بوريس جونسون: مرآة العزلة العميقة عن “الآخر”
في كتابه “الإنجليز، بورتريه شعب” يسعى الإعلامي البريطاني السابق جيريمي باكسمان إلى تفكيك الشخصية الإنجليزية، من الداخل ليمكّن القارئ (ابن جلدته) من فهم الآليات التي تتحكم في اختياراته وسلوكه. مع ذلك، فإن المؤلف يمضي خطوة أبعد في رصد الطرائق التي تتحكم بالعمل المهني وبجوانب حياتية اجتماعية أخرى.
يظل الكتاب معتمدا على الأمثلة الحية ليؤكد باكسمان من خلالها قناعاته. ولعل هذا النوع من الكتب المكرسة لتسليط الضوء على الخصائص التي تميز الإنجليزي عن غيره، نادرة في إنجلترا، فغالبا ما نجد المثقفين الإنجليز الذين سافروا إلى الخارج وعاشوا في مجتمعات مختلفة، حريصين على مراقبتها من الخارج والكتابة عنها لأبناء جلدتهم، ونادرا ما نجد أيا منهم ينغمر تماما في الحياة هناك عاطفيا وفكريا، كما هو الحال مع العديد من المثقفين الفرنسيين والألمان وغيرهم.
وهذا ليس بسبب طبيعة عنصرية محض بقدر ما هو ناجم عن حساسية شديدة التميز تجعل الإنجليزي عاجزا عن تقبل ما يمكن اعتباره من وجهة نظره “غرابة أطوار الآخر” سواء في التعبير المفرط بعاطفته أو التقلب المكشوف في مزاجه، والاستعداد للكشف بجرأة عن قناعاته وأفكاره للآخرين.
على العكس من ذلك، نجد الشخص الإنجليزي شديد الحرص على التكتم في التعبير وتجنب حالات الانغمار العاطفي مع الآخر.
يعطي باكسمان في كتابه مثلا عن أولئك المهندسين الذين يأتون من بلدان أخرى سواء أوروبية أو شرقية للعمل في مصانع وشركات في بريطانيا، إذ اشتكى العديد منهم له كيف أن زملاءهم الإنجليز لم يدعوهم يوما إلى بيوتهم خلال فترة إقامتهم في بريطانيا، إلا مرة واحدة، قبل مغادرتهم البلد.
كذلك، يقف الكتاب عند طبيعة بناء السكن الاجتماعي حيث الشوارع خالية من السكان ولا يلتقي الجيران فيها، على عكس ما هو سائد في العديد من بلدان أوروبا، فهنا تشكل الحديقة الخلفية مركز الحياة العائلية التي لا يصل إليها إلا أفراد من العائلة بين وقت وآخر. وإذا أراد الفرد أن يلتقي بجار ما فربما البار المحلي (الدار العامة) هي المكان الوحيد للتواصل معه.
في مقابلة أجرتها صحيفة الاندبندنت أخيرا مع عدد من ناشطي حزب المحافظين الإنجليز، قالت امرأة في سن الثانية والثمانين إن النجاح في الخروج من الاتحاد الأوروبي يعادل انتصار بريطانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ولعل هذا المثال يعكس حالة الرعب من “الآخر” الأوروبي الذي دخل من دون أي عوائق إلى هذه الجزيرة المعزولة التي ما زال الكثير من أبنائها يعيشون خارج لندن حياة رعوية تذكّر بأجواء جين أوستن من القرن التاسع عشر، فالباص يمر في بعض القرى مرة واحدة في الأسبوع ليذهب بعض سكانها إلى بلدات صغيرة للتسوق والعودة إلى مساكنهم في ساعة مبكرة من المساء، إذ أن أغلب المحلات تغلق أبوابها عصرا ولا يبقى سوى الدار العامة (البار المحلي) مفتوحة إلى الساعة الحادية عشرة ليلا.
يذكر باكسمان أيضا كيف أن إمكانية حفر نفق عبر البحر لإنشاء قطار يربط ما بين الجزيرة البريطانية وفرنسا (أي قارة أوروبا) كانت متوفرة في أواخر القرن التاسع عشر، إلا أن معارضة عدد كبير من الوجوه الإنجليزية البارزة لإنشائه أدى إلى إلغاء المشروع، والأطرف في هذه الموضوع أن العديد ممن وقّع على مذكرة الالتماس كانوا شخصيات مشهورة بليبراليتها وانفتاحها على الثقافات الأخرى.
