عن الكاتب العراقي لؤي عبد الاله ومجموعته القصصية (لعبة الأقنعة) بقلم: مصطفى الموسوي

2٬730

تجربة لؤي عبد الاله الثقافية
تختلف تجربة القاص والروائي والمترجم والصحفي لؤي عبد الاله عن باقي اقرانه من المثقفين الذين غادروا العراق في فترة السبعينات من القرن الماضي، ففيما توجه الغالبية العظمى من العراقيين الى دمشق وبيروت وعدن(حيث كانت الإيديولوجيا هي الطاغية)، نجد انه اتخذ مساراً مغايرا ًوخارطة طريق مختلفة، بتوجهه الى الجزائر(الايديولوجيا اقل حدة) التي كانت ماتزال تتثائب استيقاظاً من سباتها الفرنسي على ورشة التعريب الأولى، والى وهران تحديداً التي كانت منطلقه نحو افاق بلا حدود، ومنها الى مدينة كوزموبوليتيكية مثل لندن بكل تنوعها وخليطها البشري وشبكة علاقاتها المتنوعة والغريبة والتي تحفظ للتنوع المغاير عن الأصل السكسوني، الحرية في التعبير عن خلفيته وخصوصيته.
لقد تركت لندن بصمتها وأثرها الواضح على تجربته الثقافية والشخصية، من حيث الغزارة والتنوع وطريقة التناول الحيادية الباردة في إختيار زاوية النظر والتأمل، وانعكاس ذلك كله على تجربته السردية سواء في القصة او الرواية واختيار طبيعة الشخصيات ونوع الحدث وهندسته وبناءه، في محاولة لترجمة ذاته وتجربته (وهو المترجم اصلاً) من خلال السرد، ليس على طريقة قبلة باردة من خلف الزجاج، بل من خلال تجربة روحية تأملية عميقة لاحوال البشر بمختلف أجناسهم، ومختلف علاقاتهم وأخضاعهم للملاحظة والتحليل للخروج بخلاصة فلسفية تعكس ازمة وجود انساني بشكل ما، ساعده في ذلك قدرته على التفكير بطريقة انكليزية باردة ومحايدة ينحت ويصب شخصياته بدون تثاقف بطريقة يبدو فيها وكأنه كاتب بريطاني مع التمايز.
التجربة السردية لدى لؤي عبد الإله
ان التجربة التي مر بها عبد الاله تنعكس بهذا الشكل اوذاك على اختياره لكائناته التي تتحول الى كائنات فلسفية بعد اضفاء تجربته وتسلطه الطاغي على هذه الكائنات وتلاعبه بمصائرها، رغم تظاهره بالحياد وترك السرد (المنفصل عن كاتبه) هو الذي يعبر عن تشكلها وتحولاتها.
في اكثر من مجموعة قصصية (رمية زهر، أحلام الفيديو، العبور الى الضفة الأخرى، لعبة الأقنعة)، ورواية ذات طابع عرفاني(كوميديا الحب الإلهي) يبدو لؤي عبد الإله كأنه المهاجر الذي مازال ينتابه قلق الحنين الدائم الى ايام وذكريات البراءة الأولى التي تركها خلفه في مكان ما من بغداد، في البيت الاول، في غرفة المعيشة، في الحوش البغدادي، في الأيام الأولى، او عند العتبة الاولى للباب الذي يمثل بالنسبة له اول اطلالة على العالم المغاير للفردوس الاول لكل عراقي(بيت العائلة)، وغادره منقاداً عند اول اشارة اغواء للمغامرة الى حافة العدم (الهجرة) المحفز الأول للإبداع، وكان ثمنها تلك التكلفة الباهظة التي تشعر بها منبثة في غالبية قصصه القصيرة بشكل خفي. لقد نسي لؤي عبد الاله شئ ما هناك، في الدار الاولى، في البلد الاول، في الايام الاولى، وان الم الفقدان تحول الى خسران دائم ينعكس على كل كائناته بشكل مموه تشعر به منبثاً في ثنايا اغلب النصوص التي ابدعها سواءً في مجال القصة القصيرة او الرواية او الترجمة او حتى في تجربته الصحفية.

