حينما يكف بانورَج عن اضحاك الناس: من كتاب “خيانة الوصايا”لميلان كونديرا

2٬187

ابتكار الدعابة

كانت السيدة الحامل، غراندوسير، قد اكلت الكثير من الكرشات، مما اضطرهم ان يعطوها مسهّلا؛ كان العقار جد قوي الى الحد الذي جرف معه المشيمة، ومعها انزلق الجنين غارغانتوا الى احد الاوعية الدموية، لينتقل الى اعلى جسمها، وليخرج اخيرا من اذن امه. من الاسطر الاولى، يظهر كتاب رابليه خاصيته: القصة المحكية هنا غير جدية: ليس هناك اي نص واقعي (سواء كان علميا او اسطوريا)، ولايوجد اي وعد بوصف الاشياء كما هي في الواقع.كان عصر رابليه متميزا: الرواية مازالت كالفراشة  لحظة خروجها من الشرنقة، وبدئها بالطيران.  ما زال بانتاغرويل، بتركيبه العملاق، ينتمي الى تلك الحكايات الرائعة القديمة، بينما نجد بانورَج قادما من مستقبل الرواية المجهول. انها اللحظة الخارقة للعادة، التي نشهد خلالها ولادة  فن جديد. والتي انعكست في كتاب رابليه المدهش؛ هذا الكتاب يتضمن كل شيء: الممكن والمستحيل، الحكاية الرمزية  allegory، الاهجوّة satire، الرجال العمالقة والاسوياء، النوادر، التأملات، الرحلات الحقيقية والوهمية، الخصومات الفكرية، انحطاط  القيم الاخلاقية النقية. كل ذلك يجعل روائي اليوم، الذي يقيده تراث القرن التاسع عشر الروائي، في حال من الحنين الحاسد لذلك العالم، المدهش، شديد التنوع،  لاولئك الروائيين الاوائل، وللروح المتحررة، المبهجة، التي انشأوا فيها اعمالهم.

مثلما اسقط رابليه بطله غارانتوا، الى مسرح العالم، عبر اذن امه، كذلك قام سلمان رشدي في روايته “الآيات الشيطانية”، باسقاط بطليه عبر الهواء، وهما يثرثران ويغنيان بطريقة غرائبية، بعد انفجار الطائرة التي تقلهما. في الوقت نفسه، “كانت فوقهم، خلفهم، تحتهم في الفراغ” تطفو كراسي نصف مطبقة، كؤوس ورقية، اقنعة اوكسجين، ومسافرون، احدهم ـ جبريل فارشتا ـ سابحا في” الهواء، كلمسة فراشة، كلمسة ثدي، ململما جسده ككرة متجهة صوب اللانهاية”، والاخر ـ صلاح الدين شامشا ـ كظل متنطّس  يسقط رأسه اولا، مرتديا بذلة رمادية، سترتها مزررة، ومادا ذراعيه الى جنبيه… على رأسه قبعة دائرية.” تبدأ الرواية بهذا المشهد، اذ مثل رابليه، يعرف سلمان رشدي بان العقد بين الكاتب والقارئ يجب ابرامه منذ البداية: يجب ان يكون واضحا بان الحكاية المنقولة هنا هي غير جدية، على الرغم من انها حول اكثر الاشياء فظاعة.تتضح المزاوجة بين المرح والفظاعة في “الكتاب الرابع” لرابليه: في البحر يلتقي زورق بانتاغرويل بسفينة مملوءة بتجار خراف. سيلتفت احدهم الى بانورَج، الذي لم يكن مرتديا الكيس الذي يغطي اعلى السروال، ( في ذلك العصر) ، والذي علق نظارتيه بقبعته، ليأخذ حريته في التحدث اليه دون اي حياء، بل سيسميه بالديّوث. سيكون انتقام بانورَج سريعا، اذ يشتري فورا من ذلك الشخص خروفا ويلقيه في البحر، وهذا ما يدفع الخراف الاخرى للمضي في القفز الى الماء. تحت وطأة الهلع الذي اصاب تجار الخراف، يقوم كل منهم بمسك قرون وجلود خرافهم مما يؤدي الى  سقوطهم  في البحر. يسحب بانورج مجذافا لا ليقوم بانقاذ التجار بل لمنعهم من التسلق ثانية الى السفينة، واثناء ذلك سيحضهم، بخطاب فصيح، على القبول بالموت، واصفا تعاسات هذا العالم وامتيازات ومسرات العالم الاخر ، مؤكدا  ان الموتى احسن حظا من الاحياء. مع ذلك فانهم اذا كانوا لسبب من الاسباب راغبين بمواصلة العيش، فهو يتمنى لهم ان يلتقوا بحوت مماثل لذلك الذي ابتلع النبي يونس. بعد غرق الجميع سيقوم صديقه الوفي جان بتهنئته بنجاح مساعيه في التخلص من التجار، لكنه في الوقت نفسه سيوبخه على دفع ثمن الخروف الاول الذي اشتراه، اولا، مما جعله يفقد نقوده في البحر، لكن بانورَج يجيبه:” اقسم بالله، بانني حصلت على متعة تساوي اكثر من  خمسين الف فرنك !”المشهد لا واقعي، مستحيل، ولكن هل هو على الاقل اخلاقي؟ هل يستنكر رابليه في هذا الفصل بخل التجار، الذين ستفرحنا معاقبتهم؟ او هل كان يسعى الى جعلنا نغضب من  قسوة  بانورج؟ او كونه معاديا للمؤسسة الدينية في عصره، حين يسخر من الصياغات الدينية الجاهزة  التي كانت سائدة انذاك، والتي يكررها بانورج في خطبته؟ احزروا! كل اجابة هي فخ.يقول اوكتاف باث: “لا وجود للدعابة Humour  لدى هوميروس او فيرجيل؛ وكأن ارسطو في بعض كتاباته  كان يتوقع  ظهورها، لكن لن تأخذ الدعابة شكلا حتى ظهور سرفانتس.. الدعابة هي اكبر ابداع  للروح المعاصرة”.  اجد هذه الفكرة جد اساسية: لم يكن الناس الاولون  يمارسون الدعابة، انه ابتكار ارتبط مع ولادة الرواية. لذلك فان الدعابة ليست الضحك او السخرية او الهجاء، لكنها فصيلة خاصة من المرح. يقول باث (وهذا  مفتاح فهم جوهر الدعابة) بان “الدعابة تجعل  اي شيء تمسه قابلا لاكثر من تأويل واحد”. الناس، الذين لا يمتعهم  مشهد اغراق بانورَج لتجار الخراف، في الوقت الذي هو يمتدح الحياة في الآخرة، لن يفهموا اي شيء عن فن الرواية.

