حصار المجاعة: الشعب العراقي بين المطرقة والسندان*
*صحيفة الحياة اللندنية، 28/10/1995
تنتمي رواية ديفيد مايسون الأولى إلى مايمكن تسميته بأدب التجسس والمغامرة الذي برع فيه الروائي البريطاني لو كاري. هنا تختلط الحقائق مع الخيال بشكل مثير، وغالبا ما يكون الكتّاب قد اشتغلوا عن قرب أو عن بعد داخل حقل المخابرات. ما جعل هذه الرواية تكسب رواجا هائلا عند صدورها عام 1993 هو كونها جاءت في أعقاب حرب الخليج، وجعلت موضوعها شيقا للقراء الذين كانوا قد أدخِلوا من قبل وسائل الإعلام البريطانية، ولعدة أشهر، في أضخم عملية تهيئة نفسية وفكرية مورست خلال تاريخنا المعاصر لتحقيق انحياز الرأي العام كليا إلى جانب قوات الحلفاء عند بدء الهجوم الجوي على العراق . لأول مرة ستصبح أعمال القصف بالصواريخ لأهداف مدنية موضوعا للمتعة، لجمهور واسع من متفرجي التلفزيون المتابع بشغف نشاطات طياريه.
لكن يبدو أن الجمهور الذي توقع أن تنتهي الحرب بإزاحة الطاغية عن السلطة نهائيا، بعد أن ظلت صورته الملتقطة له في أوضاع بشعة، تتردد بشكل يومي في الصحف المحلية وعلى قنوات التلفزيون المختلفة، قد أصيب بخيبة أمل لعدم تحقق هذا الأمر، خاصة بعد أن كانت قوات التحالف قريبة من بغداد، وبعد ماأظهرته الأسلحة الحديثة وأجهزة الرادار المتطورة من قدرات في كشف تحركات الأفراد على الأرض من مسافات فضائية نائية جدا، وإمكانيات صواريخ توما هوك المسيرة بأشعة الليزر من اختراق اعماق الأرض.
إضافة إلى ذلك، فإن سماح قوات الحلفاء المتكونة بالدرجة الأولى من العنصر الأمريكي، للسلطة العراقية باستخدام طائرات الهيلكوبتر ضد المشاركين في الانتفاضة التي انفجرت بعد انتهاء كارثة حرب الخليج في شمال العراق وجنوبه، قد عمق هذاالإحساس بالخيبة لدى الجمهور البريطاني والأمريكي لبقاء الشرير حيا بعد كل الجرائم التي ارتكبها ضد البشر.
تهدف رواية ديفيد مايسون “شبح فوق بابل” إلى تحقيق هذه الرغبة لدى الجمهور، وهميا، وذلك بإرسال طاقم من الرجال المدربين على عمليات الاغتيال إلى العراق عبر الحدود الجنوبية، ثم قيامهم بتنفيذ مهمتهم بنجاح، في منتصف آيار (مايو) 1992.
من سياق الأحداث يتضح أن وراء مخطط اغتيال صدام حسين تقف الحكومة البريطانية عبر وسطاء غير مباشرين،في حين تقف الولات المتحدة ضدها تماما، إذ بعد اكتشاف حركة رجال هذا الطاقم ونشاطاتهم في مرحلة مبكرة من قبل مكتب الاستكشاف القومي، بفضل استخدام أجهزة الرادار المتطورة، توفرت لدى البنتاغون معلومات كثيرة عن هذه المجموعة المغامرة، وبعد دخولهم إلى العراق واستقرارهم في بناية تقع في مدينة حديثة، أصبح لزاما على الإدارة الأمريكية أن تتخذ قرارا بخصوص مخطط هذا الطاقم التآمري.
