غبار الذهب
يتسرب، أخيرا، صوت أمه إليه، وسط همهمات الآخرين الخافتة، تظهر أمامه، بكامل عنفوانها، فتوقظ صورته فيه، تلك الرحلة التي جمتهما معا، بين المدرسة ودكان الصائغ؛ بعد أن طلب المدير منه إحضار أمه معه، رافقته في اليوم اللاحق، وكم ظن أن إطراءً ينتظره بحضورها، لالتزامه الشديد، بتنفيذ أوامر المعلمين، لكن بدلا من ذلك، راح المدير يؤكد على عدم صلاحيته للدراسة؛ بعد أربعة أعوام، اكتشف معلموه، ظاهرة لم تقع يوما من قبل؛ كان ابنها يبتدئ في كتابة الكلمات من أواخر حروفها حتى أوائلها، وفي الحساب كان يجمع الاعداد ويطرحها، منطلقا من يسار الأرقام.
ها هي تقتاده، صامتة، واجمة، مختنقة بعبرة، يلتفت إلى الوراء، بين لحظة وأخرى، ليراقب مدرسته وهي تبتعد عنه، دون أن يراوده أي إحساس بانفصاله الابدي عنها.
يستفيق على أنامل ابنته وهي تمسح حبات العرق عن جبينه. يتطلع فيها مليا؛ كم تشبه “بهيجة” أمه. في الطريق من المدرسة إلى دكان الصائغ، لم يتبادلا كلمة واحدة، كان بإمكانه التقاط ما ظل يدور آنذاك في سريرة أمه؛ بعد كل التضحيات التي قدمتها له، ها هو يخذلها بهذه الطريقة المهينة، معرضا إياها لسخرية الآخرين. بالمقابل، ظل منطويا على نفسه، متجنبا مصارحتها، بأن أسلوب كتابته كان لإبهارها وكسب إعجابها به، وأن بإمكانه تبديل اتجاه قلمه إن هي أعطته فرصة أخرى.
تمرر بهيجة راحة يدها فوق شعره، فيغمره دفء طفولي. بينها وبين أمه صفات مشتركة كثيرة؛ كم حاول الأقارب والجيران ثنيها عن تنفيذ ما ثبت في رأسها، لحظة خروجهما من المدرس: ما الذي يمنع نقل ابنها الوحيد إلى مدرسة أخرى؟ بل أن بعضهم عرض مساعدته في تعليمه، لكنها أعطت كلمتها للصائغ، وانتهى الأمر؛ سيقوم ابنها بخدمتها مقابل تعلم حرفته. وعندما سألوها عن سبب اختيار الصياغة له دون غيرها، قدمت إجابة واهية: كان الصائغ صديق المرحوم أبيه، ولا بدّ أنه سيعتني به مثل ابنه.
يرفع ذراعه ليلمس شعر ابنته، لكن قواه تخونه، لون شعرها الأحمر، شبيه بلون الذهب لحظة غليانه. قال الصائغ بعد انقضاء يوم على تشغيله: اِنفخ، فراحت الدمامل البرتقالية تنفقع أمامه، وفوقها تصاعد بخار متألق بقوس قزح. بعد تجمد الذهب في قوالبه، أمضى الصائغ وقتا طويلا في صقل النماذج، الملتمعة تحت أشعة الضوء النيوني، وقبل إغلاق المحل، أعطاه مكنسة وكيسا قطنياً.
لا بد أن تكون سمعته في المدرسة، وراء قرار الصائغ بإقصائه عن أسرار الحرفة، والاكتفاء بتشغيله خادما، ولن تزداد أمه إلا قناعة بفشله الكامل. لن يحتجّ يوما ضدها، بل سيظل دائما يبرر ردود أفعالها؛ ألم تقاوم من أجله ضغوط أهلها لتزويجها ثانية؟ بل من أجله اشتغلت خادمة، دون أجر، لدى خياطة المحلة، كي تتقن حرفتها. كانت وسط الصعاب تمني نفسها برؤيته طبيبا، مكافأة لتضحياتها، لكنها بدلا من ذلك، حصدت خيبة مبكرة.
