قاموس بغداد الجديد: مصطلحات الحصار والحروب

2٬180

بعد قضاء أيام قليلة في بغداد اكتشفت وجود مفردات غريبة عن سمعي ما انفك الأقارب والأصدقاء يستعملونها فتنعكس على وجوههم شتى الانفعالات. ومع استغراقي التدريجي في طلب شروحات منهم عن هذه المصطلحات تمكنت من تلمس ثلاث خصائص لها: (1) طابع التورية الذي يجعلها منفصلة عما تعنيه بشكل مباشر أي تلطيف المصطلح بحيث لا يعكس أي  شحنة عاطفية، في الوقت نفسه يرتبط بسلسة طويلة من الحكايات التي تحولت إلى جزء من مخزون الذاكرة الجمعية. (2) روح الدعابة التي تخفف كثيرا عما تنقله من بشاعات ومظالم وقسوة، وهذا يساعد المتلقي على تجرع الواقع والتعايش معه. (3) الحيادية التي تجعل المصطلح خاليا من طابع الإدانة للظاهرة التي يسعى إلى القبض عليها وتعريفها، فهي تخلو بفضل ذلك من  طابع النقد المباشر الذي قد يسبِّب ردود فعل قاسية من الطرف المعني سواءً كان سلطة أو أفرادا. لم تسنح لي الفترة القصيرة التي قضيتها في بغداد (بعد غياب 26 سنة عنها) أن ألِمَّ بالكثير من المصطلحات التي ظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة وخصوصا في فترة التسعينات حيث كانت العقوبات الدولية تفتك بشروط الحياة الأولية وتدفع باتجاه الصراع الغريزي من أجل البقاء وبكل الوسائل. لكن قد تشجع هذه العيِّنة اللغويين على سبر أغوار هذا الحقل والكشف عن دلالاته السيكولوجية والسيميولوجية.

ورقة: إشارة إلى ورقة المائة دولار. وهذه أصبحت تساوي ما يكسبه معلم بخبرة طويلة خلال عامين من العمل بعد انخفاض قيمة الدينار العراقي الدرامية على أثراحتلال الكويت وما ترتب عنه من كوارث بضمنها فرض العقوبات الدولية على العراق.

دفتر: 10 آلاف دولار، ويبدو أن هذا المبلغ الموضوع في دفتر يضم 100 ورقة ذات المائة دولار شائعا في فترة النظام السابق بين أفراد النخبة الحاكمة وأبنائهم، وكانت هدايا الرئيس السابق أحيانا لمن يرضى عنه من زواره دفاتر من هذا النوع.

راح باي باي: قُتل بطريقة غامضة على يد النظام السابق.

حواسم: الأشياء التي سُرقت بعد سقوط  النظام السابق من قطاع الدولة أو الأشخاص الذين قاموا بعمليات السرقة. هذه المفردة مقتبسة من عبارة “أم الحواسم” وهي التسمية التي أطلقها الرئيس العراقي السابق على الحرب الأخيرة منذ بدايتها. وإذا كان فعل حسم يعني قطعه مستأصلا إياه فانقطع، فإن المعنى المستعمل هنا هو فض قضية ما بشكل قاطع ونهائي وهذا ما كانت عليه الحرب الأخيرة بعد حرب “أم المعارك” التي أطلقها الرئيس السابق على حرب 91.

حينما مررت بمبنى وزارة المواصلات شعرت بالرهبة: كانت طوابقه عارية من جدرانه تماما فبدا كأنه هيكل عظمي تلبس لونا فاحما بسبب الحريق الذي ظل ينهش أعضاءه قطعة قطعة. قال مرافقي إن هذا المبنى تمت سرقته أولا ثم أضرِمت فيه النيران، ونتيجة لذلك لم تبق منه سوى الأعمدة الحديدية التي ظلت ممسكة بطوابقه بعناد غريب لتصفع عين المشاهد بما جرى يوم 9 أبريل. بالقرب منه ظهر لنا مبنى الأسواق المركزية المهجور بأبوابه المشرعة للريح. يحكي مرافقي كيف أن اللصوص كانوا يغيرون على المبنى لنهب ما فيه من أجهزة كهربائية، وحال خروجهم من المبنى يتحولون إلى باعة لطفاء يساومون الزبائن:

“بكم تبيع هذا التلفزيون؟”.

“خذه بـ 100 ألف دينار. إنك لن تجد أرخص من هذا السعر في كل بغداد”.

“ما رأيك بـ 50 ألف”.

“لا، ذلك لا يناسبني”.

ووسط تلك الفوضى المجنونة سيصيح أحد الباعة اللصوص على زملائه: “من عثر على الريموت كونترول لهذا التلفزيون؟”.

بعد أكثر من  ثمانية أشهر من انتهاء الحرب ما زال المرء قادرا على مشاهدة بعض “الحواسم” معروضة للبيع في الشوارع: تلك القضبان والحافات والأشياش الحديدية المستخدمة في نصب النوافذ. وأحيانا تشاهد أشخاصا بملامح مريبة يسوقون سيارات مارسيدس. سيقول مرافقي آنذاك عند رؤيته أحدهم: “انظر إنه من الحواسم”.

في هذا الفيض من القصص هناك حكايات تكشف إشكالا عميقا بين روح التعاون والأمانة التي تجمع الناس بعضهم ببعض وبين روح النهب للقطاع العام الذي يظل غريبا عنهم: يحكي آخر يقيم في مدينة صدام (التي بدّل  سكانها اسمها إلى مدينة الصدر)عن أحد جيرانه الذي جاء محملا بخمسة كومبيوترات سرقها من الجامعة التكنولوجية بواسطة عربة يجرها حمار. وبعد وصوله إلى بيته أعطى الحوذي كومبيوترا واحدا أجرة للنقل. يقول هذا الصديق إنه سأل جاره عن سبب إعطائه هذه الأجرة السخية فكان جواب الآخر: “هناك من أعطى حوذيا مليون دينار أجرة لنقله بعض الأشياء (الحواسم)”.