في اجتماع واسع يضم ممثلي وزارة الدفاع والخارجية والمالية، وبعد طرح جميع التفاصيل على الحاضرين من قبل ممثل مكتب الاستطلاع القومي، ينقسم المجتمعون إلى طائفتين: القادة العسكريون الذين يتمنون نجاح هذه المجوعة المغامرة في تحقيق ما منعوا هم من القيام به أثناء حرب الخليج. ومن جانب آخر، أولئك المدنيون المعارضون لفكرة الاغتيال. وإذ يشتد الجدل بين المجتمعين، ويطلب جون كيلي ممثل وزارة الخارجيةالأمريكية الذي كان يشغل منصب مساعد وزير الخارجية في حكومة جورج بوش، من رئيس الجلسة الحديث، ولا بد أن الكاتب قد نقل ما كان معروفا في الأوساط الأمريكية الحاكمة: “القضية التي هي موضع القلق، بالنسبة لنا هي مستقبل العراق كدولة، يتكون العراق حاليا بصورة أساسية من ثلاث دويلات داخل دولة. بدون قيادة قوية في القمة، سيؤدي الأمر إلى بلا شك إلى تفتت العراق، ولعل التفتت سيكون سريعا جدا. في الشمال سيسعى الأكراد إلى إنشاء دولة كردية مستقلة، وفي الجنوب، سينفصل الشيعة…هذا سيجعل الأقلية السنية في الوسط تأخذ مايتبقى. المشكلة هي أن أيا من هذه الكيانات غير قادرة على البقاء كوحدات منفصلة عن بعضها بعضا. ستكون المصالح الذاتية للبلدان المحيطة بالعراق جد فعالة. أنا أتكلم بشكل رئيسي حول تركيا وسوريا وبشكل خاص حول إيران. كل هذه القوى ستجر إلى الفراغ الذي يخلفه انهيار العراق”.
سيواصل كيلي بعد فترة صمت قصيرة، ليعطي أقواله وقعا مشددا: “منذ سنوات وإيران والعراق يقومان بشل قوة أحدهما الآخر ويحققان التوازن في الشرق الأوسط. تتذكرون كم كانت ملائمة لنا تلك الحرب التي اشتعلت بين البلدين…ببساطة جدا:ستؤدي تجزئة العراق إلى جعل إيران القوة المهيمنة عسكريا واقتصاديا في منطقة الخليج، ولن يكون بالإمكان عمل أي شيء لإيقاف هذا المد، سيأخذ التدخل الإيراني الشكل نفسه الذي سيأخذه التدخل التركي، إيران هي الأخرى لديها أقلية كردية ضخمة تعيش على حدودها، تبلغ الخمسة ملايين نسمة. لأسباب مماثلة لتلك التي تدفع تركيا للوقوف ضد الدولة الكردية. ستعارض إيران بشدة قيام دولة مستقلة على حدودها…”
بعد تفاصيل كثيرة حول طابع إيران المخادع في تحولها صوب الليبرالية وأن المتشددين ما زالوا يمتلكون نفوذا قابلا لأن يصبح كبيرا حال انهيار السلطة في العراق، يطرح ممثل وزارة الخارجية موقفه الذي يتفق معه الرئيس بوش: “لذلك فإن علينا أن نقبل بأهمية استمرار وجود الدولة العراقية لتحقيق توازن القوى والاستقرار في المنطقة، رغم أنه استمرارقلق…لسوء الحظ هناك شخص واحد يضمن وإلى حين ، بقاء العراق موحدا … على الرغم من كرهنا لهذا الرجل…إن صدام يظل الرجل القوي بدون منازع في البلاد، إضافة إلى ذلك، فهو قد تخلص من منافسيه الأقوياء”. سيضيف نائب وزير الخارجية استنتاجه الأخير بالشكل التالي: “هذه هي الوضعية : أنا أعرف الرجل ، ولدي تعاملات شخصية معه، ولفترة طويلة. إذا سقط صدام فإن العراق وبشكل مؤكد سينهار”.
أمام اقتراح لحل هذه المشكلة، ينجح أكثر المتشددين العسكريين الذين كانوا قبل قليل من المساندين لمشروع اغتيال صدام، في إقناع الحاضرين بوجود حل واحد: إطلاق صاروخي كروز من على ظهر السفينة “ميسوري” الرابضة في الخليج، على البناية التي يختبئ فيها طاقم المتآمرين، ولن يأخذ تنفيذ هذا الأمر أكثر من خمسة وسبعين دقيقة فقط.