عبة الأقنعة: عالم يتوارى خلف التشفير 
في مجموعته القصصية(لعبة الأقنعة) الصادرة في عام 2017 عن دار (دلمون الجديدة) في دمشق يحاول لؤي عبد الاله ان يترك بصمة جديدة في عالم القصة القصيرة وعموم السرد العراقي والعربي بعد البصمات السابقة التي تركها في هذا الميدان سواء في مجال الرواية او القصة القصيرة. نحن هنا امام نصوص مراوغة ومموهة تبدو عصية على الفهم احياناً، وسرد من نوع خاص ذو نهايات مفتوحة ينتهي بأسئلة تتوالد ذاتياً في ذهن القارئ لتدفعه كما السارد او كاتب النص الى المشاركة في الوصول الى حل ما. جدلية هذه النصوص تتجلى في أكثر من مستوى وهي قابلة لأكثر من تأويل في لعبة ثنائيات متداخلة ومتصارعة في خلطة عجيبة تزاوج بين، الحلم والواقع، الوعي واللاوعي، التسامي والنكوص، الذات والآخر، الانا الحرة الوثابة للتحقق وشرط الوجود الانساني المُقيد، لكائنات مطفأة الوهج تعاني الشعور بالإغتراب ويسيطر عليها عدم الرضا وعدم القناعة وخيبة الوجود الانساني بإعتباره مزحة ثقيلة وسمجة. تجربة لؤي عبد الاله حاولت ان تدفع بالسرد الى خارج حدود الحكاية العادية التي تنتهي بخاتمة منجزة وفق السياق التقليدي، وهنا يحضرني عدد من الفلاسفة والكتاب الذين حاولوا الترويج للفلسفة الوجودية من خلال الأدب والمسرح في ستينيات القرن الماضي، والذين تعاملوا مع كل انسان على انه فيلسوف على طريقته الخاصة، وخروجهم شكلاً ومضموناً على أساليب من سبقهم.
يلجأ الكاتب من خلال نصوص المجموعة العشر الى تحويله الوقائع اليومية لكائناته الإعتيادية، وفي لحظة ما ونتيجة حدوث مفارقة ما او تداخل مجموعة من المصادفات والاخطاء، الى حدث استثنائي يدخل في مسارات غرائبية ورغبات مكبوتة، تناقضات كامنة تطفو الى السطح فجأة، احلام مؤجلة، دمامل بحاجة الى ان تنفجر، اوهام تُصارع لتصبح حقائق، في عالم مشفر يخفي نفسه خلف قناع ما، ليتجلى بوضوح في لحظة ما من فعل القراءة عن طريق الكشف والتجلي كومضة فلسفية تضي النص، كما تفتح لنا هذه النصوص فسحة للتأمل والمغامرة في طرح التساؤلات التي تُقلق الوجود الانساني من خلال ارتياد المناطق المزوية من الهم الانساني المتواري خلف اقنعة الرتابة والطقوس الانسانية المعتادة، عبر تزاوج مثمر بين الفلسفة والسرد القصصي يتحمل اكثر من مستوى للتأويل وحتى الفهم.
القارئ حر في قراءته للنص وحر في تأويله وهذه الحرية اجبارية ! لذلك نحن امام تأويلات غير مقيدة فيما يتعلق بالقارئ، لكن في الوقت نفسه هناك قانون اوشرط داخلي للنص يحكمه ويلزم المتلقي بعدم تجاوزه ويمنعه من التحليق بعيداً في تأويله اوالقفز بعيداً الى ما لا نهاية، وهذه هي المعادلة التي تحكم القارئ بالنص.
ان النص العادي يمكن ان يخضع لاكثر من تأويل فما بالك بنصوص تتخذ منحاً واقعياً تجريبياً نفسياً او اسطورياً كنصوص هذه المجموعة التي يمكن اعتبارها مغامرة في السرد القصصي المتفرد في النسج المُركب المتعدد المُستويات، حيث يُشعرك السارد بأنه يتعامل مع نصوصه وشخصياتها بتقنية سينمائية كمخرج ومؤلف أول ومؤلف ثان.

