النرد

2٬359

كانوا لطفاء معي، أعطاني أحدهم علبة سجائره…

وانا أدفع باب المقهى، يستقبلني دفء عذب، رغم تساقط المطر خلفي، رذاذاً بارداً، متقطعاً. يتصاعد الضجيج مختلطاً بغيوم الدخان الزرقاء، حيث الكل منغمر بنشوة دفء الحديث الذي لا ينقطع. تتحرك الأفواه، تضيق الأعين وتتسع، تهتز الرؤوس. أرمي خطوة أخرى، باحثاً عن كرسي شاغر، لكن دوّامة الهدير تشلّني، فاظل اتابعها مبهوراً، مختنقاً بفرح غريب…

تدفعني رغبة في الحديث. ألتفت حولي باحثاً عن رجل جالس وحده، لعلني استعيد لساني معه. تنعكس الأضواء على صفحتي عينيّ، فأشعر بحرقة، لكنني أظل محدّقاً فيها. ينفجر أمامي فضاء كرات ملونة، براقة. يرتفع جسدي معها إلى أعلى، يدور في فلكها، يختفي هدير الأصوات العنيف في المقهى، يحل محله طنين الصمت في أذني…

كان الصمت عميقاً، حينما فتحتُ عينيّ على جدار أزرق، برّاق، وبطّانية خضراء تغطي نصف جسدي. سريري الأبيض، يلوح طرف مسنده فوق قدميّ، كأنه حدوة حصان عملاق. لمست المخدة المبللة تحت رأسي، وانا أفتش في الذاكرة عن سر وصولي إلى تلك الغرفة. دُفع الباب ببطء، دخل طبيب، وممرضة تضع فراشة فوق شعرها. سألني من خلف نظارتيه الطبيتين: “كيف حالك اليوم”؟ تدافعت الكلمات من حنجرتي أسناناً مهشمة، وسال اللعاب غزيراً من طرفي شفتي. ربت على كتفي برفق: “ستسترجع النطق قريباً…” سأل الممرضة دون أن يلتفت إليها: “حرارته طبيعية”؟ ثم أضاف قبل أن يتركني، “قدموا له حساء وحليباً فقط. غداً حضّروه صباحا لوجبة العلاج”.

يجلس فجأة، قبالتي رجل على كرسي محاذٍ لعمود في وسط الصالة، وجه شاحب غير حليق، بجسد ناحل، وملابس رثة، تذكّرني ملامحه بوجهي الذي لاقيته بعد ايام لا اعرف عددها في المستشفى، على مرآة معلقة في غرفة المرافق. لربما يكون وهماً صنعته مخيلتي. أمعن النظر فيه ثانية، رغم مرور الناس المتواصل بيننا. تلتقي عيناي بعينيه. يرسم ابتسامة ضئيلة لي، ثم يدير ناظريه صوب الشارع، عبر زجاج المقهى الملاصق للرصيف. أكتشفُ ندبة محفورة على خده الأيسر، ألمس وجهي، فلا أعثر على أثر مثله. يحتسي الآن زجاجة مشروب أصفر، رشفة تليها أخرى، يعبّ خلالها أنفاساً من سيجارته.

تراودني رغبة قوية في التحدث معه. أنهض من مكاني. لكن سؤالاً يجول في خاطري: عمَّ اثرثر معه؟.. افكر بالكلاب، فصائلها المختلفة، وكل فصيل وفوائده… يندسّ كلب ذئبي بين مصراعي باب المقهى، فيندفع باستقامة مطأطئاً رأسه قليلاً وسط الحشد. يقف جنبي، يفتح شدقيه عن انياب ملتمعة، يقترب خطوة، وجهي يصبح قريباً من رأسه، انكمش على نفسي، ألتصق بالجدار، أسمع زمجرته المخيفة، فيخفق قلبي بعنف.

