تراجيديا إغريقية من نوع خاص

2٬740

ليس الهدف من المعرفة تحسين حياة الانسان فقط بل تهدف الى التخفيف عن مشاعر الإحباط واليأس العميقة التي جرفت هذا المجتمع او ذاك ، هذا الفرد او ذاك وجعلته بعيدا عما كان بإمكان أي منهما تحقيقه، وهذا بفضل المعرفة. لذلك فالمعرفة نوع من الأفيون مثلما هي نوع من المنبهات في نفس الوقت تجعلنا تقبل مصائرنا التي صغناها ونحن مغمضو العيون. 

ليست هذه المقدمة الا لتبرير تغيير قناعتي السابقة بان العراق لو تمكن من الاحتفاظ بنظامه الملكي المدني لبلغ اليوم مصاف دول جنوب أوروبا كإسبانيا او البرتغال كما كان يتوقع بعض الخبراء. 

واستحالة تحقق ذلك يعود الى سبب جوهري لم يلتفت اليه المؤرخون كثيرا فهم ركزوا على أمور ثانوية مثل إلغاء انتخابات عام ١٩٥٣ او دخول العراق في حلف بغداد، او العلاقة الوطيدة بين العراق وبريطانيا.

هناك حقائق نتفاجأ بها:

بين عامي ١٩٢١ و١٩٥٨ تشكلت في العراق ما يقرب من خمسين حكومة وكان معظم رؤسائها من المدنيين الاكفاء اصحاب الشهادات العليا. في حساب بسيط: معدل تشكيل الوزارات يزيد قليلا عن ١.٥ في السنة وأشك ان يكون هناك بلد تشكل فيه هذا العدد من الحكومات التي تساقطت الواحدة بعد الاخرى تحت أزمات سياسية حادة فجرها الشارع السياسي بالدرجة الاولى. 

بالمقابل لم يقم العراقيون باي انتفاضة ضد العصا العثمانية الغليظة التي ظلت تحكمهم لأربعة قرون وإذا كانت هناك انقلابات عسكرية فهي كانت في حقبة المماليك حيث كانت ازاحة مملوك يتحقق على يد مملوك اخر وحيث الجنود العثمانيون هم اداة تنفيذ التغيير. 

ومقارنة بذلك نجد ان المؤسس للدولة العراقية فيصل الاول الذي توج ملكا على العراق تعويضا عن وعود البريطانيين لأبيه الشريف الحسين بان يكون ملكا على دولة الهلال الخصيب بالكامل كان من دون اي عصا بل هو يقول في مناسبة ان عدد البنادق بيد المدنيين وخصوصا أبناء العشائر اكثر ما تمتلكه الشرطة.

كيف تعامل المثقفون العراقيون مع هذا الشخص الأجنبي على الرغم من كل ما يملكه من حكمة وصبر؟ معروف الرصافي كتب عن البلاط الملكي أبياتا من الشعر لو انه قالها ضد اي شخص عادي في دول اخرى لحوكم وسجن عليها لما فيها من إساءة : بلاط ام ملاط … ولم يكتف بذلك بل وصف الملك فيصل بانه شخص لا عمل له سوى أخذ راتب من دون مقابل. مع ذلك دعاه الملك فيصل الى بيته المستأجر: قصر شعشوع ليعاتبه فقط فما كان من معروف الرصافي تحت أسئلة العاهل المحرجة ان ترك غرفة الاستقبال البسيطة دون ان يستأذن بالخروج. هل كان الرصافي الذي كان يعتبر افضل ممثل للمثقفين العراقيين انذاك يتجرأ القيام باي من إساءاته ضد الملك فيصل الاول لو كان الاخير مالكا عصا غليظة؟

آلت نهاية العائلة الملكية الكارثية وما جرته من صراعات سياسية دموية إلى فتح الباب على سلسلة انقلابات عسكرية، وهذه بدورها عبدت الطريق لبروز مؤسس منظمة حنين السرية الدموية وانتزاعه الحكم بسهولة. 