العالم  الذي تتعطل فيه الاحكام  الاخلاقية

اذا سئلت عن  اكثر العناصر التي تسبب سوء الفهم بيني وبين القارئ لكانت اجابتي دون اي تردد: الدعابة humour. بعد وصولي الى فرنسا بفترة قصيرة، اعرب  بروفيسور مشهور في ميدان الطب رغبته بالالتقاء بي، وذلك لاعجابه برواية “حفلة الوداع”، وكم شعرت بالغبطة لذلك. حسب رأيه، كانت روايتي تنبؤية؛ السبب يعود الى ان البطل الدكتور سكيرتا، يقوم بعلاج العقم لدى النساء بحقنهن، سرا، بحيامنه، وهذا ما اعتبره البروفيسور تناولا لموضوع مستقبلي، بل هو دعاني لحضور مؤتمر حول التقليح الاصطناعي. سحب آنذاك ورقة من جيبه وقرأ مسودة لمقترحاته. يجب ان يكون الحيمن المستخدم للتلقيح مأخوذا من شخص مجهول، ويُعطى مجانا، وان يكون (وهنا نظر البروفيسور في عيني) محكوما بحب ذي ثلاث شُعَب: حب للبويضة التي تسعى الى تحقيق مهمتها، حب المتبرع لنفسه المتحقق عبر استمراره في التبرع، واخيرا حب للزوجين اللذين يعانيان من عدم تحقق الحمل. ثم نظر البروفيسور في عينيّ مرة اخرة اخرى، ليضيف، بانه على الرغم من اعجابه الشديد بروايتي لكن لديه ملاحظة نقدية واحدة تتحدد بعدم نجاحي في التعبير بقوة عن  الجمالية الاخلاقية المتخفية وراء فعل تبرع الرجل بسائله المنوي. دافعت على نفسي قائلا: “هذه ليست سوى رواية كوميدية! بطلي الطبيب انسان مخبول! ما كان عليك ان تأخذ روايتي بجدية!” قال البروفيسور مندهشا: “اذن، رواياتك لم تكتب كي تؤخذ بشكل جدي؟” شعرت ، انذاك، بالعجز الكامل. ادركت في تلك اللحظة بان لاشيء اصعب من شرح ما تعنيه الدعابة.

في “الكتاب الرابع” لرابليه، يهيج البحر تحت وقع عاصفة عنيفة، فيصارع كل فرد موجود على ظهر السفينة لانقاذها. الجميع عدا بانورَج، الذي شله الخوف عن الحركة، وظل يوهوه باكيا: سيحتل نواحه صفحات كثيرة. وحينما تهدأ العاصفة، تعود شجاعته اليه، ليندفع في تأنيب الجميع على كسلهم. مع ذلك، فلا يثير هذا الجبان، الكذاب، المزيف  اي استياء في نفوسنا، بل اننا نزداد انشدادا اليه في قمة تبجحه. هذه هي المقاطع التي جعلت من كتاب رابليه، كليا، وجذريا، منتميا الى فن الرواية: انه العالم الذي تتعطل فيه الاحكام الاخلاقية.لايعني تعطيل الاحكام الاخلاقية لا اخلاقية الرواية، بل هو اخلاقيتها. الاخلاقية التي تقف ضد العادة البشرية المتمثلة في اصدار الاحكام الفورية، على اي شخص، اصدار الاحكام  قبل وبغياب اي فهم متأن. من وجهة نظر حكمة الرواية، الاستعداد لاصدار الاحكام السريعة هو ممارسة شديدة الغباء، وفعلا شريرا مقيتا. هذا لا يعني بان الروائي ضد اصدار الاحكام الاخلاقية بشكل عام، لكنه، من ناحيته، يرفض ان يمنحه موقعا في الرواية. اذا اردتَ ادانة  بانورَج لجبنه، او ادانة مدام بوفاري او راستيناك، فهذا شأن من شؤونك الخاصة، لاعلاقة للروائي به.خلق العالم الخيالي، الذي تكون فيه الاحكام الاخلاقية معلقة، ذو مغزى واهمية جد كبيرين: هنالك فقط نمو للشخصيات الروائية، اي لايتم تصور الافراد كوظائف لحقائق مسبقة، كنماذج ممثلة للخير اوالشر، او كتمثيلات للقوانين الموضوعية المتحكمة في مبدأ الصراع، بل ككائنات مستقلة ذاتيا، لها اخلاقياتها الخاصة، ومستندة على قوانين خاصة بها. تطرح المجتمعات الغربية نفسها كممثلة لحقوق الانسان، لكن قبل ان يكون للانسان حقوق، عليه ان يؤسس نفسه كفردية، يرى نفسه بشكل معين، ويُنظر اليه بشكل معين، وماكان هذا ممكنا الا بفضل الممارسة الطويلة للفنون، وبالاخص فن الرواية، التي علّمت القارئ ان يكون فضوليا حول الآخرين، وان يكون قادرا على ادراك الحقائق المغايرة لحقائقه الخاصة. بهذا المعنى يكون تعبير إي. أم. سيوران E.M. Cioran صحيحا، حينما عرّف المجتمع الاوروبي بانه “مجتمع الرواية”، وصحيحا ايضا، حينما وصف الاوروبيين في كونهم “ابناء الرواية”.