أردد ما قاله الطبيب مراراً: “عليك الاّ تصدق كل ما تقع عليه عيناك. تأكد ان ما تراه ممكن وقوعه”… يتلاشى الكلب وسط الدخان. تظهر المقهى بروادها الموزعين على تخوتها وكراسيها، وهم يواصلون الحديث بايقاع اقوى، يصلني الهدير كماء يغلي في قدر كبيرة.

ألتفت إلى الرجل الجالس قدّامي، ها هو الآن يتطلع إليّ منتظراً أن أبادر في الذهاب إليه. أحرك رأسي مبتسماً، فيرد سلامي بهمهمة من شفتيه. أفكر بالزهور: القرنفل، والياسمين، والجوري… ساق وردة الجوري مغطاة باشواك كأنها مخالب قط. يعاودني ذلك الحلم، حين ينقلب الرجال حولي الى قطط كبيرة. يوجّه لي أصغرهم قبضته المسننة، يعصر رقبتي مولجاً أظفاره في عروقي، أختنق، أحرك ذراعي، فيمسكهما الآخرون،يسيل اللعاب من فمي غزيراً. أتلمس ماء لزجاً يندلق ببطء على رقبتي. قبل أن يغلقوا الباب يغمرني الظلام، ألمح لونه القرمزي المتوهج…

قال الطبيب لي: لقد بذلنا كل ما في وسعنا لتسترجع وعيك. لكن الشفاء يعتمد عليك ايضاً. ابذل اقصى جهدك كي تتخلص من هلاوسك. سألته: والكوابيس؟ اجابني: حالتك معقدة..كان ابوك قاسياً معك عند الطفولة؟

يتصاعد الدخان إلى أعلى من مئات السجائر المولعة داخل المقهى، خيوط رمادية تتداخل مع بعضها، تضربها أضواء المصابيح النيونية، فتحولها إلى سحاب أزرق كثيف. يغدو الناس اشباحاً مغلّفة بالدخان. يظهر لي رجل ملقى في حجرة مظلمة، يُجبر سقفها الواقف على إحناء ظهره. طولها لا يزيد عن طول سرير. يشم رائحة عطنة. تدب فوق جسده الصراصير بملمسها اللزج، يعابثها باصابعه. زمن لزج يمر دون حدود كأنه دائرة مغلقة. لا تلامس عيناه سوى ليل دائم، وصمت يقطعه من وقت إلى آخر صراخ مدوٍّ. ينتابه فرح لالتقاطه اشارة من كائن حي آخر في مكان آخر. لكم تمضّه العزلة تلك رغم آلام جسده، رغم البرد المنزلق إلى احشائه. يتقن مشي القرد. يعوي، ينبح، يموء، يثغو. يبحث في أرجاء الحجرة عن حشرة يعبث بها. رأسه كرة فارغة تسبح فيها فقاعات الهواء. يصرّ الباب في لحظة. يناديه رجل يُمسك ضحكة في فمه بصوت مهدّد، فيمضي إليه، ما أن يصل الباب حتى تغمر عينيه أضواء الرواق الشاحبة. ينفجر طنين في رأسه، يرفع يديه إلى أعلى وجهه خوفا من الضياء الحارق، ومن صفعات الرجلين الواقفين عند الباب، لكن فرحاً يمسّه وهو يستعيد الخيط الذي قُطِع دهراً مع الآخرين…

قال الطبيب لي: الشيزوفرينيا مرض العصر، رغم أن الوراثة تلعب دوراً كبيراً… ألم يُصَب أحد من عائلتك؟