لقد التقط لؤي عبد الإله حياة كائنات عادية وتعامل معها من زوايا مختلفة ليتلاعب بمهارة بمصائرها وليضعها في محنة التمرد على رتابة حيواتهم تارة أو بتعريضهم الى مفارقات تارة أخرى، فيحولهم الى كائنات فلسفية قلقة تصحو فجأة لتكتشف بأنها مجرد كائنات عديمة الاهمية تتمنى ان تطفو احلامها اللاواعية لتصبح هي الحقيقة المثلى المرتجاة، بعد أن كتمها القدر وحولت مصائرها مجموعة من المصادفات الحقيقية ليبدو حاضرها وكأنه الاحتمال الوحيد للمصير المتحقق. ان القاسم المشترك لمعظم هذه (الكائنات) يتمثل في كونها كائنات عادية تتحول الى كائنات مأزومة بعد تعرضها لمفارقة ما لتكتشف ان وجودها ماهو الا مزحة ثقيلة وسمجة، وان المسؤولية الأولى والأخيرة لما كانت عليه يقع على عاتقها في النهاية. ان هذه الكائنات هي كائنات فلسفية من طراز ما ، وهي دائماً ما تخلف في وجدان القارئ شحنة فلسفية او انطباع فلسفي خاص بالشخصية.
لحظة التمرد هي لحظة التساؤل هي لحظة نزع القناع
كلنا ممثلون في النهاية نلتزم بطريقة عيش وفق قواعد الاتكيت نلبس مايعجب الاخرون، ونرتدي القناع المناسب لكل حالة، ملابسنا ماهي الا ازياء تنكرية نرتديها من اجل ارضاء الآخر وليس لارضاء ذواتنا، واقنعتنا محاولة لتجميل واقع لا يطاق لكننا مجبرين على التعامل معه بالحفاظ على البرستيج العام وما يقتضيه من ضغوط خلاف رغائبنا، فالحياة في النهاية ماهي الا طريقة عيش وفق قواعد الرتابة نتلافى من خلالها الخروج عن السكة، والا انقلبت حياتنا الى جحيم. الانسان في هذه النصوص، صانع سلام لنفسه وهذا السلام مزيف وعلى حساب الطبيعة البشرية التواقة للتمرد والانعتاق وعدم الرضوخ للمصير والقدر، سورات التمرد والغضب والمواجهة لهذه الكائنات المتصالحة مع نفسها تبدأ مع طرح التساؤل نتيجة مفارقة ما تؤدي الى قلقلة الوجود الإنساني، لتبدء بكشف المخبوء المتواري خلف زيف السلم والهدوء من معاناة مزوية في ركن ما من زوايا الروح خلف وهم السعادة والرتابة.
سأتناول في هذه الانطباعات المتواضعة عن مجموعة (لعبة الأقنعة) اربعة قصص قصيرة من ضمن العشرة قصص التي تضمنتها، ليس من بينها عنوان احد القصص التي اطلق اسمها على المجموعة من باب اطلاق الجزء على الكل. وهذه القصص هي (المخادع)، (قصة بروك واولاده)، (تاء التأنيث)، (ملاذ خاص جداً).
 في قصة المخادع
في قصة المخادع نجد ان (الغرف هي ايامنا) وان المغامرة هي في محاولة فتح باب(الغرفة الأربعون- غرفة المسكوت عنه منذ بداية البشرية)، وهي اللحظة الفاصلة في تحديد وتقرير المصير ولا عودة بعدها الى ماكان قبل هذه اللحظة التي هي اشبه بـ(الدنيا التي وظيفتها هو اخراج المكتوم بحسب العرفانيين) بجملة من المصادفات او الحماقات او الاخطاء. في هذه القصة اجدني منقاداً وراء خيالي لأصل الى الخطيئة(الاصلية) الاولى، خطيئة آدم(الأب)، التي جرت الى عدد من الخطايا بعد طرده من الجنة في مقدمتها القتل(الابنة فدوى هي الثمن العظيم)… ومحاولة تملصه من المسؤولية وتحميلها ابليس(الشخص الغريب) للتخلص من عبئ مسؤولية الحرية وما تجره عليه من ويلات المحنة التي هي في حقيقتها، محنة مزدوجة لكائنين يتناوبان على ارتداء قناع واحد.