لكن مسار الأحداث يتحرك بعيدا عن رغبات الأمريكان. ولجعل وجود صدام حيا ليومنا هذا غير متناقض مع ما تحقق من أمنية مختبئة في نفوس قرائه، سيقترح الكاتب أن ما نراه هو شخص آخر يمثل دور صدام، بعد أن وجدت القيادة العراقية نفسها في مأزق غياب الممثل الحقيقي وضرورة وجوده المعنوي لإبقاء الحكم قائما.
مع التطور الهائل في مجال الاتصالات ونقل المعلومات عبر الصورة المتحركة، أصبحت الحقيقة مختلطة بالفانتازيا، فما كان قد حدث قبل أعوام، يمزج مع أحداث طازجة لتنتج تأثيرا شعوريا معينا. من جانب آخر تعمق الشعور بالوحدة لدى الفرد والسلبية تجاه مايجري حوله، إذ اقتصر دوره أكثر فأكثر على ماينتقى له من صور على شاشة التلفزيون، من قبل تلك النخبة المختفية في المكاتب العالمية. هذه الحالة تتوافق مع الأشكال التي تطرح فيها القرارات القومية والدولية، ولعل حال الموقف تجاه العراق أفضل مثال على ما أعنيه هنا، فالسياسة الأمريكية على مستوى الممارسة ظلت من جانب، مفضلة إبقاء صدام حسين في السلطة، خلال فترة حرب الخليج وما تلاها. ومن جانب آخر ظل الحصار الاقتصادي على الشعب ساري المفعول ليومنا الحالي. وقد ظن الكثير منا أن ما تبحثه الإدارة الأمريكية هو بديل مقبول يضمن لها استقرارا مناسبا للمنطقة، بإبقاء العراق موحدا، وحينما هرب حسين كامل إلى الأردن مؤخرا،لاحت في الأفق ملامح مساندة أمريكية له، لكن العروض التي رافقت هروبه، من مؤتمرات صحافية إلى مناورات عسكرية مشتركة، تضاءلت تدريجيا، وكأن الإدارة الأمريكية اكتشفت أن المواصفات التي تطلبها من أي مرشح بديل لصدام غير متوافرة بصهره.
الشيء الوحيد الذي تم تحقيقه من عملية فرار حسين كامل، هو تمديد فترة الحصار الاقتصادي لا لمدة ثلاثة أشهر بل إلى إشعار آخر، تحت ضغوط أمريكية _ بريطانية، نتيجة لمخادعة السلطة العراقية للمراقبين الدوليين بما يخص برامج تطوير الأسلحة الجرثومية والكيميائية. والسؤال المطروح الآن هو ما الذي تريده الإدارة الأمريكية؟
يقدر الاقتصادي العراقي كامل مهدي في جريدة “الحياة” الصادرة في 12/4/1995، أن مشروع قرار مجلس الأمن المقترح من قبل الأرجنتين، لا يوفر للمناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة سوى 200 مليون دولار سنويا في حال وقف البيع غير المرخص وهو مايعادل 14 دولارا في السنة لكل من سكان تلك المناطق، لا 7 دولارات شهريا كما ذكر طارق عزيز، بعد دفع 60 في المائة من عائدات النفط كديون وتعويضات، ومع ذلك هذا الدخل لن يزحزح وضع الفرد العراقي عما هو عليه الآن بشيء …لكن أي قرارات أخرى حتى من باب المناورة، أصبحت بعيدة الآن …وكأن الملف العراقي قد أغلق، ولم يبق أمامنا إلا أن نردد مع دانتي في جحيم كوميدياه الإلهية، للثمانية عشر مليون رهينة: “أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل”.
في لقاء نظمته منظمة خيرية بريطانية، تهدف إلى مساعدة المدنيين العراقيين طبيا، بإيصال الأدوية المتبرع بثمنها من قبل الجمهور في بريطانيا إلى العراق، أصابت الحاضرين مشاعر الهلع لصور أولئك الأطفال الذين تحولوا إلى هياكل عظمية حية، تذكرنا بصور كنا ألفناها لضحايا الجفاف في إثيوبيا والصومال. وحينما سألت عن سبب عدم إعطاء هذه الصور للصحف المحلية، كان جواب المتحدثة في الندوة، أنهم قد فعلوا ذلك حال عودتهم من العراق لكن يبدو أن هناك منعا حكوميا بإظهار أي صورة من هذا النوع في أي منبر إعلامي بريطاني.
