في تقريظ الصداقة

2٬149

شهد القرن العشرون ظهور مدارس أدبية وفنية عديدة شاركت في صياغة ذائقة المتلقي وأغنت رؤيته واحتياجاته الروحية. وما يجمع الكثير منها هو نشوؤها على يد صديقين أو ثلاثة أو أكثر عبر حوارات وتجارب مشتركة جمعتهم معا، لتحقق رؤى وكشوفات جديدة ذات أهمية بالغة في تاريخ الأدب والفن المعاصرين.

ففي بداية القرن العشرين كانت الصداقة التي جمعت بين بيكاسو وبراك نقطة تحول في الفن التشكيلي، فمن خلال تبنيهما رؤية مشتركة تمكنا من تطوير المدرسة التكعيبية التي تحلل عناصر اللوحة إلى إسطوانات ومخروطات وأشكال هندسية أخرى، ضاربة عرض الحائط بالمنظور الذي ظل منذ عصر النهضة أساسا لشتى المدارس الفنية في الرسم.

ولقد بلغت الرؤية المشتركة بين الصديقين بيكاسو وبراك حدا جعلهما يقدمان أعمالا يصعب تخمين أي منهما وراءها، على الرغم من أنهما كانا يرسمان في مشغلين مختلفين.

كذلك هو الحال مع الرسامين بول كلي وأوغست ماكيه اللذين سافرا معا في أبريل 1914 إلى تونس وهناك أنتج كل منهما رسوما للبيئة التونسية تشترك في المعالجة اللونية والتشكيلية للوحات، وإذا كان سوء حظ ماكيه لم يمهله أكثر من عدة أشهر-إذ كان من أوائل الذين قتلوا في ساحات الحرب العالمية الأولى- فإن رسوم تونس أصبحت علامته الفارقة التي حققت له موقعا مميزا في تاريخ الفن الحديث.

وإذا كانت الصداقات التي تنشئ رؤى فنية مشتركة ذات أهمية حاسمة في تطور العديد من الأساليب الفنية فإنها كذلك ساهمت في تطور أساليب فنية متعارضة، كما هو الحال مع بيكاسو وماتيس لاحقا. فإذا كان تكريس ماتيس جهوده على اكتشاف أنماط لونية جديدة، وتأثر بالزخرفة المغربية، فإن ذلك لم يمنعه من الاقتراب من تكعيبية بيكاسو، وهذا هو الحال أيضا مع بيكاسو الذي انتقلت عدوى أسلوب ماتيس إلى بعض من أعماله. ولعل العمر الطويل الذي حالفهما معا ساعد على إغناء إنتاجهما عبر التأثر المتبادل.

ولعل بروز الحركة السوريالية خلال العشرينات من القرن الماضي، بسعيها لدمج عالم الأحلام بالواقع المعيش، جاء ثمرة صداقة جمعت بين مؤسسها، الشاعر أندريه بريتون والكاتب جاك فاشيه خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، وكانت وراء ما تطور لاحقا ليصبح أسلوبا في الرؤية تخلل العديد من النشاطات الفنية والأدبية من نحت إلى مسرح إلى سينما إلى شعر إلى قصص وروايات.

أهميّة الصداقة هذه لا تقل عند الناس العاديين أيضا، فهي تساهم بشكل عضوي في تطور الفرد، وكأن الآخر بالنسبة إليه المرآة التي يرى نفسه عبرها: يحاورها، يقارنها بالغير، يزنها، يكتشف حدودها، يتحفز على تجاوزها. إنها تملك نفس الأهمية أو أكثر من العلاقات العائلية والعاطفية. لكن ما يميزها عن غيرها هو امتلاكها بعدا إضافيا: إنه الحرية. فإذا كان إنهاء العلاقة بالأب أو الأم أو الأخ أو شريك الحياة يجلب معه مشاعر عميقة بالذنب وجروحا عميقة في الروح، فإن إنهاء العلاقة مع الصديق مؤشر على الانتقال إلى مرحلة حياتية جديدة. ومن هنا يمكن القول إن علاقة الصداقة تنتهي ولكن الصداقة نفسها وشم لا يمكن إزالته. وهذا لأننا أصبحنا بفضل هذه الصداقة أو تلك أشخاصا مختلفين عما يمكن أن نكون دونها.