يحاول باكسمان فهم ظاهرة الحذر من أوروبا (وربما من العالم) لدى الفرد الإنجليزي، فينقلنا إلى ما حدث بعد انتصار الأسطول البريطاني في معركته البحرية الشهيرة ضد الاسطول الإسباني عام 1588 خلال حكم الملكة اليزابيث الأولى، تطورت الأساطيل البريطانية إلى الحد الذي أصبحت فيه قادرة على حماية كل الجزيرة من كل الجهات. لذلك وعلى العكس من المدن الأوروبية التي بنيت أسوار حولها وكان سكانها جاهزين دائما لوقوع هجوم خارجي ضدها أصبح الإنجليزي قادرا على التنقل بحرية داخل الجزيرة دون خوف او قلق، لكنه في الوقت نفسه تعمق لديه ذلك الحذر من الأوروبي الكامن في مكان ما استعدادا للهجوم على الجزيرة.
يقول باكسمان إن هذه الحرية داخل الجزيرة سمحت ببناء المدن بطريقة مختلفة عن تلك المبنية في أوروبا فهناك نجد السور يحدد المدينة ويضع كل أبنائها في حالة استعداد للنفير العام إذا حدث هجوم ما عليها، بينما في بريطانيا انتفى هذا الشرط فأصبحت مدنها مثل لندن على سبيل المثال أقرب إلى قرى متشابة تربطها طرق ودروب ضيقة.
لعل هذه الحالة التي تجمع ما بين الرغبة بالاستفادة من أوروبا والخوف من الانصهار في كيان أوسع متعدد الثقافات كان وراء ميل كفة مغادرة الاتحاد الأوروبي بفارق قليل على كفة البقاء فيه.
ولعل ذلك يكشف حقيقتين متعارضتين: الأولى هي تمسك الأجيال المتقدمة في السن التي إما أن تكون عاشت قسوة الحرب العالمية الثانية خلال طفولتها أو عاشت ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية القاسية، فهي مشدودة إلى ذلك الإيقاع المختلف عن الإيقاع الأوروبي، فبدلا من المقاهي والمطاعم الانيقة التي تضج بها بلدان كفرنسا وهولندا وإيطاليا هناك “الدور العامة” (البارات المحلية) التي تتميز بستائرها السميكة التي تعزل الخارج الذي هو في الأساس معتم في الغالب بسبب غيومه عن الداخل المعتم بمصابيحه الشاحبة وسجاده السميك الرطب.
لقد جاء الاتحاد الأوروبي خلال التسعينات من القرن الماضي، ليفتح عوالم جديدة لم تألفها الأجيال السابقة بينما تلقفتها الأجيال الحديثة من مقاه أوروبية انتشرت بشكل هائل ومطاعم من شتى أنحاء العالم، وتوفرت فرص للشباب بالسفر الجوي الزهيد الثمن داخل أوروبا من دون متاعب ملء استمارات دخول أو خروج.
كذلك أدى هذه الاندماج في السوق الأوروبية المشتركة إلى زيادة الخيارات أمام البريطانيين في تسوقهم سواء كان في مجال الطعام أو الملبس أو السلع الكمالية الأخرى، وبأسعار أرخص. في المقابل، شجع غياب القوانين المقيدة لشروط العمل قدوم أعداد كبيرة من العمال والتقنيين الماهرين من بلدان أوروبا الشرقية ليساهموا وبأسعار أقل في ترميم وإعادة بناء الكثير من البيوت وأماكن التسلية بكفاءة عالية، مما جعل المدينة تبدو أجمل وأكثر حيوية من السابق.
وهنا دق ناقوس الخطر واستيقظت الروح التي ظلت تحت سطوة جزع مرير وهي ترى هذا الحضور الهائل من الأوروبيين “الأغراب”.
كشفت أرقام من صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي أن المناطق الأكثر استفادة من الاتحاد الأوروبي، من حيث المنح الممنوحة لها، كانت الأكثر تحمسا لهذا الخيار.
لذلك، وعلى الرغم من أن بوريس جونسون يفتقد الاعتدال وضبط النفس في التعبير عما يعتمل فيها، والتسرع في التفوه بآراء جارحة ومسيئة للأقليات، مع شغفه المنفلت بالاستعراض إلى حد التهريج، والعجز عن ترتيب الأفكار والتعبير عنها بطريقة خالية من الانفعال المفرط، إلا أن هذه العيوب الواضحة أصبحت العلامة الفارقة للتعبير عما يعتمل في نفوس الأجيال الأكبر سنا، مرآة تمكنهم من استرجاع صورة الجزيرة: الواحة الخالية من هذا الفيض المتدفق من الأيدي العاملة الغريبة.
في ظروف أخرى سيطلق الإنجليز تعبيرا محببا لديهم على الأشخاص المفرطين في التعبير عن مشاعرهم مثل جونسون: غريبو الأطوار( eccentric)، لكن في هذه اللحظة التي أصبح الخروج من الاتحاد الأوروبي يعادل انتصار بريطانيا في الحربين العالميتين الكبريين، فإنه يصبح البطل المنقذ، وهذا قد يفسر التأييد الساحق له داخل حزب المحافظين.