يكمل نظيري زجاجته، ها هو يطالعني بنظرات زائغة. تنتابه الرغبة نفسها في التحدث معي. كم سأكون سعيداً لو شاركت هذا الجمع الثرثرة. لو أنني ألقيت فقاعات إلى اعلى. كم أشعر بعاطفة لكل هؤلاء الذين يصنعون هذا الدفء المتواصل. سأحدثه عن المشروبات الغازية، كيف تُنظَّف الزجاجات وتعبّأ اوتوماتيكياً. احس باندفاع انفاسي، بضيق يحاصرني. أتذكر حلماً آخر: حجرة واسعة تتدلى ثريا من وسط سقفها، ويجلس رجل خلف مكتبه. يدق على زر بجانبه،يدخل أربعة عمالقة، يحمل أحدهم زجاجة. يطلب مني خلع ملابسي، اتردد قليلاً. يلمس نظارتيه، فيصعقني اهتزاز عنيف وطنين في اذني. حين التفت إلى الوراء، يستقبل وجهي فقاعات اللهب المحرق. يجذبني الأربعة، ينزع أحدهم بنطالي، يلوي آخر ذراعيّ، يلقيني ثالث أرضاً. يندفع في لحظة لهيب حاد إلى احشائي، ثم تدور الحجرة بي. أتقيّأ، أعرق، أنزف، أصرخ، حتى تتلاشى الأشياء…

قال الطبيب: سيأتي اليوم أقرباؤك لمرافقتك. استرجاعك للنطق معجزة حقيقية.

قالت الممرضة: تبدو أنيقاً ببدلتك هذه. لاقربائك ذوق في اختيار الملابس.

قال الطبيب ضاحكا: انظري إليه كيف حلق وجهه ومشّط شعره بعناية.

يقلّب جاري علبة الكبريت باحثاً عن حظه. لمَ لا اشاركه اللعبة، أو ألعب معه بالنرد الذي اعطاني إياه مرافقي قبل هبوطي من السيارة. أخرجه من جيبي.

أقذف به: بَنْج.

ثانية: شيش.

ثالثة: بَنْج.

يلتفت صوبي، يضحك معي بخجل،يرجع إلى لعبته منكبّاً عليها، منفصلاً عن المقهى وروادها. أتذكر رسومي في المستشفى. كانت أصابعي تكرر شكلاً واحداً: مروحة سقفية، اجنحتها طويلة، ينتهي كل منها بيد ثُقِبَت راحتها، والثقب على هيئة عين قتيل. يبتسم الطبيب لي، يربت على كتفي: ستصبح رساماً سريالياً عظيماً.

أرفع رأسي قليلاً، المح مثيلي يحرك ذراعيه في الهواء، راسماً خطوطاً منحنية، كأنه مايسترو يقود أمواج الضجيج المتدافع حولنا، لِمَ لا أتحدث معه عن الرياضة؟ عن لعبة الجمناستك أو تسلق الجبال؟ يمس بصري المروحة المعلقة وسط السقف، منزوعة عنها أجنحتها، يتدلى منها حبل غليظ إلى الأرض، يندفع الحبل فجأة إلى أعلى، ساحباً معه رجلاً عارياً، من رسغي ذراعيه المعقوفين إلى ظهره. أتلفت حولي باحثاً عمّن يساعدني في إنقاذه، فاجد الكل منشغلاً بالحديث المتواصل، الدافئ، الدافئ…قال الطبيب لي…أمسك الطاولة من طرفيها. تدور المقهى مرّات لا عدّ لها، مثلما دارت بي الجدران في المستشفى التي نُقلتُ إليها…

كانت الحجرة صغيرة وانيقة، تنتظم صفوف الزجاجات الملونة فيها على رفوف دولاب حديدي ابيض، مغطى بزجاج شفاف، ووضِعت باقة ورد فوقه. أمامي سرير ضيق، مكسوّ فراشه بمشمّع بنّي. يشير الطبيب مدمدما بكلمات غامضة. أرجع خطوة إلى الخلف. تمسكني أذرع قوية لرجال يضعون على رؤوسهم طرابيش زرقاء. اقهقه لمشهدهم. أبكي. اصرخ بهم دون كلمات: لست مريضا، اتركوني. اعض ذراع احدهم، لكن الاصابع الحديدية ترميني على السرير. تلتف حولي افعى، فتشل ذراعيّ، ويمسك آخر ساقيّ. يضع أحدهم في فمي فلينة تعبق منها رائحة الكحول الطبي. ألمح الطبيب حاملاً حدوة حصان. يثبّت طرفيها على صدغيّ…و…زززززززززز… ينفجر المصباح الدائري فوق عيني، يتفتت إلى شلاّل دافئة مياهه، يتبدل لونه: أخضر، أزرق، أرجوانياً، ثم ظلاماً مطلقاً…