بئر الماضيما هو هذا الفرد ؟ واين تكمن هويته؟ تسعى كل الروايات للاجابة على هذين السؤالين. بماذا تُعرّف الذات بالضبط؟ بماذا تتحدد الشخصية، بواسطة افعالها؟ نعم الافعال تفلت من منتجها لترتد من بعد عليه. اذن بواسطة حياته العقلية؟ بواسطة افكاره، بواسطة مشاعره الخفية؟ لكن هل بامكان المرء ان يفهم نفسه؟ هل بالامكان ان تكون افكاره الخفية مفتاحا لشخصيته؟ او، هل ان المرء يُعرَّف وفق رؤيته للعالم، وفق آرائه، او وفق آيديولوجيته؟ هذا ما نجده لدى دوستويفسكي، حيث تتميز  شخصياته بتجذرها في آيدولوجيا شخصية جد متميزة، ووفقها تتصرف هذه الشخصيات بشكل متطرف. من جانب اخر، نجد الامر مختلفا تماما لدى تولستوي، اذ ان آيدولوجيا البطل لاتصلح لتحديد هويته لكثرة تبدلها. من أنّا كارنينا نقرأ على سبيل المثال: “لايختار ستيفان أركاديفيتش تصرفاته او آراءه، كلا، بل انها تأتي اليه على هواها، مثلما هو الامر بالنسبة لطراز قبعاته او معاطفه بل هو يختار اشياء شبيهة بما يرتديه الناس”. لكن اذا لم تكن الافكار الشخصية اساس هوية الفرد ( اذا لم تكن لها اهمية اكبر من قبعة)، اذن اين سنجد اساس الشخصية؟

يقدم توماس مان اجابة جد مهمة لهذا النوع من البحوث: نحن نفكر باننا نمارس نشاطا ما، نحن نفكر باننا نفكر، لكنه الآخر او الآخرون الذين يفكرون او يفعلون في دواخلنا: وهذا يعني، العادات طويلة الامد، انماط السلوك البدئية، المتوارثة على هيئة اساطير، تتناقلها الاجيال. كل هذه العناصر، تحمل طاقة اغرائية هائلة، كي تتحكم بنا من “بئر الماضي”.

يقول توماس مان: هل ان “نفس” الانسان محبوسة، فقط، ضمن حدوده الجسمانية الزائلة؟ اليس هناك الكثير من مقوماته الاساسية قادمة من العالم الخارجي قبل وبعد ولادته؟ لم يكن التمييز بين العقل بشكل عام وبين العقل الفردي، ليشغل الناس في الماضي، بنفس القوة التي يشغلنا بها اليوم… قد نشاهد ظاهرة ما، تغرينا على الظن بانها ليست سوى  تقليد او استمرار، لمبدأ الحياة الذي يفترض بان دور كل انسان هو القيام باحياء انماط معينة، قديمة، بصيغة اخرى، مخططات اسطورية معينة اسسها الاسلاف، مما يساعدهم على تحقيق التناسخ عبرنا.”

ليس الخلاف، بين يعقوب وبين أخيه عيسو، سوى اعادة تمثيل، للمنافسة التي وقعت بين هابيل وبين اخيه قابيل، بين المفضَل عند الرب وبين المهمَل، والغيور. هذا الخلاف، “هذا المخطط المؤسس من قبل الاسلاف”، سيعود للظهور مرة اخرى في مصير ابنه المفضل يوسف.  تحت وطأة الشعور بالذنب الذي ينتاب من كان محظيا بتفضيل الاب له عن اخيه، سيبعث يوسف مع اخوته الغيورين، سعيا لكسب مودتهم وحبهم له، لكن مبادرته هذه ستؤول الى نهاية سيئة، اذ سيقوم الاخوة بالقائه في البئر.

حتى المعاناة، التي تبدو كرد فعل لا ارادي، هي في حقيقة الامر “تقليد واستمرارية”: عندما تصف رواية توماس مان :”يوسف واخوته”،  مايردده الاب ومايقوم به، تعبيرا عن حزنه لموت يوسف، يعلق مان قائلا: “هذه الطريقة في الحديث مختلفة عن اسلوبه المألوف … نوح هو الذي استخدم هذا الاسلوب عند وقوع الطوفان، ويعقوب تبنى طريقته.. اذ عبّر عن حالة اليأس التي تسلطت عليه  باسلوب تقليدي… مع ذلك فيجب عدم الشك بان  رد فعله كان تلقائيا”. اضيف هذه الملاحظة المهمة: التقليد لايعني افتقاد الاصالة، لان  الفرد لايستطيع ان يقوم بشيء ما سوى تقليد ما كان قد حدث من قبل مرارا؛ قد يكون المرء مخلصا في طريقة تعبيره، لكنه ليس في الاخير سوى تناسخ، وقد يكون صادقا، لكنه ليس سوى تجميع لكل الاقتراحات والمتطلبات الخارجة من بئر الماضي.

ازمنة تاريخية متعددة

في رواية واحدة

تسترجع ذاكرتي الوقت الذي شرعت فيه بكتابة رواية “المزحة”: منذ اول الخطوات، كنت اعرف، وبشكل تلقائي، انه من خلال البطل  جاروسلاف، ستلقي الرواية بنظرها على الماضي (ماضي الفن الشعبي)، وان “انا” الشخصية سيُكشَف عنها عبر تجربة النظر الى الماضي. في الحقيقة، الشخصيات الاربع الروائية قد خُلقت بهذه الطريقة: اربعة عوالم شيوعية مختلفة، مركّبة باربعة ازمنة اوروبية من الماضي: لودفيك، يمثل الشيوعية المنبثقة من روح فولتير اللاذعة؛ جاروسلاف: الشيوعية كرغبة لاعادة بناء الماضي البطرياركي، المحفوظ في الفولكلور؛ كوستْكا: الشيوعية الطوبائية النامية عن الانجيل؛ هيلينا: الشيوعية كينبوع من الحماسة، الموجودة لدى الانسان المغرق في عاطفيته.  كل من هذه العوالم الشخصية الاربعة، وصفت لحظة تفكك الشيوعية، والذي يعني ايضا انهيار المغامرات الاوروبية الاربع.