من تقارير منظمة اليونيسيف، يتضح أن معدل عمر الفرد العراقي سينخفض من 67 سنة إلى 47 سنة في حال استمرار الحصار لفترة أطول، وأن نسبة التشوهات الجسدية والعقلية لدى الولائد سيرتفع الى نسب خيالية، ناهيك عن ظهور وتزايد انتشار الأمراض الوبائية التي اختفت منذ فترة طويلة في العراق، مثل الكوليرا وشلل الأطفال. ولقد أصبح مألوفا للكثير من المرضى أن تجرى لهم عمليات جراحية بدون مخدر.
عقدت هذه الندوة قيل عام ونصف العام، فكيف يا ترى هو الوضع الحالي؟ آخر الأخبار التي تتسرب إلينا تشير إلى أن مناطق كانت مترفة كالباب الشرقي في بغداد، أصبحت مراكز يعرض الناس حوائجهم للبيع. هناك ستجد آلاف الرجال والنساء يقفون على الأرصفة ولمسافة طويلة، وهم يعرضون آخر ثرواتهم للبيع: أزواج أحذية عتيقة، قمصان وقطع أثاث بالية، ومن البديهي أن يقود وضع كارثي كهذا الناس للتفكير بحلول سريعة لسد رمق أطفالهم، بعض الآباء اتخذوا قرارات تبقي لهم ولعوائلهم الكرامة، وذلك بقتل جميع أفراد عوائلهم ومن ثم ينتحرون. آخرون اختاروا طرقا غير شرعية للنجاة من أنياب المجاعة. لكن مايحدث بشكل تدريجي هو تفكك لحمة المجتمع وسيادة قيم تنتمي إلى قوانين الغاب الغريزية، متناقضة مع متطلبات الحياة المدنية. ولن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي يقع فيه الانفجار العظيم، شئيا شبيها بالحرب الاهلية أو أسوأ منها، ليقود وبشكل تدريجي إلى تحول العراق إلى هوة سوداء.
يعرف الفيزيائيون الثقب الأسود بأنه نجم ميت. إذ بعد استهلاكه لكل الطاقة الناجمة عن الهليوم ينكفئ ذلك النجم على نفسه وتتجمع عناصره مع بعضها بعضا لترفع من كثافة مادته إلى درجة عالية جدا. وهذا الوضع سيخلق قوة جذب هائلة لهذا الثقب المعتم، مما يؤدي إلى سحب كل الكواكب والنجوم التي تقترب منه لتتهشم وتنسحب إليه كأشلاء صغيرة. يكتب العالم الفيزيائي ستيفن هوكنغ في كتابه “التاريخ المختصر للزمن” أن النجم الذي كان ثقيلا ومرتصا لدرجة كافية، سيكون له (بعد موته) مجال جاذبية جد قوي إلى النقطة التي لا يستطيع حتى الضوء أن يهرب منه. وكم تبدو بلدان مثل أفغانستان مماثلة للثقوب السوداء فها هي أصداء الفراغ بداخلها تنعكس على شواطئ البحر المتوسط البعيدة ومدن الشمال الأفريقي، عبر نشاطات الإسلاميين المتطرفين …فكيف سيكون الوضع حينما يحدث ذلك لبلد متنوع في قوميات ابنائه ودياناتهم وتياراتهم السياسية والمذهبية، ويقع في قلب الشق الأوسط المضطرب. هل ستكون المنطقة المحيطة بهذه الهوة السوداء بمنأى عن الانجذاب والتأثر والتفكك؟
من مجرى الأحداث التي تعاقبت منذ انتهاء حرب الخليج، يبدو لي أن الإدارة الأمريكية قد سعت إلى هدفين متعارضين، الحفاظ على السلطة القائمة في العراق والممثلة بصدام حسين وانتزاع مزيد من التنازلات منها، من جانب آخر إبقاء الحصار بشتى الطرق والمناورات، على العراق، ومع استمراره أدى إلى عملية تفكيك متواصلة للقوى الخلاقة في المجتمع، كالمؤسسات التعليمية والطبية والعلمية.فليس خافيا اليوم على أحد ، تزايد هجرة أكثر العقول العلمية والكفوءة الى الأردن وإلى شتى أصفاع العالم، وبشكل مضطرد، مقابل ضمور وموت النشاطات الاقتصادية والتجارية داخل الوطن.