لكن الخطأ يتحمله الساسة البريطانيون وهم ارتكبوا خطأين معا: الاول يتمثل بجلب شخص الى الحكم لا يقف وراءه حزب قوي او عائلة قوية او عالم دين كاريزماتي يتمتع بجماهيرية واسعة، كذلك هو لم يقض فترة قبل تتويجه في العراق كي تتصلب قناته ويبني اواصر قرابة جديدة مع مجتمع تشكل العشيرة عنصرا متجذرا فيه ناهيك عن قوة الموروث الديني والمذهبي. يكتب ابن خلدون في مقدمته ان اي صاحب رسالة بمن فيهم الأنبياء بحاجة الى عائلة قوية ذات نفوذ كبير كي يستطيع ضمان الحماية وإلا سيكون مخذولا مثل النبي صالح بين قومه. وأفضل مثال على ذلك تمكن العائلة المالكة السعودية من البقاء لما يقرب من قرن. بالتاكيد كان مؤسس الدولة عبد العزيز يتمتع بالحنكة والكاريزما لكنهما لم تكونا كافيتين من دون وجود الحلف القديم الذي أسسه جده سعود مع مؤسس المذهب الذي عرف باسمه: محمد عبد الوهاب، وانتشاره الواسع في مناطق نجد البدوية، ووجود عبد العزيز على الارض طوال سنوات عمره قبل الاستيلاء على نجد والحجاز وهو يقاتل ويحشد ويهدد ويعاقب ويكافئ.

لو ان الساسة البريطانيون دعموا شخصية تملك قدرا من الفظاظة والعنف مثل طالب النقيب او الشيخ خزعل ليكون ملكا فلربما كانت فرصة النجاح اكبر فهذان الشخصان كانا مهابين بسبب نفوذهما المتجذر ولديهما سلطة وتأثير على فئات من المنتفعين الذين كانوا قادرين على فرض قدر من الاستقرار مثل الاستقرار الذي فرضه العثمانيون بفضل عصاهم الغليظة.

في ظروف بلد كالعراق ينطبق قول ميكافيلي حين يقول إنه ليس من الضروري أن يكون الحاكم محبوبا بل ان يكون مهابا.

الخطأ الثاني هو اختيار النظام الديمقراطي الليبرالي المتبع في بريطانيا. هذا النظام جاء في بريطانيا ثمرة تطور تدريجي انتُزعت فيه سلطة الملك من يده خطوة خطوة لأكثر من قرنين ورافقه ظهور النظام الراسمالي الذي من مقتضياته تشغيل أعداد ضخمة من العمال ووجود آلية قريبة في العمل وتنظيم النقابات الى النظام الديمقراطي الليبرالي الذي برز كتحصيل حاصل. جاء الحكم التداولي بين حزبين بعد ترسخ الدولة وبدئها باداء دورها الخدماتي للمجتمع دون تدخل الحاكم لا قبله. 

لقد فهم أسلافنا السياسيون ان المعارضة لا تعني المعارضة من داخل الدولة التي هي في طور النشوء والمساهمة في تجذرها وترسيخها بل ظلوا يعملون على زعزعتها عبر الإضرابات والمظاهرات غير المرخصة. لقد اعتبر بعض القادة اليساريين آنذاك حتى  منهج الاشتراكية- الديمقراطية  السلمي  تحريفيا وأقل بكثير من إسقاط دولة “البرجوازية والإقطاع”  وإقامة ديكتاتورية الطبقة العاملة حتى في حالة غيابها. فحزبها في نهاية المطاف هو الممثل عنها حتى لو كانت ما تزال جنينية، فهو الذي سيحكم بالنيابة عنها. 