في رواية “المزحة” لا يظهر الماضي الا كاحد العناصر التي تتشكل منها ذوات الشخصيات، وفي الاستطرادات التأملية، حاولت بعد ذلك ان اعيده مباشرة  الى خشبة مسرح الاحداث. في رواية  “الحياة هي في مكان آخر”، قمت بتركيب حياة شاعر شاب من عصرنا على ستارة تمثل مجمل تاريخ الشعر الاوروبي، بحيث تختلط اثار اقدامه، بتلك التي تعود الى رامبو، كيتس او ليرمنتوف. وفي رواية الخلود مضيت ابعد بمزج فترات تاريخية مختلفة بعضها ببعض.

ككاتب شاب مقيم في براغ، كنت امقت مفردة “الجيل الواحد”، لما تحمله من طابع قطيعي. ولم اكتشف ارتباطي بالاخرين الا في فرنسا، بعد قراءتي رواية الكاتب المكسيكي كارلوس فونتس: “ارضنا” Terra Nostra . كيف كان ممكنا لشخص آخر، ومن قارة اخرى، ان يسكنه نفس الهوس الجمالي، في جلب فترات تاريخية مختلفة كي تتعايش مع بعضها في رواية واحدة؟ ذلك الهوس الذي كنت اظنه، وبشكل ساذج، حتى ذلك الوقت، شيئا خاصا بي فقط.

ليس بالامكان ادراك طبيعة رواية “ارضنا”، بدون فهم الارض المكسيكية، بدون النظر الى بئر الماضي. لا كما يفعل المؤرخ الذي يهمه رؤية وقوع الاحداث ضمن تسلسلها الزمني، بل للتبصر: ماذا يعني جوهر الارض المكسيكية للانسان؟ فونتس قبض على  هذا الجوهر في هيئة حلم روائي، حيث الفترات التاريخية المختلفة تتعشق ببعضها لتتحول الى عالم شعري ورؤيوي ميتا تاريخي؛ وبذلك خلق فونتس عالما غير قابل للوصف، وغير معروف في الادب.

في الفترة الاخيرة احسست بنفس القرابة الجمالية السرية،  تجمعني بفيليب سولير philippeSollers  عبر روايته “العيد في البندقية”. في هذا العمل الغريب، نجد ان احداثها تقع في عصرنا، لكن الرواية، في الوقت نفسه، تكون مسرحا لفنانين موتى مثل بيكاسو، تيتيان، سيزان، مونيه وستاندال، عبر عرض ملاحظاتهم واعمالهم على صفحاتها.

وجاءت اخيرا رواية “الآيات الشيطانية”: الهوية المعقدة لهندي متأورب. ولمسك هذه الهوية  الممزقة، تجري احداث  الرواية في مناطق مختلفة فوق الارض: في لندن، في بومباي، في قرية بالباكستان، ثم في آسيا القرن السابع.

يخلق، تجاور حقب زمنية مختلفة في رواية واحدة، مشكلة تقنية: كيف يمكن الربط بينها دون ان تفقد الرواية وحدتها؟

اوجد فونتس ورشدي حلولا غرائبية: بالنسبة لفونتس، يتحرك ابطاله من فترة زمنية الى اخرى عبر تناسخ ارواحهم. لدى رشدي، يتحقق ذلك بتحول شخصية جبريل فارشتا الى ملاك يتجاوز الحدود بين الحقب التاريخية.

في كتاب سولر، وفي بعض رواياتي، لا شيء هناك خارق للمألوف. في “العيد في البندقية”، نجد ان اللوحات والكتب، التي  تُشاهَد وتُقرأ من قبل الابطال، تخدم كنوافذ تطل على الماضي. بالنسبة لي، يتم ربط الماضي بالحاضر عبر ثيمات وموتيفات مشتركة.

هل بالامكان تأويل هذه الاصرة الجمالية، في كونها ناجمة عن تأثر الكاتب بغيره؟ لا اعتقد ذلك، بل هي ناجمة عن مؤثرات مشتركة. لا استطيع تحديد ماهيتها. او هل اننا تنفسنا نفس هواء التاريخ؟ او هل هو تاريخ الرواية نفسه وضع امامنا نفس الاختبار؟

انتقام تاريخ الرواية من التاريخ نفسه

كروائي، اشعر دائما بانني ضمن التاريخ، وهذا يعني، بانني اقف على الطريق، محاورا اولئك الذين سبقوني، وربما حتى مع اولئك الذين سيأتون (وبدرجة اقل). بالتأكيد، انا اتكلم عن تاريخ الرواية، لا عن تاريخ اخر، واتكلم عنه كما اراه، وهذا لاشيء يجمعه بالسببية فوق الانسانية؛ انه ليس مقررا سلفا او متماهيا مع فكرة التقدم؛ انه انساني كليا، مخلوق من قبل بعض الناس، ولذلك يمكن مقارنته بتطور ذلك الفنان الذي يعمل احيانا بشكل مبتذل لينتقل من بعد الى انجاز مفاجئ، احيانا بعبقرية ليعود من بعد الى الحالة العادية، والذي هو غالبا ما يخطئ في الوصول الىاهدافه.

ها انذا اعلن عن اهتمامي الكبير بتاريخ الرواية، في الوقت الذي تتنفس  رواياتي كلها الكراهية للتاريخ، لتلك القوة العدوانية، اللاانسانية، التي تقتحم حياتنا من الخارج، دون دعوة، لتقوم بتدميرها. مع ذلك، فتصرفي المزدوج هذا لا يفتقد الى الاتساق، لان التاريخ البشري وتاريخ الرواية شيئان مختلفان تماما. الاول لا يتحدد وفق ارادة الانسان، بل  هو يقوم بالاستيلاء على مصيره كقوة اجنبية، لايستطيع التحكم بها، بينما نجد تاريخ  الرواية (او تاريخ الرسم او الموسيقى) ثمرة لحريته ، لابداعاته الشخصية البحتة، لاختياراته الشخصية. معنى تاريخ الفن يتعارض تماما مع التاريخ نفسه، وذلك بسبب طبيعته الشخصية، تاريخ الفن  هو انتقام الانسان ضد الطبيعة اللاشخصية للتاريخ البشري.

