراق المالية، فالاكتفاء الذاتي عسكرياً لأي دولة يعتبر مقياساً مهماً لاستقلالها، وعلى ضوء ذلك اعتبر تشكيل وزارة ميالة إلى التجنيد الإلزامي لها فرصة أحسن لتحقيق الانضمام إلى عصبة الأمم.

فحسب الاتفاقية العسكرية الملحقة بمعاهدة عام 1924، ستنتهي المعاهدة عام 1928، وبذلك سيتمتع العراق نظرياً بكامل استقلاله.

شكل نوري السعيد وياسين الهاشمي في 28 نوفمبر 1926 اللجنة العسكرية والمالية للحكومة ووفق ما توصلت إليه من نتائج لوحظ أن العراق سيحتاج ما بين 15 ألفاً و20 ألف عنصر مع القوة الجوية العراقية، ليكون قادراً على حماية البلد والتخلي عن مساعدة بريطانيا العسكرية.

في أكتوبر (تشرين الأول) 1926 قدمت الحكومة العراقية مسودة قانون التجنيد الإلزامي إلى السير هنري دوبس، فكان عليه أن يبعثه إلى وزارة  المستعمرات مع ملاحظاته السلبية عن المشروع. ولا بد أنه أدرج رفضه له لأن أغلبية السكان من عرب شيعة إلى كرد وتركمان لن يرضخوا له. لذلك جاء جواب المسؤولين البريطانيين في لندن مطابقاً لرأيه.

قدم رد حكومة لندن إلى الحكومة العراقية في يناير (كانون الثاني) 1927، غير أن فحواه كان معروفاً في الأوساط السياسية ببغداد منذ عدة أشهر.

وبحلول منتصف مايو (أيار)، وبغياب أي تقدم في مشروع التجنيد الإلزامي أو إعادة النظر في الاتفاقيات السابقة، أصبح واضحاً أن العراق لن يتمكن من دخول عصبة الأمم المتحدة عام 1928، لذلك كانت استقالة حكومة جعفر العسكري متوقعة.

الشيعة والتجنيد الإلزامي

يمكن القول، إن رفض العرب الشيعة لتطبيق التجنيد الإلزامي كان نابعاً من الخوف من وقوع أبنائهم تحت هيمنة الضباط السنة في الجيش، أو بصيغة أخرى أبناء الريف الجنوبي تحت هيمنة أبناء المدن الذين تخرجوا في الكليات العسكرية خلال العهد العثماني.

لذلك حين طرح مشروع قانون الخدمة العسكرية الإلزامية أمام مجلس النواب، أثار كما هو متوقع هياجاً شيعياً واسعاً، وقدم الوزيران الشيعيان في الحكومة، سيد عبد المهدي وعلوان الياسري استقالتيهما فوراً.

وعلى الرغم من تحفظ الأوساط الشيعية على هذا القانون الذي كان سيساعد العراق على تحقيق استقلاله، فإن الجيش العراقي وجهاز الأمن استمرا خلال سنوات الانتداب السابقة بالتوسع والتنامي.

ففي يوليو (تموز) 1927 تخرجت في الكلية العسكرية الملكية، أول مجموعة قوامها 47 طالباً عسكرياً، إضافة إلى 13 آخرين أكملوا دراستهم العسكرية في إنجلترا.

من جانب آخر، توسع التجنيد الطوعي في مناطق الجنوب الشيعية، ليصبح مركزاً للآمال الوطنية.

وقد حاول “الوطنيون” عدة مرات تقديم مشروع التجنيد الإلزامي الذي ظل موضع رفض من بريطانيا والعشائر بالدرجة الأولى، حتى سحب من أجندة مجلس النواب.

مماطلة جديدة

كانت الحكومة العراقية تعيش أزمة مستدامة بسبب إشكالية العلاقة التي تربطها ببريطانيا. فوفقاً لمعاهدة يناير 1926، ستراجع عضوية العراق في عصبة الأمم في يناير (1928)، وبعد ذلك كل أربع سنوات. وقد أعلمت حكومة لندن الحكومة العراقية بأنها تفكر بتقديم توصية تطلب فيها قبول العراق في العصبة عام 1932 وليس عام 1928.

كان القرار البريطاني هذا محبطاً للغاية لسياسيي الدولة العراقية التواقين لتحقق هذا الهدف، وكانوا على استعداد للتفاوض من أجل معاهدة جديدة مع بريطانيا. وقد أدى ذلك إلى جولة مفاوضات أخرى في لندن أجريت في أواخر تلك السنة، شارك الملك فيصل ورئيس الوزراء ووزراء  آخرون إضافة إلى المندوب السامي في المفاوضات.