اضافة الى ذلك، كانت إقامة حكم برلماني حقيقي في بلد لا يزيد عدد طلاب مدارسه عن ٢٠٠ ( كما يذكر حنا بطاطو) عام ١٩٢١ وتزيد نسبة أبناء العشائر المقيمين في الريف على أبناء المدن بنسبة كبيرة يحول اي ممارسة لحكم ديمقراطي ليبرالي ( بوجود عاصفة ثورة أكتوبر في الخلفية) عملا دونكيشوتيا اقرب الى المستحيل.

لذلك لم يعر المجتمع اي وزن لسياسييه العراقيين طالما انهم تحت مظلة الحكم الملكي المستضعف بالمطلق خصوصا بعد وفاة فيصل الاول المبكرة عام ١٩٣٣ وترك ابنه المتهور الشاب غازي ليتوج بعده. 

لعل هؤلاء السياسيين ذوي التحصيل العلمي والأكاديمي البارز مثل توفيق السويدي وفاضل الجمالي ظلوا موضع احتقار الأطراف المعارضة لأنهم تحت حكم شخصيات مغتربة عن التربة العراقية كالأمير عبد الاله الذي جلب  ليكون وصيا على الطفل فيصل الثاني بعد وفاة والده الملك غازي. 

لقد ظل نوري السعيد العصا الغليظة الوحيدة التي كان البلاط الملكي يعيدها لرئاسة الحكومة كلما اقترب الحكم الملكي المدني من حالة الفوضى والانهيار فيبدأ بمناوارته ولوي العضلات هناك وهناك وتقديم المغريات هنا وهناك لإعادة الحياة السياسية الى قدر من الاستقرار. لكن نوري السعيد لم يكن يملك نفوذا حقيقيا فهو لا يملك حزبا عقائديا ولا عشيرة قوية ولم يسع الى كسب طائفة ما على حساب طائفة اخرى. والطريف بالأمر ان من كان يؤيده بالدرجة الاولى هو شيوخ العشائر. 

لذلك جاء قتله بشكل بشع على يد العامة بعد نجاح الانقلاب العسكري فجر يوم ١٤ تموز بقتل الملك والوصي ، ولم يكن لنوري السعيد من حماية اكثر من سائقه، وقد هرب من بيته الخالي من اي حرس حقيقي. ولو ان الانقلاب فشل للاقى منفذوه مصيرًا مثل مصير نوري السعيد وربما على يد نفس اولئك الذين سحلوه ومزقوا جثته: المهم ان المنتصر هو الذي يحدد اتجاه البشاعة. 

ما أصل اليه ان الحكم الملكي كان محكوما عليه بالسقوط، للاسباب التي ذكرتها، كذلك هو الحال مع الحكم الذي قام على أعقاب سقوط الجمهورية الاولى. كان على قائد الثورة ان يخلق قبل الوصول الى الحكم تيارا قويا من المؤيدين المخلصين له من حركة الضباط الأحرار .. لكن العكس هو الذي حدث. لعل عبد الكريم قاسم حين واجه قتلته وحيدا فكر  بخطئه القاتل: فرض قاتله عبد السلام عارف على حركة الضباط الأحرار عضوا فيها قبل اقل من سبع سنوات. 

لا استبعد لو ان الضباط الذين ساهموا باسقاط الحكم الملكي كانوا يعلمون ما سينتظرهم لترددوا كثيرا .. لكن ذلك لن يمنع مجموعة عسكرية اخرى من القيام بعملية اخرى لإسقاطه.. الحكم الملكي محكوم عليه بالفناء منذ نشأته ، وان يكون مصير العراق على كف عفريت هو بفضل طليعته المثقفة او المتعلمة .. قبل ان تصبح هي نفسها مهمشة على يد اميين من نوع خاص اصطفاهم مهندسو الاحتلال اولا قبل ان يصبحوا طوفانا يفرض ذائقته وسياساته وفساده لاحقاً.

يقول جيمس جويس: “التاريخ كابوس أحاول أن أصحو منه” وفي الحالة العراقية ماذا يمكن فعله إذا كان التاريخ ساكنا في الحاضر كضيف ثقيل لا يقبل المغادرة.

 

 

 

 

اقرأ ايضاً