واذا  اتخذ تاريخ الرواية شكلا متماسكا عبر الحقبة الزمنية لتكونها، فذلك لايؤول الى ضرورة وجود معنى مشترك ومستمر له. انا اؤمن بان المعنى المشترك يظل شخصيا، على امتداد تاريخ فن الرواية، من حيث المفهوم (اي ما تعنيه الرواية)، ومن حيث معنى تطوره (من اين جاء هذا الفن والى اين هو يتجه)، اذ تتم صياغته واعادة تعريفه من قبل كل فنان، عبر كل عمل جديد. معنى تاريخ الرواية هو البحث الدؤوب عن ذلك المعنى؛ خلقه واعادة خلقه المتواصلين، مما يسترجع كل ماضي الرواية في العمل الروائي الجديد: من المؤكد ان رابليه لم يطلق على كتابه غارغانتوا ـ بانتاغغرويل اسم رواية، لكنها اصبحت تدريجيا رواية، بعد ان اصبحت مصدر الهام كتّاب كثيرين، مثل بلزاك، ستيرن، ديدرو، فلوبير، كيس Kis، غومبروفيكس ورشدي، اذ وظّفت وبشكل مكشوف، في رواياتهم، وهذا ما جعلها تلتحم  تدريجيا بتاريخ الرواية، ويعترف بها كاول حجر بناء في هذا التاريخ.

لا تحرك تعابير من نوع (نهاية التاريخ) اي الم او انزعاج في نفسي. (كم هو رائع ان ننسى ذلك الوحش الذي ما انفك ينخر حياتنا العابرة كاسمنت لتماثيله المزهوة بنفسها. كم هو رائع نسيان التاريخ!) (الحياة هي في مكان آخر) اذا كان التاريخ في طريقه الى الانتهاء (على الرغم من انني لا استطيع تخّيل هذه النهاية، التي يحب الفلاسفة اليوم التحدث عنها كثيرا)،  فدعوه ينتهي سريعا! لكن تطبيق هذا التعبير على الفن: نهاية التاريخ، يثير الرعب في نفسي؛ استطيع، فقط، تخيّل هذه النهاية، وبشكل واضح لمعظم الروايات المنتجة هذه الايام، والتي تقع خارج تاريخ الروايات: روايات الاعترافات الشخصية، روايات الكتابة الصحفية، روايات تصفية الحسابات، روايات السيرة الذاتية، روايات الجدل السياسي، روايات موت الزوج او الزوجة او الاب، روايات حول ولادات الاطفال.. كل هذه الكتابات التي لا تمتلك اي شيء جديد تقوله، وليس لديها اي طموح جمالي، لا تغير شيئا في فهمنا للانسان ولاتضيف اي جديد للبنية الروائية. كل (رواية) من هذا الصنف تشبه تلك التي ستصدر غدا، تُستهلك صباحا، ويُرمى بها جانبا عند الظهيرة.

الاعمال العظيمة، كما اظن، لا تولد الا من خلال تاريخ فنها، و كعناصر مشاركة في صياغته. انه فقط من داخل تاريخ الرواية، نستطيع ان نرى ما هو جديد وما هو متكرر، ما هو ابتكار وما هو تكرار؛ بصيغة اخرى، يمكن القول بان من داخل التاريخ، وحده، يمكن لعمل ما ان يوجد كقيمة قابلة  على الادراك والتقييم. بالنسبة لي، لا اجد اي شيء اسوأ للفن الا الظهور خارج تاريخه. لان هذا الظهور سيكون داخل الفوضى، حيث تكف القيم الجمالية عن ان تكون موضوعا للفهم.

الارتجال والتأليف

لم يكن لسرفانتس، في اثناء كتابة دون كيشوت، اي عوائق تمنعه من تغيير شخصية بطله انى توجه. الحرية التي  بها يفتننا كتّاب مثل  سرفانتس، رابليه، ديدرو، ستيرن، تعود الى الارتجال في الكتابة. لم يصبح فن التأليف الروائي المعقد والشاق، ضرورة اساسية الاّ في منتصف القرن التاسع عشر. انذاك فقط ظهر الشكل الروائي، الذي يركّز على الفعل الواقع خلال فترة زمنية قصيرة، وعلى  نقاط الالتقاء، حيث تتقاطع قصص عديدة لشخصيات عديدة. هذا العمل يتطلب مخططا دقيقا ومحسوبا، للخطوط والمشاهد: قبل البدء بالكتابة، يكون الروائي قد صاغ واعاد صياغة مخطط الرواية، حسب واعاد حساب دقائقه، صمم واعاد تصميمه بشكل مختلف عن سابقيه. يكفي المرء ان يتصفح سريعا في ملاحظات دوستويفسكي التي هيّأها لرواية “الشياطين”: في الدفاتر السبعة التي تحتل اربعمائة صفحة في طبعة بلياد Piliade، (الرواية تحتل سبعمائة وخمسين صفحة)، الموتيفات (او البواعث التي يراد ابرازها في عمل فني او ادبي) تبحث عن شخصيات، الشخصيات تبحث عن موتيفات، شخصيات تتنافس للحصول على دور البطولة؛ على ستافورجين ان يتزوج، لكن من؟ يتساءل دوستويفسكي، يحاول الكاتب ان يزوّجه من ثلاث نساء على التعاقب، وغير ذلك.( تناقض ظاهري فقط: كلما كان تخطيط الشخصية محسوبا، كلما كان ظهورها اكثر طبيعيّة، لذلك لاتنمّ، الاحكام المسبقة ضد التفكير التركيبي،  في كونه فعلا لافنياً يقتطع ما هو حي عن جسم الشخصية، الا عن سذاجة عاطفية من اناس لم يفهموا الفن ابدا).

لايستطيع الروائي المعاصر، الذي يشتاق الى الحرية المرنة التي كتب بها المؤسسون الاوائل، ان يقفز فوق موروث القرن التاسع عشر. اذ عليه ان يجمع الحرية مع متطلبات التأليف القاسية. الجمع بين حرية رابليه وديدرو في الكتابة والتخطيط المنظم، الصارم، الذي يتطلبه التأليف، يضع روائي القرن العشرين امام مشاكل مختلفة عن تلك التي واجهها بلزاك او دوستويفسكي. على سبيل المثال في الكتاب الثالث والاخير الذي يضم رواية  بروك Broch: “المشاة النائمون”، نجد ان  العمل تيار متعدد الاصوات Polyphonic مؤلف من خمسة اصوات، خمسة خطوط مستقلة  عن بعضها كليا: لا الفعل المشترك او الشخصيات نفسها تربط هذه الخطوط الى  بعضها، ولكل خط شكل مختلف جذريا في طبيعته عن الخطوط الاخرى( أ:رواية، ب: تقرير، ج:قصة قصيرة، د:شعر، ت: مقالة). في هذه الرواية التي تتكون من ثمانية وثمانين فصلا.

