المثقف العراقي وصراع الأحلام

2٬864

 

في مجتمع مغرق بقيوده، حيث لا مكان فيه للفرد خارج العشيرة والطائفة والعائلة، وحيث إرضاء وكسب تقدير هذه الكيانات أو بعضها جوهر حياة الفرد، يصبح للأفكار المستوردة قوة في منح معنى لحياته، ومنحه شعورا بالتحرر.

ومن هنا جاءت الماركسية التي هي نتاج تطور فلسفي- معرفي- اقتصادي لأوروبا الصناعية اغراء بالخروج من قمقم العشيرة والطائفة والمحلية الضيقة؛ من قمقم نفي الفردية.

بالمقابل أصبح الانتماء إلى الحزب انتماء لعشيرة أخرى غير قابل للانفكاك. انتماء يضحي المرء بحياته عن طيب خاطر من أجله.

وحتى لو كان الهدف النهائي لهذه الأفكار، الوصول إلى فردوس قائم في مستقبل بعيد جدا: مجتمع الشيوعية الخالي من الطبقات، حيث العمل يصبح تحقيقا للذات اكثر منه استلابا له، وحيث فائض الانتاج يسمح للفرد بتكريس جهوده لإيقاظ المبدع في داخله. وحيث العائلة تخلي مكانها في تربية الأطفال إلى مؤسسات المجتمع المتطورة. وحيث المرء يصبح انسانا آخر ذا طبيعة مغايرة لطبيعته الحالية: انتفاء حب التملك، والعمل يصبح محكوما بمبدأ “من كلٍّ حسب قدرته ولكلٍّ حسب حاجته”.

حلم كبير أثمل أجيالا من المثقفين العراقيين الغارقين في عزلة روحية عميقة عن مجتمعهم العشائري- الطائفي المغلق على نفسه، حتى من دون قراءة تلك النصوص الأصلية التي كتبها المؤسسون الأوائل والاكتفاء بالكراريس المبسطة التي تقدم اجابات “علمية” عن كل شيء ابتداء من الفيزياء والكيمياء وانتهاءا بالاقتصاد والتاريخ وعلم الأحياء. والأهم من ذلك، تلك الكراريس التي تحث على بناء تنظيم ثوري يعتمد على السرية ويصبح القادة كائنات سوبرمانية و”الحزب” كيانا طوطميا حيا موجودا في كل زمان ومكان.

كذلك هو الحال مع الفكر القومي الذي نشأ من زخم النزعة القومية التي اجتاحت اوروبا بعد حروب نابليون، والتي دفعت تلك الاقطاعيات المتنافرة في ألمانيا وإيطاليا وغيرها لاستنهاض الهمم وتكوين دولها القومية.

لقد كان بسمارك الألماني تجسيدا لهذه الروح، فعبر حروبه الداخلية والخارجية ومؤامراته وخداعه للقادة الآخرين حقق ظهور الدولة الألمانية الموحدة.

وهذا ما حلم به المثقفون العروبيون وسعوا إلى تحقيقه عبر تنظيماتهم. استخدام كل ما هو متوافر في اليد للقفز إلى السلطة وتحقيق الدولة العربية الواحدة بالقوة على طريقة بسمارك، انطلاقا من مبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة.

كلا الحركتين: الشيوعية والقومية كانتا تنطلقان من نموذجين متخيلين يسكنان في الماضي السحيق: الأولى من مجتمع المشاعية البدائي قبل ظهور الملكية الخاصة وصراع الطبقات، والثانية من مجتمع عربي موحد لم يتحقق يوما على أرض الواقع، وإن تحقق فإنه لم يكن الا وسط حروب أهلية ومجازر متكررة، وغالبا ما كان الحكام في هذه الدولة العربية من الغزاة غير العرب. فالدولة العباسية ظلت أقل من مائة عام بيد بني عباس وبقية القرون الثلاثة بيد قبائل وأقوام عديدة من بينهم السلاجقة والبويهيون والديلم قبل وقوع غزو هولاكو لبغداد عام 1258 وانهاء الحكم العباسي الشكلي آنذاك.

وفي صراع هذين الحلمين سالت دماء كثيرة وتمزقت معها عرى المجتمع.

كان المثقفون المنتمون إلى هذين الطرفين المتنازعين محكومين بحلم اقتراب تحقق الحلم عبر الاستيلاء على السلطة بالقوة، وعند انهيار المشروع الوحدوي والاتحاد السوفياتي معا فقدوا ذلك السحر الذي جعل قطاعات من المجتمع تحل الحزب محل الطائفة والعشيرة، ومع هذا الفقدان ارتدت تلك القطاعات إلى ما كانت عليه (العشيرة والطائفة) بحماسة واندفاع شديدين، خصوصا بعد فقدان مؤسسات الدولة حياديتها وانتهاء تمثيلها للمواطنين بشكل عادل.

مع ذلك، ما زالت الفظائع التي ترتبت على التصادم بين هذين الحلمين حية في ذاكرة المثقفين، حتى بعد انطفائهما معاً، وما زال الحقد العميق حاجزا أمام أي مصالحة حقيقية بين التيارين.

ما زال كل طرف يقدم سرده الخاص للأحداث التاريخية بدلا من مراجعة العلة الأصلية: الانطلاق من نموذج متخيل قائم في الماضي السحيق والعمل في الوقت نفسه على قسر الحاضر وتطويعه ليتطابق معه، وبهذه الطريقة أضاعت أجيال من المثقفين قدرتها على فهم مكنونات المجتمع الحقيقية، وقدرتها على التغيير التدريجي المواظب جيلا بعد جيل انطلاقا من حقيقة ما هو قائم لا مما هو مفترض وفق تأويلات ما زالت فرضيات وما زالت موضع خلاف وجدل عالميين.

هل يمكن في هذه الحال تبديل عنوان المقال إلى: المثقف العراقي وصراع الأوهام.

لؤي عبد الإله*

اقرأ ايضاً