زمن التمترس

3٬258

 

 

لعل اختياري مفردة “تمترُس” أقل دقة من مفردة “تخندُق”، وبالطبع تعود القدرة على تسمية الحالة التي أريد وصفها إلى لغتنا العربية التي تمكننا من اشتقاق أي مصدر من أي اسم وبالعكس أيضاً.

ما يميز هذا الزمن العربي عن غيره من الأزمان العابرة هو أن الجميع  تقريباً لا يبحثون عن وجهات نظر ورؤى جديدة تساعدهم على تشكيل أو إعادة تشكيل ذواتهم الفكرية وبالتالي صياغة خياراتهم الحياتية وأفعالهم على ضوئها.

وعلى ضوء ذلك كان الحوار ممكنا بين المختلفين في قناعاتهم لأنهم كانوا ما زالوا جالسين على شاطئ البحر، ولم يتخذوا بعد أي قرار بالإبحار أو بتحديد الاتجاه الذي يريدون الإبحار فيه.

اليوم، ومع اندلاع الحروب الأهلية في منطقة الشرق الأوسط، وتوسع دائرة الغزو الأجنبي إلى الحد الذي أصبح جزءا من نسيج الحياة اليومية، نجد أن ما يريده   زيد من محاوره عمرو لا الاستماع إلى أفكاره ورؤاه بل أن يقول له هل هو يتفق أم يختلف معه. أو بصيغة أخرى: هل أن محاوره عمرو منتم إلى الخندق الافتراضي المتمترس هو فيه أم لا؟

على ضوء إجابة المحاور سيتحدد موقف زيد منه، وموقفه من أفكاره ورؤاه  وماضيه. فإذا كان عمرو معه في نفس الخندق فإن كل شيء يقوله أو يكتبه جيد وإذا كان في الخندق الآخر فإن كل ما يقوله ويكتبه مرفوض تماماً.

قد تكون مفردة  “تمترس” مفيدة أيضا في تشخيص هذه الحالة. فالترس يغطي الصدر في المعارك لحماية المقاتلين من الأسهم  والرماح، وهو في الوقت نفسه يوفر للمقاتل القدرة على  مهاجمة الخصم بفعالية وكفاءة. وإذا كان الترس في الماضي مصنوعا من صفائح النحاس أو الخشب الصلد أو أي معدن آخر، فإنه اليوم مصنوع من الكتابات والصور والأفلام والرسوم والخطابات التي تدعم فعاليتي في القتال وأنا متمترس في خندقي.

بالطبع، يجب تشخيص خندقين متوازيين: أحدهما حقيقي وفيه يقيم المقاتلون الحقيقيون بأسلحتهم النارية الحقيقية، وآخر افتراضي يقيم فيه العدد الأكبر من المقاتلين الافتراضيين الذين يتمترسون  بكل  الأفلام والصور والمقالات والخطابات والمواقف الداعمة لرؤاهم ضد الطرف الآخر المتمترس هو الآخر في خندق افتراضي ويستعمل كل المواد البصرية والسمعية والكتابية المضادة للطرف الخصم.

ومع التطور الهائل في مجال المؤثرات البصرية- السمعية، وازدياد عدد الفضائيات بشكل هائل خلال العشرين سنة الأخيرة، وتوفر وسائل التواصل الفوري كالفيسبوك وتويتر، أصبح بالإمكان ضخ  صور وأفلام وخطابات مصاغة  بطريقة تخدم  هذا الطرف أو ذاك.

كأن الحقيقة الموضوعية نفسها أصبحت وهماً، فبفضل التطور الهائل في مجال المؤثرات البصرية السمعية أصبح بالإمكان صياغة واقع بصري- سمعي يشبه الواقع لكنه يختلف عنه في جانب واحد، وهذا هو كونه يعبر عن حقيقة افتراضية كي تضاف طبقة معدنية أخرى للترس الذي يرتديه هذا الطرف أو ذاك.

إذن نحن في زمن تعطل اللغة في كونها وسيلة لإنتاج أسئلة ورؤى وأطر فكرية وفنية تسهم في تقليص حالة التخندق وتفتح أنفاقا تربط  بين الخندقين المتقابلين.

يمكن القول إنها  حالة تشبه ما ساد خلال الحرب العالمية  الأولى: جنود يساقون من بلدان نائية ليصطفوا في أحد الخندقين المتقابلين على الحدود الألمانية- الفرنسية. مع ذلك كان المحاربون في الخندقين المتقاتلين يخرجون من مخابئهم عند حلول هدنة ما، فيصافح بعضهم البعض كما حدث في عيد الميلاد عام 1914، حيث شارك الجنود بدلا من  قتل بعضهم البعض في لعب كرة القدم معاً. وبعض المؤرخين يؤكدون أن القادة السياسيين والعسكريين كانوا ضد فكرة الهدنة لكن المقاتلين أنفسهم هم من فرضها.

غير أنها لم تدم طويلا إذ نجح السياسيون والجنرالات الكبار من إنهاء الهدنة وعودة القتال بأسوأ أشكاله حيث أدى إلى مقتل 15 مليون شخص. مع ذلك فإن الهدنة التي دامت فترة قصيرة ساهم في تحقيقها ما يقرب من 100 ألف مقاتل.

ولم تأت تلك الهدنة التي أصبحت علامة فارقة مستقبلا لإمكانية بناء السلام في أوروبا وتحقيق الاتحاد الأوروبي لاحقا، إلا نتيجة لقسوة الظروف التي كان المقاتلون من جوع وبرد وحرمان من أبسط شروط الحياة الأساسية بعيدا عن أحبابهم وعوائلهم، وجاءت هكذا: عشية الليلة السابقة لعيد الميلاد حين بدأ الجنود الألمان بالغناء ثم أعقبهم البريطانيون في  الخندق المقابل، وبعد ذلك بدأ الطرفان يرددان أغنية باللاتينية بالمناسبة، ثم انتهى بالجنود المطاف أن يتركوا الخندقين ويبدؤوا بلعب كرة القدم.

كم تبدو دعوتي غريبة: لكل أولئك المساهمين في القتال غير المسلح لكنه يقوي الترس الذي يرتديه المقاتلون على الجبهتين، من صحفيين وكتّاب أعمدة ومصورين وسينمائيين وقادة سياسيين: ارفعوا أيديكم عن مقاتلي الصف الأول الذين تحملوا كل أصناف  الحرمان وقسوة الظروف الحياتية، واجعلوهم يبدأون بالغناء ولعب كرة القدم معاً بدلا من قنص بعضهم البعض.

 

اقرأ ايضاً