وفي 14 ديسمبر 1927 وقع جعفر العسكري معاهدة جديدة مع وليام أورسمبي- غور وكيل وزارة المستعمرات، ولبدء سريانها كان يجب التصديق عليها من قبل عصبة الأمم ومجلس  النواب العراقي.

كانت أصعب مشكلة واجهتها حكومة جعفر العسكري إعادة النظر في الاتفاقية العسكرية التي أضيفت إلى معاهدة عام 1927 مع بريطانيا. وهذه تشتمل أموراً تتعلق بالجانبين المالي والتنظيمي يحددها هذا السؤال: كم يستطيع العراق أن ينفق على القوات المسلحة؟

كان هنري دوبس قد أعلم وزارة المستعمرات في 20 ديسمبر 1927 بأن الوزراء العراقيين ينتظرون مقترحات مفصلة عما ستقدمه بريطانيا من دعم للقوات العراقية من حيث الكم والنوع كي تتمكن الحكومة العراقية من تقدير حجم النفقات العسكرية في الميزانية المقبلة.

اقترح دوبس ضرورة إيفاء بريطانيا بوعدها الذي قطعته في الاتفاقية العسكرية السابقة بتدريب العراقيين كي ينشئوا القوة الجوية العراقية.

وقد أجبر الاستقبال الصامت لمسودة المعاهدة في العراق، وفشل الحكومة في فرض قانون التجنيد الإلزامي عبر مجلس النواب، إضافة إلى الاضطرابات القائمة في المناطق الشيعية، واستقالة عدد من الشخصيات القوية في الحكومة، رئيس الوزراء على تقديم استقالته. ولم يكن بإمكان “الوطنيين” أو حاشية البلاط القبول بتسلم رئاسة الوزارة تحت ظروف المفاوضات الدائرة حول المعاهدة الأخيرة.

كان هناك رجل واحد يستطيع إنقاذ الوضع الحرج، ويتفق عليه البلاط ودار الاعتماد البريطاني لتشكيل الحكومة، على الرغم من البرودة القائمة بينه وبين الملك. إنه عبد المحسن السعدون.

وباختياره يكون الملك ضمن لنفسه القدرة على أن يشير إلى أنصاره إذا اقتضت الضرورة بأن الاختيار فرض عليه من قبل بريطانيا.

سيزيف عراقي

كم كان عبد المحسن السعدون شبيهاً بذلك البطل الأسطوري الذي حكمت عليه الآلهة بأن يرفع صخرة من قاع الجبل إلى أعلاه لكنها وقبل بلوغه بخطوة إلى القمة تتدحرج إلى أسفل، فيكون عليه أن يعيد رفعها ثانية، وهلم جرا.

شكل السعدون وزارته الثالثة في 14 نوفمبر 1928، وفيها كان هناك وزيران شيعيان وآخر مسيحي، وعدد من السياسيين ذوي الخبرة العالية.

غير أن هذه الوزارة كانت في وضع لا تحسد عليه، إذ إنها تفتقد دعم الملك و”الوطنيين” والشيعة. وكان رئيس الوزراء موضع هجوم هذه الكتل الثلاث لأسباب مختلفة. وفي 18 يناير 1929 جرى حل مجلس النواب، وكان السعدون يأمل في أن يسمح البرلمان الجديد له بإعادة التفاوض حول الاتفاقيتين المالية والعسكرية المثيرتين للقلق مع بريطانيا، وبهذا يضمن تجاوز معاهدة 1927.

تجدر الإشارة هنا، إلى أنه أصبح هناك إجماع، خلال عام 1928، لدى كل الكتل السياسية بشتى أشكالها، على أن السياسة البريطانية تهدف إلى إبقاء العراق في حالة اعتماد على بريطانيا، ولن تسمح للعراق ببناء قوات عسكرية ضرورية كي تجعل من الاستقلال الموعود به حقيقة.

ولعل ذلك كان وراء تأجيل البت بالمعاهدة الجديدة بسبب معارضة أوساط “الوطنيين” لها. وخلال تلك الفترة قام الملك فيصل ونوري السعيد بأقصى ما يمكنهما من جهود لضمان أن يكون مجلس النواب المقبل معادياً لرئيس الوزراء على أمل هزم الحكومة وفرض إعادة جعفر العسكري رئيساً للوزراء بصلاحيات إضافية.

في الوقت نفسه، كان الملك يحاول التأثير على الشيعة بدفعهم لمعارضة عبد المحسن السعدون بأنفسهم أو الانضمام إلى أنصاره، مذكراً بتزمته تجاه الشيعة حين نفى عدداً من المجتهدين إلى إيران.

خلال عملية الانتخابات التي امتدت من منتصف يناير إلى منتصف مايو 1928، أنتج تدخل الحكومة برلماناً مؤيداً لها مع وجود تمثيل قوي للشيعة فيه كي يساعد رئيس الوزراء في جهوده لتحقيق مصالحة معهم.

