الواقع المرئي بالمقلوب

1٬809

 

لعل الخطأ الذي وقع فيه الماركسيون العراقيون الأوائل هو انهم تجاهلوا ادخال عناصر أساسية تدخل ضمن الحقل الثقافي الذي هو عنصر أساس في ما يعرف بالبنية الفوقية في المنهج الماركسي، فمفكر مثل ماكس فيبر اعتبر ان انتشار وترسخ الرأسمالية في المجتمعات البروتستانتية تحقق بسبب القيم التي رسختها الكالفنية في اعتبار العمل والادخار وتوظيف الرأسمال قيما مقدسة. كذلك فإن البروتستانتية رسخت العلاقة المباشرة بين الفرد والإله، وحلت طبقة رجال الدين والكنيسة باعتبارهم سلطة تتدخل في الشأن الدنيوي.

الماركسيون الرواد في العراق استعاروا منظار ماركس في رؤيته للمجتمع الصناعي البريطاني فأقصوا بذلك العلاقات العشائرية وما تفرزه من قيم وتقاليد مغروزة ضمن الذاكرة الجمعية وأشكال التعصب الديني والمذهبي بما فيها عادات التحريم والتكفير والامتناع عن تناول طعام الملل الأخرى وغيرها. فحتى لو أن جزءا من المجتمع آنذاك كان مدينيا فإن هذه القيم العشائرية قد اتخذت أشكالا متعددة في نشاطات أبناء المدن أنفسهم. كذلك هو الحال مع دين الأغلبية: الاسلام وما فرزه من  تأويلات مختلفة لتاريخ الصراعات على الحكم بعد وفاة النبي في القرن السابع الميلادي. وقد شكلت هذه الاختلافات خلال القرون السابقة أنواعا مختلفة من الطقوس والعادات والرؤى وأنواعا مختلفة من سرديات دينية للتاريخ.

لعل هذا الواقع الذي يشكل جزءا من البنية الفوقية كان موضع تجاهل سلطات الاحتلال البريطانية بافتراضها أن النظام الديمقراطي الليبرالي في بريطانيا ( الذي تأسس بعد صراعات فكرية وعسكرية استمرت قرونا)  سيكون قابلا للتطبيق في كيان ظل محكوما وفق نظام الملل لقرون وهو تحت الحكم العثماني، ناهيك عن حقيقة التعدد الاثني في واقع تعيش هذه التشكيلات فيه بعزلة شبه كاملة عن غيرها ولقرون.

هذا الاغماض الكامل عن خصوصيات المجتمع العراقي جعل من الممكن تقسيم المجتمع على أساس ملكية وسائل الانتاج. فشيوخ العشائر هم اقطاعيون وأبناء عشائرهم هم المضطهَدون الذين يجب أن تعود الأراضي الزراعية لهم. كذلك فقد تم أغماض العين عن حقيقة وجود التوقير الكبير والتقديس شبه المطلق بين قطاعات شعبية واسعة لشخصيات دينية حية أو ميتة، وإغماض العين عن مدى تفشي الخرافات في مجتمع كان عدد طلاب مدارسه عام 1920 لا يزيد عن 200 شخص.

وكأن النجاح بكسب عدد كبير من المثقفين الذين وجدوا في الحزب الشيوعي المنفذ الوحيد للخروج من شرنقة الانغلاق الخانقة التي عاشها المجتمع العراقي منذ الغزو المغولي ومنذ تحوله الى أراضي كلأ للعشائر البدوية المتنقلة ما بين الجزيرة العربية وأرض السواد قد مكن قادته من خلق وهم بغياب هذه العناصر المتجذرة في البنية الفوقية للمجتمع، أي في أعماق شخصية الفرد العراقي. بل وحتى تلك الجزيرة الصغيرة التي نجح الحزب الشيوعي في تكوينها لم تنج من هذا الموروث خارجها. فالإيمان بقدوم المهدي المنتظر كي يقيم العدل حل محله إيمان ضبابي بيوتوبيا ستأتي قريبا حتى بغياب أبسط أشكال الصناعة وغياب أبسط أشكال الطبقة العاملة الصناعية.   .

ساعد هذا المنظار المستعار على تقسيم المجتمع الى خانات : فهنا التقدميون وهناك الرجعيون، وهنا الإقطاع وهناك العبيد، وعلى ضوء ذلك تم تحليل الصراعات الدموية التي اكتسحت العراق منذ ثورة 14 تموز 1958، فالكثير من المواجهات كانت بسبب هزال مؤسسات الدولة الأمنية وحلول الميليشيات المرتبطة بهذا التنظيم أو ذاك، برجل الدين هذا أو ذاك، بشيخ العشيرة هذا أو ذاك، أو بسبب خلافات أثنية أو طائفية قديمة على أرض ما أو عين ماء ما، أكثر منها نزاعات طبقية.

اتساءل الآن كم لعبت فتاوى رجال الدين بتكفير الشيوعيين في مذابح انقلاب 8 شباط الاسود عام 1963؟

لعل سقوط النظام السابق بعد نجاح الغزو الامريكي في احتلال بغداد وبروز كل عناصر البنية الفوقية المتجاهَل عنها بقوة جعلت الكثير منا يظن أن نكوصا وقع للمجتمع وهو يشاهد عودة أبناء شيوخ العشائر ليلعبوا دور البديل عن الدولة بعد تفكيكها في توفير الأمن وفض الخلافات الشخصية والتجارية وبروز مسيرات الملاييين لزيارات منتظمة دؤوبة للأئمة وانتشار التقديس شبه المطلق لوجوه دينية ينقصها حتى إتقان العلوم الدينية واللغوية الأولية. .. كيف سيكون شكل الحزب الشيوعي العراقي ومساره لو أنه أخذ منذ البدء هذه العناصر الجوهرية من بنية المجتمع الفوقية بعين الاعتبار خلال الثمانين عاما من عمره؟

ما نراه اليوم أشبه بصحوة من حلم طويل بقي الكثير من مثقفي اليسار العراقي غارقا فيه. إنه الواقع الذي أقصاه المنظار المستعار دون إجراء تعديلات محلية عليه.

انتظار قدوم هرقل الذي سينظف إسطبلات الملك اوجياس الطافحة بالروث خلال يوم واحد جسب الأسطورة الإغريقية هو الحلم المشترك  الذي يجمع الأغلبية حوله اليوم وامس وغداً.

إنها الحلقة المفرغة مرة أخرى.

 

 

 

اقرأ ايضاً