في قصة بروك واولاده 
أشعر بأن روح ميلوش فورمان في فلم أماديوس وكذلك روح ميلان كونديرا في رواياته العديدة حاضرة ومسيطرة على أجواء النص، القداس الجنائزي الذي الفه موزارت والذي اغاض سالييري هذا القداس الخالد المخالف لطبيعة موزارت ونزقه الطفولي، كل العالم مازال يستمع له منذ ما يقارب القرنين فيما ان الذي ابدعه (موزارت) مات ولم يتذكره احد (لم يمشي في جنازته سوى خمسة اشخاص ليست من بينهم زوجته)، كما يمكن احالة بعض مقاطع الحوار في هذا النص الى المأثور الديني والتأريخي وهي لعبة تمويه برع فيها القاص سابقاً، ولسنا في مقام التحدث عنها هنا.
يكشف الحوار الذي يدور بين المهاجر القادم من بغداد الذي يأتي الى الوكالة(لغرض التأمين على الحياة) والسيد بروك(وكالة الـتأمين على الجنائز)،عن وقوع الأول في الفخ الذي وضعه الثاني -الذي برره بخطأ المُعلن بإسقاط كلمة من اعلان التأمين على الجنائز بعد الموت- عن الاساليب التي يمكن ان تستخدمها الرأسمالية في التسويق لنفسها ولمشاريعها.
الحوار يكشف عن عن رغبة الأول في التأمين على حياته فيما الثاني يسوق لمشروعه الجنائزي بإسم الخلود، فالرأسماية تسوق لنفسها حتى لو اضطرت لشتم نفسها، حتى لو اضطرت الى تسويق ماينافيها، حتى لو سوقت لـ (تي شيرت) يحمل صور تشي جيفارا.
السيد بروك(إد) ينتقد الطابع الاستهلاكي الذي يمثل عصب الرأسمالية ويتحدث عن الخلود الذي ينافي هذا الطابع بمحاولة تسويق مشروعه الجنائزي بإعتباره نفي للرأسمالية واسلوبها الاستهلاكي. الرأسمالية تجدد نفسها بالطريقة التي تضمن فيها تراكم ارباحها، حتى لو استخدمت القناع والخديعة لتسويق الموت بطريقة التأمين على الحياة (ربما عن طريق الخطأ -غالباً مايكون مقصود ولكن مموه- لاحظ ان المحاور الآخر هو من العالم الثالث – بغداد)، هذا النص يكشف عن موقف سياسي بامتياز رغم عدم وجود ولا اشارة للسياسة لامن قريب ولامن بعيد في هذا النص وهنا تكمن ضربة السارد الحاذق_ (تمويه عن القيم التي تسوقها الرأسمالية لخداع الشعوب الأخرى-هل لذلك علاقة بمشاريع الربيع العربي؟).
في قصة (تاء التأنيث)
في هذا النص يبقى المهاجر كائن قلق ومهدد ومعرض لاهتزازات، لوجوده في بيئة غير بيئته الأصلية، مهما عمل ومهما اجتهد ومهما شعر بالسلام، فأن هذا القلق يبقى موجوداً وكامناً في داخله ويمكن ان يطفو الى سطح وعيه ربما بمصادفة او اجتماع مجموعة من المصادفات ليشعر بكونه كائناً مهدداً بوجوده كالريشة في مهب الريح.
في قصة ملاذ خاص جداً
بعد وصف الجنة في مقاطعة ويلز يستخدام القاص طريقة نسج سردي يزاوج بين الواقعية والحلم في نصوص متخيلة تبدأ بتساؤل (كيف يمكن العيش في منطقة كهذه؟) وتنتهي بتساؤل في نهاية القصة (هل تعلمون أنني أشاهد كل يوما نفس الحلم: مئات الحيوانات التي عاشت وماتت هنا، أراها واقفة حول سريري وفي فم كل منها عظْمة. ماذا ترمز العِظام في الأحلام؟».). هنا تبدو الجنة بلا ناس تعبير عن الجحيم، مالذي نفعله بجنة لاتمنحنا سوى الشعور بالعزلة ؟

عن مجلة الناقد العراقي الألكترونية

اقرأ ايضاً