سينكمش، شيئا فشيئا، على نفسه، مسلما بعجزه، ولن تثير سخريات اصدقاء الصائغ في نفسه أي غضب، بل لكأنهم يتحدثون عن شخص آخر غيره. ولن تمر فترة طويلة حتى يكفوا عن مضايقته. بالمقابل، سيصبح خبيرا في إعداد الشاي، واستقبال الزبائن بشكل لائق. وقبل إغلاق المحل، سيقوم بترتيبه على أحسن وجه، وأخيرا، كنس أرضيته كنسا دقيقا.
تعيده الأصوات والعبرات الخافتة إلى حجرته. ها هما أبناه يجلسان حوله، يمسك كل منهما بإحدى كفيه. تتناهى إلى سمعه حشرجات أنفاسه الثقيلة، كأنها خفقات طائر محبوس في قفص صدره. يسترجع صورة ذلك العصفور المطلي بماء الذهب، والواقف فوق ساعة جدارية ذات رقاص ذهبي، نابض. سيصبح مسح ذلك التمثال طقسا يوميا له، سيرى العصفور الذهبي مرارا في أحلامه، محلقا بين جدران المحل الواطئة، باحثا عن منفذ للهرب.
تقترب بهيجة منه، فيفسح ابنه الأكبر، لها مجالا للجلوس جنبه. حضورها يمنحه قوة غريبة. منذ رحيل امها وابنته تستحوذ على مفاتيح روحه. كان مرضه الأخير فرصة كي تتفرغ له وحده، دون أسرتها.
كيف سيخبرهم بسره؟ وكيف سيصدقونه؟ هو الذي لم يتخذ يوما أي قرار، ولم يعش حياته إلا لتنفيذ طلبات الآخرين، ينجح بأخفائه عنهم كل هذه السنوات. وهل ستسامحه بهيجة لإخفائه عنها حتى هذا الوقت؟ منذ البدء فكر بمكاشفة أمه بالسر، لكنه خاف من سخريتها وازدرائها، فطواه بين جوانحه.
ستمر عليه سنوات، مركونا في زاوية المحل، يتابع مسلوب الإرادة أوامر الصائغ: امسك لي هذه القطعة، ارفع هذه العتلة قليلا، علق هذه الصورة هناك… ولن يشعر بذاته إلا شيئا معتما وسط أشياء براقة، حتى عثوره على طلسم السر.
يعيده هفيف المروحة السقفية إلى حجرته، يفتح عينيه، يواجهه الصائغ، جالسا وراء طاولته، مستغرقا في النقش على حافة سوار جديد. ينهض من سريره، يحمل مكنسة، ويبدأ بتنظيف الأرضية. هنا وهناك تلتمع ذرات الذهب المتطايرة، من فوق الصفيحة الموضوعة أمام الصائغ. يختفي الآخر من المشهد. يسحب صحنا عميقا مملوءا بالماء، يفرغ محتويات كيس الكنس فيه، يحركه بانتظام، قبل نقل مائه إلى قدر كبيرة تدريجيا، نظهر له نجوم قليلة، منبثة فوق قاع الصحن.
مثل النمل في بطئه ودأبه، سيراكم ذرات الذهب، يوما بعد يوم، شهرا بعد شهر، عاما بعد عام؛ لا أحد منهم يعلم بفعله السري. معه يشعر زوار المحل بالقوة والنجاح، وبحضوره تنفتح قرائحهم في إطراء أنفسهم، وانتقاص غيرهم، ولن يجدوا صمته وهزات رأسه إلا تعبيرا عن الموافقة. ستصبح حياته بينهم قناعا لحياة أخرى مخفية عن أنظارهم؛ مقابل ذلك سيزداد انشدادهم إليه. كم أبدى كثير منهم استعداده لمساعدته في فتح دكان خاص به، وكم اعتبر الصائغ رفض مساعده لهذه العروض تعبيرا عن إخلاصه له.