نجد هذه الخطوط الخمسة موزعة بهذا الترتيب الغريب: أ-أ-أ-ب-أ-ب-أ-ج-أ-أ-د-ت-ج-أ-ب-د-ج-د-أ-ت-أ-أ-ب-ت-ج-أ-ب-ب-أ-ت-أ-أ-ت-أ-ب-د-ج-ب-ب-د-أ-ب- ت-أ-ج-أ-د-د-ب-أ-أ-ج-د-ت-ب-أ-ب-د-ب-أ-ب-أ-أ-د-أ-أ-د-د-ت.

ما الذي دفع بروك لاختيار هذا التنظيم لا غيره؟ ما الذي جعله يخصص الفصل الرابع للخط (ب) لا للخط (ج) او (د)؟ ليس منطق الشخصيات او الافعال، اذ لاتوجد افعال مشتركة لهذه الخطوط الخمسة. انه مسيّر بمعيار اخر: بالفتنة المتأتية من وضع اشكال كتابية مختلفة جنبا الى جنب ( شعر ، سرد، اقوال مأثورة، تأملات فلسفية)؛  عبر التعارض الناشئ عن الانفعالات المختلفة، المنبثة فوق فصول الرواية المختلفة، عبر اطوال  الفصول المتغيرة من واحد الى آخر. واخيرا عبر تطور الاسئلة الوجودية، المنعكسة فوق خمس مرايا.  بغياب وصف محدد لهذه الظاهرة، دعونا نطلق عليها المعيار الموسيقي ولنستنج مايلي: في القرن التاسع عشر اصبحت كتابة الرواية تأليفا معقدا، بعد ان كانت ارتجالا، لكن القرن العشرين جلب الموسيقى لهذا الفن.

تتضمن رواية “الآيات الشيطانية” ثلاثة خطوط  مستقلة عن بعضها: أ: حياة صلاح الدين شامشا وجبريل فارشتا، الرجلين الهنديين المعاصرين، واللذين يقسمان وقتهما بين بومباي ولندن؛ ب: الحكاية القرآنية التي تتناول جذور الاسلام؛ ج: رحلة القرويين الى مكة عبر البحر وغرقهم فيه، ظنا منهم ان بامكانهم قطع البحر دون ان تتبلل اقدامهم.

هذه الخطوط الثلاثة تحتل اجزاء  الرواية التسعة حسب هذا الترتيب: أ-ب-أ-ج-أ-ب-أ-ج-أ. (من باب المصادفة: في الموسيقى، تسمى هذه السلسلة بالروندو rondo  حيث تتكرر الثيمة الاساسية بانتظام متناوبة مع ثيمات ثانوية اخرى).

هذا هو  الايقاع الموسيقي  ككل، موضحا عبر عدد الصفحات التي يحتلها كل جزء: أ(90)، ب(40)، أ(80)، ج(40)، أ(120)، ب(40)،أ(80)، ج(40)، أ(40). يمكن ملاحظة ان الجزأين (ب) و(ج) لهما نفس الطول، مما يمنح العمل انتظاما ايقاعيا.

يحتل الخط (أ) خمسة اسباع الرواية، بينما يحتل كل من الخطين (ب) و (ج) سُبع الرواية.هذه النسبة،  تجعل الحاضر ممثلا بالخط (أ)، ويصبح مركز ثقل الرواية حياة فارشتا وشامشا في الزمن الحاضر.

على الرغم من كون الخطين (ب) و (ج) هامشيين، لكن فيهما يتركز الشرط الجمالي للروايةـ اذ بهذين المحورين يتمكن رشدي من طرح المسألة الجوهرية في كل رواية ( التي هي هوية الشخصية او الفرد) بطريقة جديدة تتجاوز اساليب الرواية السيكولوجية: شخصيتا شامشا وفارشتا لايمكن ادراكهما من خلال الوصف التفصيلي للحالة الذهنية التي يعيشانها، اذ يكمن غموضهما في حالة التعايش القائمة داخل روحيهما بين الحضارتين الهندية والاوروبية؛ ويكمن ايضا في جذورهما، التي رغم انقطاعهما عنها، لكنها ما زالت حية فيهما. اين هو موقع الانقطاع عن هذه الجذور، وكم على الانسان ان يغوص في الاعماق كي يستطيع مس الجرح؟ لن يكون التمعن في “بئر الماضي” بعيدا عن الهدف: انه الصدع الوجودي القائم داخل بطلي الرواية شامشا وفارشتا.

تحت ظلال مبادئ عظيمة

نالت رواية سلمان رشدي الاولى، “اطفال منتصف الليل”، عند صدورها عام 1980 اعجاب الجميع، ولم ينكر اي شخص في الوسط الادبي المستخدم للانجليزية، بان رشدي هو واحد من اكثر الروائيين موهبة في عصرنا الحالي. ظهرت رواية “الآيات الشيطانية”  بالانجليزية، في ايلول 1988، واستُقبلت باهتمام كبير يتناسب مع اهمية الكاتب نفسه. استلم الكتاب كل هذا التقريظ دون توقع ما سيثيره من عاصفة، بعد اشهر قليلة، حينما اصدر الخميني فتوى بقتل رشدي، بتهمة التجديف.

حدث ذلك قبل ان تُتَرجَم الرواية، لذلك وصلت الفضيحة قبل الكتاب، الى البلدان غير المتكلمة بالانجليزية. في فرنسا، قامت الصحف مباشرة بطبع مقاطع من الرواية التي لم تنشر بعد، لتوضيح اسباب الادانة. كان هذا التصرف رد فعل طبيعي، لكنه ذو تأثير مدمر للرواية نفسها، اذ بجعل مقاطع “التجريم”  بديلا عن الرواية ككل، تحول هذا العمل الفني، منذ البداية، الى جثة هامدة.