أحد الأسباب وراء انتهاء العلاقة بين الصديقين هو طبيعة الصداقة كمرآة. نحن عبر الصديق الذي يصبح مرآة لنا نكتشف أحيانا جوانب في أنفسنا لا نريد أن يعرفها الآخر، أو أننا نخادع الذات الغيرية بنكران تلك البقعة المظلمة فينا فنسقطها على الصديق. نحن بإنهاء علاقة الصداقة التي تجمعنا بالآخر نقصي مرآة ما عاد وجودها مريحا بالنسبة إلينا.

هناك سبب آخر، يتعلق بطبيعة الصداقة التي تتضمن قدرا من التنافس اللاشعوري: نحن نقيس عبر المرآة (أو الصديق) مدى نجاحنا أو فشلنا من خلال مقارنتهما بنجاح أو فشل الآخر. كان سارتر يقول إنه يخشى من صمت كامو على الرغم من الصداقة التي جمعتهما باعتبارهما أبرز علمين في الحركة الوجودية الفرنسية التي برزت إلى السطح بعد الحرب العالمية الثانية. ولا أستبعد أن غضبا مسه حين منح كامو جائزة نوبل للآداب عام 1957. فمقارنة بما أنتجه كامو من أعمال أدبية لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة كان سارتر قد أصدر قائمة طويلة من الأعمال الأدبية والفلسفية، على الرغم من أنه رفضها عندما منحت له عام 1964 تحت ذريعة أن “الكاتب يجب ألا يحوّل نفسه إلى مؤسسة”.

قد يتساءل البعض عن تلك الصداقات التي حملت قدرا عاليا من نكران الذات. ولعل أهمها في القرن العشرين تلك التي جمعت ما بين الشاعرين تي إس إليوت وإزرا باوند، فالفضل يعود للأخير في تنقيح قصيدة إليوت الشهيرة: الأرض اليباب، بحذف أجزاء منها، وبفضل ذلك أصبحت قصيدة “الأرض اليباب” معلما بارزا في تحديث الشعر ليس على مستوى العالم الأنجلو-ساكسوني بل على المستوى العالمي، وهذا ما جعل إليوت يهدي قصيدته لباوند معرّفا إياه في مقدمتها بـ”الصانع الأمهر”.

لعلنا نقول إن هذه العلاقة تخرج عن الصداقة. إنها علاقة أبوية، على الرغم من أن إزرا باوند يزيد إليوت بثلاث سنوات فقط. لكنه خلال العقد الثاني من القرن الماضي كان يعمل محررا لعدد من المجلات الأدبية الأميركية وهذا ما جعله حريصا على تقديم الأدب الطلائعي والمساهمة بصياغة ما كان ينتجه بعض الأدباء الناشئين مثل جيمس جويس وهمنغواي وروبرت فروست ونشره في تلك المجلات.

هناك علاقة صداقة من هذا النوع جمعت ما بين سيغموند فرويد وتلميذه كارل يونغ. وكان الأول يأمل بأن يحمل الثاني مشعل أفكاره بعده، لكن يونغ وبعد تشربه بالتحليل النفسي الذي أسسه فرويد مضى خطوة أبعد بصياغة أسلوب خاص به أطلق عليه علم النفس التحليلي. وقبل ذلك انتهت علاقة الصداقة بينهما إلى حدّ القطيعة.

انتهت العلاقة بين فرويد ويونغ إلى حد القطيعة لأن التلميذ لم يكمل أسلوب معلمه ولكنه توصل إلى فكر خاص به

بالمقابل، هناك علاقات تبدو وكأنها نكران للذات لكنها تحمل بعدا تمجيديا للذات. فأفلاطون حول أستاذه سقراط بعد وفاته إلى بطل لكل كتاباته.ووراءه اختفى أفلاطون. فكل الأفكار التي طرحها في كل كتبه بدا وكأن أفلاطون مجرد وسيط بين أستاذه الراحل سقراط والقارئ.
هذه الحال تتكرر مع الشاعر جلال الدين الرومي وأستاذه الدرويش شمس التبريزي. فبعد موت الأخير الغامض أعلن الرومي أن المتصوف شمس قد أصبح جزءا منه، وما سيكتبه ليس سوى صوت صديقه الراحل. ومن هنا أنجز جلال الدين الرومي أعظم أعماله: “المثنوي” و”أعمال شمس التبريزي”.

لعلي أتفق مع جلال الدين الرومي في رؤيته للصديق بصيغة أخف وخالية من الألم العميق؛ قد تنقطع العلاقة بين الصديقين لهذا السبب أو ذاك، لكن الصداقة نفسها لن تنتهي؛ إنها مثل الجرثومة التي تسربت عميقا في خلاياهما وغيرت في طريقها جيناتهما معا. إنها الحرية والعبودية إذن!

اقرأ ايضاً