وبحلول اجتماع مجلس النواب في مايو، كانت الأطراف المعارضة للحكومة، إما هزمت في الانتخابات أو تلاشت لوحدها. فمن بين الـ88 نائباً، كان هناك 66 منهم يدعمون  الحكومة.

الوضع الأشد

لم يتحقق خلال الأشهر أي تقدم ملموس في إعادة التفاوض بما يخص الاتفاقيتين العسكرية والمالية، على الرغم من أن هنري دوبس حاول مراراً تسهيل موقفه وموقف السعدون، عن طريق الاستفسار من وزارة المستعمرات للتوسط مع وزارة المالية لتقديم تنازلات في الأمور غير المتفق عليها، وتحديداً تكاليف القوة الجوية البريطانية في العراق، إذ إن معظم سكان العراق يعرفون حقيقة أن وجودها في بلدهم هو لحماية مصفاة النفط في عبادان، وحماية أعمال تطوير آبار النفط العراقية، ولتأمين الاتصالات الجوية البريطانية بين مستعمراتها، والتدرب في المناطق الصحراوية.

استغل الصحافيون العراقيون تعبير “الوضع الأشد” خلال عام 1928، لوصف وضع العراق الذي ما زال مقيداً بالانتداب، والمسؤولية الوزارية ما زالت تحت إشراف المستشارين، واليأس من امتلاك العراق للقوة العسكرية الكافية بعد منعه من فرض الخدمة العسكرية الإلزامية.

وفي ذلك الوقت، كان أي اقتراح يقدمه رئيس الوزراء يقابل برفض وزارة المستعمرات له مباشرة.

مع ذلك لم تبق سوى أربع سنوات أمام احتمال تحقق الاستقلال.

في أكتوبر 1928 طلب المندوب السامي قبل انتهاء عمله في العراق، من الحكومة البريطانية، أن ترخي قبضتها على الجيش العراقي وتسمح للعراقيين بتنفيذ ما يريدونه في هذا المجال، لكن بعد أسابيع قليلة جاء رد حكومته بأنها غير قادرة على قبول اقتراحه. ولو أن هذا الجواب كشف للحكومة العراقية فإنه سيؤدي إلى استقالتها فوراً.

في لندن كانت خطورة الوضع واضحة آنذاك، إذ كان هناك خوف من انهيار أساس التعاون بأكمله، ومن انهيار الاتفاقيات القائمة التي تعتمد عليه. وهذا ما جعل المسؤولين البريطانيين يأملون في أن يستطيع المندوب السامي الجديد السير جلبرت كلايتون، إيجاد طريق للخروج من هذا المأزق.

كانت الحكومة العراقية تشاطر المسؤولين البريطانيين هذا الأمل بأن يجد كلايتون حلاً من دون أن يجرح حساسية العراقيين، خصوصاً أنه كان من أصدقاء الملك ونوري السعيد.

من جانب آخر، كان عبد المحسن السعدون أقل نجاحاً في التفاوض مجدداً حول الاتفاقيات العسكرية، إذ رفضت بريطانيا تقديم أي تنازلات، ورفضت في نهاية المطاف اقتراحاته التي قدمها في يناير1929، مما أجبره على الاستقالة.

مع ذلك بقيت حكومته أشهراً قليلة لتصريف الأعمال، وهذا لأنه لم يكن هناك أي سياسي راغب في تولي المنصب الذي أصبح النجاح في توليه مستحيلاً. وعلى الرغم من محاولات “الوطنيين” خلال العشرينيات من القرن الماضي إلغاء أو تعديل المعاهدة، فإن نجاحهم الوحيد كان تغييرات تجميلية عام 1927.

وبحلول عام 1929 بلغت الأزمة أقصى مداها. فحتى عبد المحسن السعدون الداعم القوي للبريطانيين أرهق وأحبط، واستقال من حكومته، وبقي العراق مدة ثلاثة أشهر من دون حكومة رسمية.

انتحار في بغداد

أعاد عبد المحسن السعدون تشكيل الوزارة بعد وصول حزب العمال البريطاني إلى السلطة ووعده بمساعدة العراق للدخول إلى عصبة الأمم.

بدأ رئيس الوزراء المفاوضات مع حكومة لندن، لكنها انتكست بسرعة، ولم يتمكن من تحقيق أي نجاح ملموس في إعادة النظر بالمعاهدة، أو كسب ثقة الملك.

وجاء موت المندوب السامي كلايتون المفاجئ في سبتمبر (أيلول) 1929 ليحرمه من حليف مهم، مما عمق شعوره بالعجز.