أنقث دخاني إلى أعلى فرِحا، ينفث جاري، ينفث الجميع، تنفث القوارير. رنين يصلني، همس، وشوشة، ضحكات. يمر الناس يساراً ويميناً خلف زجاج النافذة كأنهم دمى تحركهم آلة خفية، فاشعر بانفصال عنهم، بانشداد لدفء المقهى.

قالت الممرضة: ألا تذكر سبب مرضك؟ صدمة عاطفية أو موت قريب تحبه كثيرا؟

ــ لا أدري.

ــ ما زلتَ فاقداً لذاكرتك؟

ــ أشياء كثيرة اتذكرها، لكن لا رابط يجمعها.

قالت ضاحكة: ذاكرتك تكسّرت إلى أجزاء… عليك أن تجبّرها من جديد…

يكركر مثيلي عالياً، يندفع في الغناء، بصوت عنيف، متحشرج، فيعمّ الصمت المقهى. يأتي النادل إليه حانقاً،يمسكه من كتفه، يرفعه إلى أعلى، يدفعه بقوة صوب الباب. يلتفت إليه ضاحكاً، فيدفعه النادل ثانية، وثالثة، حتى يغيب خلف الدخان، ووسط العابرين والسيارات…

انطلقت “الفولكس فاكن” بنا، بعد أن أُغلِق باب المستشفى الخارجي. التفتُّ إلى مرافقي طالباً سيجارة، بكلمات تشبه دمدمة طبل مثقوب. ضحك الثلاثة مني طويلاً. سألني الجالس جنبي: ألا تغني لنا مقاما؟ شاركتهم الضحك حتى اغرورقت عيناي بالدمع. كانت أشجار الدفلى النابتة وسط الطريق مزهرة بمصابيحها الوردية، والسماء تشرّبت بضياء الشمس المتوهج حتى بدت لي زجاجاً بللورياً. دخلتُ معهم في بناية كبيرة محاطة بسور عال، فملأ الصقيع انفاسي للسكون الذي يدبّ فيها، وخيّل إليّ انني قضيت طفولتي في إحدى حجراتها. مررنا برواق يتموج بلاطه تحت أشعة المصابيح المخفية في السقف. دخلت معهم إلى حجرة تقع في نهايته. فاجأني مشهدها:سجاجيد، ولوحات فنية، واضواء خافتة، ومكتب لمّاع يجلس خلفه رجل أنيق. وقف أصدقائي الثلاثة قربي. قال بلهجة أب حنون: تحسنتْ صحتك كثيراً…اندفعتُ متضرّعا إليه بثغاء متقطع ألاّ يدخلني المستشفى ثانية. أضاف وهو يغلق ملفّاً تحت ناظريه: سنطلق سراحك غداً.

كيف يتركونني وحيدا، وسط حشد غريب عني، لا يجمعني به أي شيء…كانوا لطفاء معي، أعطاني احدهم علبة سجائره، قدّم لي الجالس جنبي نقودا، ومنحني السائق هذا النرد. قال عندما أوقف السيارة قرب المقهى: زرنا متى تشاء. غمز لي ضاحكاً، عابثاً بشعري.

كم أتوق لرؤيتهم، للقائهم، للتحدث معهم. كم أفتقدهم…

وهران 1984

*من كتاب “العبور الى الضفة الاخرى”، دار الجندي،دمشق، 1992

 

اقرأ ايضاً