ما تطلبه الإدارة الأمريكية من صدام حسين شبيه بخبز باب الآغا، الذي يضربه العراقيون مثلا لمن يطالب بالمستحيل، فيبدو أن هذا الخبز الأسطوري كان ساخنا ورخيص الثمن وهشا…وإلى أن يتم العثور على خبز كهذا يكون المستهلك قد انقرض هو نفسه!
ما أطالب به كمعارض للنظام العراقي، ليس رفع الحصار المباشر عن العراق، وإعطاء فرصة اخرى لصدام حسين للتبجح، بإضافة نصر جديد إلى ملف كوارثه. بل بالدعوة إلى وضع أسبقية في توزيع الدخل الناجم عن بيع نسبة من النفط العراقي، إلى احتياجات البلد الآنية..من توفير عاجل للمواد الغذائية والطبية، ودعم تلك القطاعات الخدمية المتضررة، كالمؤسسات الصحية والتعليمية. أما التعويضات للمتضررين من الغزو العراقي للكويت ، أو تكاليف العاملين الدوليين في العراق، فيشرع بدفعها حال إخراج البلد من القاع المظلم الذي بلغه، والذي أصبح مهددا لوجوده ككيان محدد. ومن الضروري أن يبقى للأمم المتحدة قدر من الإشراف غير المباشر على الكيفية التي ستستخدم السلطة العراقية فيها عائدات البترول وضمان تنفيذ توزيع الحصص المخصصة لاحتياجات المدنيين الأساسية، مع وضع وحدة الوطن بنظر الاعتبار وليس السعي عبر المناورات إلى تعميق التجزئة وتحويلها إلى واقع ثابت.
ومن خلال جميع قرارات مجلس الأمن المتعلقة بوضع العراق، نجد أن مسعى الويلات المتحدة وبريطانيا كان دائما يسير باتجاه شل أي قرار يأخذ بنظر الاعتبار وضع الشعب العراقي وحقيقة كونه نكب بحربين متلاحقتين وخمسة أعوام من الحصار، منع عنه حتى استيراد الأدوية، عدا ما لحقه على أيدي أجهزة النظام الدموية من بطش وتنكيل. وبدلا من إرسال البعثات لتقصي الآثار الرهيبة التي لحقت بالأطفال في العراق، أثناء تلك الحرب المروعة، نجد هذين البلدين يبذلان كل جهودهما لإفقاد أي قرار فاعليته الإيجابية في التخفيف من حجم الوضع المأسوي السائد في العراق،عبر تقليل حصته المقترحة من تصدير النفط وعبر وضع أسبقية جدولة الديون والتعويضات التي تحسم مباشرة من قبل مؤسساتالأمم المتحدة المتخصصة.
هذا الاقتراح مقدم لكل قوى المعارضة كي تسعى إلى إيجاد صيغة عملية وقابلة للتنفيذ، وطرحها على المجتمع الدولي ومؤسساته الرسمية: الرفع المشروط والتدريجي مرهون بمدى تنفيد السلطات العراقية لتوصيات الأمم المتحدة، والحديث عن السيادة الوطنية التي يتبجح بها النظام أحيانا هي ليست إلا دعابة ثقيلة. فالقرارات الفردية المتهورة التي اتخذها صدام حسين منذ إصدار امره الانتحاري الشهير بغزو الكويت فرطت ليست فقط بالسيادة الوطنية وباستقلالية السلطة في قراراته بل هي وضعت مستقبل وجود البلد نفسه موضع استفسار وشك.
مقابل ذلك ما نجده اليوم من بعض قوى المعارضة العراقية المؤيدة دون تحفظ لقرارات مجلس الامن، دون طرح بديل مستقل، عن طروحات النظام العراقي أو الإدارة الأمركية، يصب في مقولة صدام حسين القديمة نفسها: من يريد إسقاط السلطة في العراق سيتسلم أرضا بلا شعب…
قد يصل بعض قادة قوى المعارضة المؤيدين لاستمرار الحصار إلى مسرح السلطة يوما، لكنهم سيواجهون أمامهم، وعلى الأغلب، قاعة خاوية من الجمهور.