بعد تسلمه منصبه بفترة قصيرة تعرض السعدون إلى هجوم البرلمان لموقفه من المعاهدة، وما رافقه من اتهامات بالخيانة والعمالة للإنجليز. وفي 13 نوفمبر انتحر.

في رسالته التي تركها لابنه علي نقرأ هذه السطور “ولدي وعيني ومستندي علي… اعف عني لما ارتكبته من جناية، لأني سئمت الحياة التي لم أجد فيها لذة وذوقاً مشرفاً. الأمة تنتظر الخدمة، والإنجليز لا يوافقون… ليس لي ظهير… العراقيون طلاب استقلال ضعفاء عاجزون وبعيدون كثيراً عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير نصائح أرباب الناموس أمثالي… يظنون أني خائن للوطن، وعبد للإنجليز، ما أعظم هذه المصيبة، أنا الفدائي الأشد إخلاصاً لوطني، قد كابدت أنواع الاحتقارات وتحملت المذلات في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي مرفهين”.

على الرغم من أن عبد المحسن السعدون لم يكن ضمن قافلة المعادين لبريطانيا، فإن خدماته للعراق كوسيط بين البريطانيين والعراقيين كانت ذات أهمية كبيرة. إضافة إلى الدور الأساسي الذي لعبه في التوصل إلى اتفاق مع تركيا، تنازلت وفقه عن المطالبة بالموصل مقابل منحها 10 في المائة من عوائد نفطها لفترة زمنية محددة.

جاء موت السعدون علامة على أن فترة التوافق قد انتهت، وأن بعض التنازلات البريطانية يجب أن تكون متوقعة.

الحل النهائي

أخذ ناجي السويدي المعروف بعدائه للانتداب والمعاهدة، عصا رئاسة الوزراء، لكنه أيضاً فشل في التعامل مع الضغوط المتصاعدة للموافقة على المعاهدة التي ستمهد الطريق للاستقلال. فمظاهرات الشوارع، وهجمات الصحف جعلته غير قادر على أداء مهمته مع تقويض لموقعه على يد النخبة التي تضم الملك ونوري السعيد.

جاءت استقالة ناجي السويدي في مارس (آذار) 1930، لتمنح الملك فيصل فرصة لجلب الرجل الذي كان يرغب فيه دائماً: نوري السعيد.

وعلى الرغم من شكوك البريطانيين في قدرته على التعامل مع الوضع، فإنهم بعد فترة قصيرة غيروا رأيهم.

كانت هناك حاجة لقبضة نوري السعيد الحازمة، للخروج من عنق الزجاجة، بعد اتساع حركة المعارضة الصاخبة. وكانت هي المرة الأولى التي يستخدم نوري فيها تكتيكات أصبحت لاحقاً أسلوبه الخاص كلما وصلت الأوضاع إلى نقطة الفوضى… وبواسطتها، أسكتت المعارضة، وكممت الصحافة وجمد البرلمان. وقد كان نجاح السعيد في معالجة قضية المعاهدة والمعارضة الداخلية الرافعة التي جعلته السياسي الأول في أعين البريطانيين. وهو موقع ظل يتمتع به لاحقاً.

وهكذا جاء موت السعدون المبكر ممهداً لبروز رجل العراق القوي الجديد.

العراق في عصبة الأمم

كانت ردود الفعل مختلطة على المعاهدة، فالوطنيون عارضوا بشدة أمدها الذي يصل إلى 25 سنة، وعارضوا استئجار بريطانيا قاعدتين جويتين، وفرض مشاورة الحكومة العراقية لبريطانيا بما يخص السياسة الخارجية، والاستخدام المتواصل للمستشارين البريطانيين.

وإذا كان “الوطنيون” عارضوا المعاهدة لأنها لم تقطع الآصرة ببريطانيا، فإن الكرد والمسيحيين عارضوها لأنها أضعفت هذه الآصرة. فالخوف على موقعهم دفعهم إلى المطالبة بضمانات محددة من عصبة الأمم قبل منح العراق مقعداً فيها، وذلك بتوقيع مضابط كثيرة بعثت إلى مقر العصبة في جنيف، تعترض على هذه الخطوة: إدخال بلدهم في عصبة الأمم.

تلى ذلك اندلاع انتفاضة عسكرية قادها الشيخ محمود البرزنجي ثم أخرى قادها أخوه أحمد، مما دفع الجيش العراقي إلى إخمادهما بدعم الطائرات البريطانية.

وفي 3 أكتوبر 1932 قبل العراق في عصبة الأمم، وبذلك يكون أول بلد تحت الانتداب يحصل على استقلال رسمي.

 المصادر

تاريخ الوزارات العراقية، عبد الرزاق الحسني

A History of Iraq, Charles Tripp

Britain in Iraq, Peter Sluglett

Iraq, Hanna Batatu

لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، علي الوردي

اقرأ ايضاً