هناك، فقط، في سرداب البيت المعتم، تستيقظ مغاليق روحه، على شذور الذهب المتوقدة تحت ناظريه، بعد عزلها عن أتربة النهار، وهناك، فقط، يقترب تدريجيا صوب هدفه الكبير؛ أن يثبت لأمه كفاءته، بوضع كنزه السري بين يديها. وكم كان متأخرا، عن بلوغ مرامه؛ حينما امتلأ الكيس القطني بنثار الذهب، كانت أمه بلا ذاكرة.
تتسرب همهمات الآخرين إليه، مرة أخرى؛ يتسرب الخدر، أكثر فأكثر، في عروقه؛ تضج الصور والأفكار، أكثر فأكثر في رأسه، متشبثة، بعناد، بوهم اللحظة.
كم تمنى بعد رحيل أمه أن يغير حياته جذريا، أن يبتدئ في مكان آخر، مع أناس آخرين، وحينما قرر التخلي عن عمله، سكنته الكوابيس دون رحمة.
سيستأنف عادته، ثانية، تحت وطأة حاجة قسرية مجهولة، وكأن تجميع ذرات الذهب الضئيلة فعل طقسي، يقوم به لذاته، ولن يمنحه اليوم، الذي ينتهي دون القيام بطقسه، إلا غمّاً ثقيلاً.
توقظه قطرات الماء المسفوحة فوق شفتيه، تتغلغل برودتها بين خلايا جسده، فتستحضر، لأول مرة، عالم الحواس السحري؛ طعم الشاي الساخن والجبن المملَّح صباحا. رائحة الأحماض الحادة مختلطة برائحة الشواء، ملمس كيس الذهب بين أصابعه. كانت العتمة في السرداب حاجزا لرؤية كنزه، حين أفرغه في كيس أكبر.
إنه الآن أمامه، يقبع خلف سجادة الحائط؛ أربع خطوات تفصله عنه. منذ تركه محل الصياغة، وهو يؤجل، كل يوم، فتح كنزه؛ في الليل تمتلئ أنفاسه بمشاعر الإثارة والفرح، لفكرة اللقاء بكثيب الذهب، وحينما يحل الصباح، يقصي تنفيذ قراره إلى اليوم اللاحق.
تمسد ابنته شعره الأبيض، غضون جبهته وتجاعيد وجهه. توقُ واحدُ يعصف به خلال تلك اللحظات: أن يلامس بأصابعه المتيبسة حمرة ذهبه.
يحشد كل ما لديه لتنفيذ رغبته: تقلصات عضلات وجهه، انتفاض جسده، حركة شفتيه، وحينما يدرك الحاضرون رسالته، تجره خيوط العتمة إلى أحضانها.
يفتح عينيه، فيواجهه الجدار عاريا من سجادته، تبرق أمامه، وللحظة، صورة البدوي وحبيبته المختطفة، على ظهر حصان واحد؛ بدلا من ذلك، هناك فجوة صغيرة، كان قد صنعها بنفسه لإخفاء كنزه. ها هو الكيس بين يدي ابنه الأكبر، يراقبه الجميع بصمت واندهاش، وهو يتقدم مرتبكا صوب أبيه.
وسط الحجرة، يقع المحظور الذي لم يفكر يوما به: بعد مرور سنوات على كنزه بعيدا عن الضوء، ينغرز العث، شيئا فشيئا، بين خيوط الكيس القاسية، ليحولها إلى رماد. ها هو الذهب يسقط قدّامه، لتدفع به المروحة في كل الاتجاهات؛ صوب الوجوه، صوب السقف، صوب الأغطية، صوب الجدران، وعبر النافذة المفتوحة، صوب السماء الزرقاء.
*من كتاب “رمية زهر”، 1999، دار المدى، دمشق