علينا الا نطعن بالنقد الادبي، اذ ليس هناك اسوأ  من قيام الكاتب بدور الناقد، عند غياب الكتابة النقدية حول عمله. انا اتكلم عن النقد الادبي كتأمل، كتحليل؛ ما اعني بالنقد الادبي، المستند على قراءة الكتاب عدة مرات، هو خلق النقاش حوله ( مثلما هي الحال مع القطع الموسيقية العظيمة التي نظل ننصت لها من وقت الى آخر، كذلك هي الحال مع  الروايات العظيمة التي  نظل نكرر قراءتها)؛ النقد الادبي المتحرر من ضغوطات اللحظة، على استعداد لمناقشة اعمال عمرها عام واحد،  ثلاثون عاما، او ثلاثمائة عام؛ النقد الادبي الذي يحاول فهم خصوصية عمل ادبي ما، كي يحقق نقشه في  الذاكرة التاريخية. لو ان تأملا كهذا لم يتحقق على امتداد تاريخ الرواية، لما كنا قد عرفنا اي شيء عن دوستويفسكي، او جويس، او بروست. وبدون ذلك ستكون اعمال كهذه ضحية، احكام جد عشوائية، ونسيان سريع. اليوم، كشفت قضية رشدي، بان تأملا من هذا النوع، ما عاد يُمارَس، فتحت ضغط الاحداث المتلاحقة، ومن خلال الانقلابات التي طرأت على المجتمع والصحافة، اصبح النقد الادبي( على الرغم من ذكائه وسرعة استجابته) مجرد نشرة اخبار ادبية.

لنواجه المسألة بهذه الطريقة: في الرواية، ليس هناك اي هجوم على الاسلام  بل هناك ابهام.  ينطرح الجزء الثاني من “الآيات الشيطانية” (الذي كان موضع الاتهام لاسترجاعه الفترة الاولى من الاسلام) كحلم يشاهده جبريل فارشتا اولا، ثم يحوله من بعد الى فيلم رديء، يمثل هو فيه دور الملاك. الحكاية هنا نسبية على مستويين ( اولا في هيئة حلم، ثم بتحوله الى فيلم رديء)، وهذا التقديم لايتخذ شكل تصريح، بل كابتكار مرح. هل يمكن نعت هذا الفصل بالسماجة؟ جوابي هو بالنفي: اذ اراني هذا الفصل، ولاول مرة في حياتي، الجمالية الشعرية، في الاسلام، وفي العالم الاسلامي.

يجب ان نشدد على هذه الحقيقة: في عالم الرواية النسبي ليس هناك موقع للكراهية: المؤلف الذي يكتب رواية لتصفية حسابات شخصية (سواء شخصية او ايديولوجية) لايحصد سوى عالم مخرب جماليا. في هذه الرواية، العالم الغربي يُنظَر اليه بريبة، ولايقدَّم باي حال من الاحوال كونه متقدما على الشرق العريق؛ تتناول الرواية النصوص الدينية المقدسة القديمة، من الزاوية التاريخية والنفسية، لكنها تظهر ايضا كم يساء لها بواسطة التلفزيون والاعلانات وصناعة التسلية والترفيه؛ وحتى الشخصيات اليسارية المستنكرة لابتذال العالم الحديث، لا يلحقها من المؤلف الا السخرية، اذ تنتقل عدوى ابتذال العالم المحيط بها اليها ايضا. لذلك  في العالم الكرنفالي لهذه الرواية، ليس هنالك من هو  محق تماما او مخطئ تماما.

الرواية  الاوروبية 

لتعريف الفن موضوع النقاش، ساسميه بالرواية الاوروبية. لا اعني بذلك الروايات المكتوبة في اوروبا، من قبل كتّاب اوروبيين، بل الروايات التي تنتمي الى التاريخ المبتدئ منذ فجر العصر الحديثModern Eraفي اوروبا. هناك بالتأكيد روايات صينية ويابانية واغريقية، لكنها ليست مرتبطة بالخط المستمر المتنامي لهذا المشروع، والذي  ابتدأ مع رابليه وسرفانتس.

انا اتكلم عن الرواية الاوروبية، لا لتمييزها عن الرواية الصينية فقط على سبيل المثال، بل للتأكيد على طابعها الانتقالي داخل اوروبا: بصيغة اخرى، ليس بامكان الرواية الانجليزية  او الفرنسية او الهنغارية ان تخلق تاريخها الخاص بها، بل هي اجزاء من  تاريخ  واحد متجاوز للحدود القومية، قادر على كشف اتجاه تطور الرواية والقيمة الفنية لاعمال معينة.

في مراحل مختلفة من هذا التطور، شاركت عدة بلدان في المبادرة، مثلما يحدث في سباق البريد: ايطاليا، اولا، مع بوكاسيو، الرائد العظيم؛ ثم جاءت فرنسا، عبر رابليه، فاسبانيا ممثَّلة بسرفانتس ورواية التصعلك؛ الرواية الانجليزية في القرن الثامن عشر، ثم عند نهاية ذلك القرن جاءت المشاركة الالمانية، ممثَّلة بغوته، اما القرن التاسع عشر فيعود كليا الى فرنسا، الى جانب الرواية الروسية في الثلث الاخير من القرن، ثم جاءت مباشرة الرواية الاسكندنافية. بعد ذلك جاءت المغامرة الروائية في القرن العشرين، من وسط اوروبا، عبر كافكا، موزيل، بروك، وغومبروفتش.

لا اظن ان تاريخ الرواية كان سيستمر بهذه الحيوية، وهذه القوة، وهذا التنوع، لاربعة قرون، لو ان اوروبا كانت بلدا واحدا، اذ ان استمرار التجدد في فن الرواية يعود الى تلك  الاوضاع التاريخية المتجددة (بمحتواها الوجودي) التي برزت في فرنسا اولا، ثم في روسيا، ثم في بلدان اخرى. ومع هذا التجديد جلبت اساليب الهام جديدة، وحلول جمالية جديدة. كأن تاريخ الرواية عبر مسار رحلته، ظل مواظبا على ايقاظ مناطق مختلفة في اوروبا، واحدة بعد الاخرى، بجعلها تعي خصوصياتها، وفي الوقت نفسه يحقق اندماجها في الوعي الاوروبي المشترك.

في قرننا هذا، تحققت، ولاول مرة، مبادرات في تاريخ الرواية الاوروبية، من خارج اوروبا: اولا في امريكا الشمالية، وذلك في فترة العشرينات والثلاثينات، ثم في امريكا  اللاتينية، في الستينات. كم امتعتني كتابات الانتيلي  باتريك شاموازو  وسلمان رشدي، وانا في هذه الحالة، افضل التحدث عن الرواية الواقعة تحت خط العرض 35، او بصيغة اخرى رواية الجنوب: هنا نتواجه مع انتاج ثقافي روائي متميز بحس مدهش للواقع متوافق مع مخيلة جامحة، لايقف امامها اي مبدأ للمعقولية.

انا في غاية الابتهاج بهذه المخيلة، بدون ان افهم تماما ما هو مصدرها. كافكا؟ بالتأكيد. اذ بالنسبة لقرننا، فهو الذي اعطى الشرعية لما هو غير معقول كي يحتل موقعا في الرواية. مع ذلك فالتخيل الكافكوي مختلف عن ذاك الذي لدى رشدي او غارسيا ماركيز، تبدو تلك المخيلة العاصفة مغروزة في الخصوصيات  الحضارية للجنوب ( شاموازو يستلهم كتابته من الحكواتيين الكروال)، اما بالنسبة لفونتس فيحب استرجاع فن الباروك لامريكا اللاتينية (فن الزخرفة والزينة المبهرجة الذي ساد في اوروبا من منتصف القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر -المترجم-)، اكثر نشاطا واكثر جنونا من الرواية في اوروبا.

او هناك جواب آخر لهذه المخيلة: جعل الرواية ذات طابع استوائي. انا استند في هذا الرأي  الى غرائبية رشدي: يحلق فارشتا  فوق  لندن وفي نفسه امنية، تحول  هذه المدينة المعادية، الى ارض استوائية. سيعدد ايجابيات هذا التغيير:” تثبيت القيلولة كتقليد وطني… طيور جديدة على الاشجار( ببغاوات وطواويس)، اشجار جديدة تحت الطيور( اشجار جوزالهند والتمرهند، واشجار تين البنغال بلحاها المعلقة).. حماسة دينية، هرج سياسي.. اصدقاء يزورون بعضهم بدون تحديد مواعيد مسبقة، غلق دور العجزة، والتركيز على العائلة الكبيرة… اما السلبيات فهي: كوليرا وتيفوئيد، غبار وصراصر وضجيج، وشيوع ثقافة المغالاة”.

(“ثقافة المغالاة” تعبير رائع. اتجاه الرواية في مراحل معاصرتها الاخيرة: متابعة ما هو مألوف الى اقصى مداه، تحليل متقن للرمادي على لوحة رمادية؛ خارج اوروبا: تكديس الحوادث الخارقة للعادة واحدة فوق الاخرى؛ الوان فوق الوان. المخاطر: في اوروبا، الملل الذي يخلقه اللون الرمادي، خارج اوروبا، رتابة الصور الملونة.)

على الرغم من كون الرواية المكتوبة تحت خط العرض 35 غريبة  نوعا ما للذوق الاوروبي، لكنها امتداد لتاريخ الرواية الاوروبية، في بنيتها وروحها، وهي قريبة بشكل مثير للاستغراب من بداياتها، ليس هناك حضور مبهج وقوي لرابليه  الا لدى الروائيين غير الاوروبيين.

اليوم  الذي يكف بانورَج عن اضحاك الناس

بهذا الفصل اعود للمرة الاخيرة الى بانورَج. في كتاب “بانتاغرويل”، يقع بانورَج في حب امرأة، فيصمم على الحصول عليها باي ثمن. في الكنيسة سيغرقها بتعابير وضيعة، لكنها حين ترفض الاستماع اليه، ينثر عليها لحما مثروما، مقتطعا من الاعضاء الجنسية لكلبة، وعند مغادرتها الكنيسة ستلاحقها كل كلاب الحي ( ستمائة الف واربعون كلبا حسب وصف رابليه)، فتبول عليها. اتذكر قراءتي لرابليه وانا في العشرين، كنت اعيش آنذاك في موقع عمالي، وكان الزملاء فضوليين لمعرفة ماكنت اقرأه، مما دفعني لقراءة هذه القصة لهم. ومع تكراري لها، من وقت الى اخر، حفظها البعض عن ظهر قلب. على الرغم من ان زملاء العمل كانوا ذوي اصول فلاحية محافظة، لكن ضحكهم كان خاليا تماما من اي ادانة لبانورَج المقيت بل حبا له. استطيع الان ان استرجع ضحكاتهم الصادقة. في خطاب بانورج الرخيص الموجه للمرأة وجدوا متعة كبيرة، لكنهم بشكل متساو كانوا مبتهجين بالاذى الذي لحقه من المرأة  العفيفة، ثم الفرحة التي ستملأهم للعقاب الذي يصبه بانورج علىالمرأة.  الى من كان زملائي منحازين؟ للتواضع؟ للاتواضع؟ لبانورَج؟ للمرأة؟ او للكلاب التي كان لها الامتياز ان تبول على الجمال؟

الدعابة: الومضة الالهية التي تكشف العالم في وضعه الاخلاقي المبهم، وعجز الانسان  الكامل عن محاكمة الآخرين؛ الدعابة: هذه النسبية الثملة للاشياء الانسانية: المتعة الغريبة المتأتية من التيقن من غياب اي يقين قطعي.

لكن الدعابة، التي يراها اوكتافيو باث، كأعظم ابداع للروح المعاصرة، غير موجودة معنا منذ الازل، ولن تستمر معنا دائما كذلك.

يثقل قلبي، كلما تخيلت  اليوم الذي سيعجز فيه بانورج عن اضحاك الناس.

اقرأ ايضاً