خَرَط السوق: انهيار قيمة الدولار وما يؤدي إليه من خسائر كبيرة للبعض ومكاسب كبيرة لآخرين وخلق وضع مالي وتجاري مهزوز للسوق، ويعود هذا التعبير إلى ما جرى سنة 1996 عشية موافقة العراق على مذكرة التفاهم التي آلت إلى اتفاقية النفط مقابل النفط بين العراق والأمم المتحدة. إذ أغرق (كما يشاع) عدي ابن الرئيس السابق السوق بالدولارات مما أدى إلى هبوط قيمته من 3000 دينار عراقي للدولار الواحد إلى 450 دينار ثم عاد فاشترى الدولارات بثمن بخس من السوق. وأدى ذلك إلى خسائر الكثير من التجار مما دفع بعضهم إلى الانتحار و أصيب بعضهم بجلطات قلبية أودماغية. ويُستعمل التعبير اليوم كلما وقع اهتزاز في السوق إشارة إلى ظهور أزمة في السوق.

نَقَري: (القاف يلفظ على الطريقة المصرية في لفظ الجيم): هو لص ينفذ عملية السرقة بخفة شديدة وإتقان عال. وقد يستخدم التهديد أو الحيلة للوصول إلى هدفه بدون أن يلجأ إلى العنف. ضمن هذه المجموعة ينتمي النشالون ومختطفو السلع  لحظة إغفال أصحابها عنها.

سْويتش (switch): الشخص المصاب  بمرض نفسي أو عقلي  نتيجة للظروف  التي مر بها. وهو يطلق بالدرجة الأولى على الذين يمكن مشاهدتهم اليوم في شوارع بغداد  وهم يتحدثون مع أنفسهم بصوت عال.  هناك أسباب كثيرة وراء الإصابة أهمها ما جلبته الحرب العراقية الإيرانية من صدمات على الكثير من الأفراد الذين فقدوا أحباءهم أو عاد الأخيرون إليهم بدون سيقان أو أذرع أو بسبب الرعب الذي عاشته عوائل ظلت تخفي أبناءها الهاربين من الجيش أو لأسباب سياسية وما تركه ذلك العبء على عقول بعض أفرادها ونفوسهم. كذلك كانت لفترة الحصار آثار نفسية مدمرة على بعض أرباب الأسر الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن توفير الحد الأدنى من الطعام  لأبنائهم، ثم كانت الحربين الأخيرتين وما تركته من تأثير مباشر على قطاعات واسعة من المدنيين لما تضمنته من قصف  مهول شمل كل أنواع القنابل الضخمة الموجودة في الترسانة الحربية الأميركية. في حالات كثيرة كان الموتى يسكنون بالقرب من الأحياء إذ ظلت جثثهم منتشرة على الأرصفة  لفترة طويلة مثلما جرى في الحرب الأخيرة.

قفّاص: (وجمعها قفّاصة) وهي من فعل قفّص ومصدرها تقفيص, والقفاص هو محتال يقترب فعله من فعل الساحر القادر على خداع الناس في لمح البصر. وجاءت التسمية أولا لتصف أولئك الأفراد الذين يتوسطون لبيع سيارة أو بيت أو أي شيء آخر ويأخذون العمولة من الطرفين بدون أن يعرف الباعة والمشترون بعضهم البعض. حالما يسمع القفاص بأن بيتا معروضا للبيع سيذهب إلى صاحبه ليتظاهر بأنه يريد شراءه، لكنه في الوقت نفسه يتحرك ليجد مشتريا  ومن خلال الفسحة التي تتوفر له سيتمكن من كسب مبلغ ما ثم يختفي من الساحة تماما.

لكن هذه العبارة اتسعت لاحقا مع اتساع وسائل الغش خلال سنوات فرض العقوبات الدولية. هناك مجال آخر برزت فيه مهارات القفاصين وهذا يتمثل بتصريف النقود، خصوصا تصريف الدولار. فأن تذهب إلى أحد الصرافين المزعومين لتبدل ورقة 100 دولار بدنانير عراقية ستجده حاملا في يده صفا عاليا من الأوراق النقدية وحينما تعطيه ورقتك سيضعها فوق “ضبة” النقود. سيعطيك سعرا منخفضا وحينما تعبر عن احتجاجك سيلتفت إلى مجموعة من “القفاصين” المتواطئين ليسألهم عن سعر الدولار فيؤكدون السعر المنخفض الذي عرضه عليك. في تلك اللحظة يكون الصراف الكاذب قد قلب صف النقود، وحينما تعبر عن غضبك منه وتطالب بورقتك ستتسلم بدلا منها ورقة مزيفة (شاعت في منتصف التسعينات ورقة المائة دولار الإسرائيلية المزيفة).

أنا التقيت بقفاص متوسط المهارة حينما ذهبت إلى محل للتصوير في الباب الشرقي لتسلم فيلم بعد تحميضه وطبعه. وبعد أن أعطيت أحد الواقفين وراء الكاونتر ورقة 25 ألف دينار أرجع لي  ذلك الشخص الصور لكنه ظل يتظاهر بأنه في حالة سهو. وحينما طلبت منه أن يرد لي الباقي كانت الورقة بين أصابع يده اليمنى ويبدو أنه كان ينتظر مغادرتي ناسيا ما تبقى لي في ذمته.

مُكَبسِل: من كلمة كبسول. وهي تصف حالة الشخص بعد أخذه للمخدرات الكيميائية التي تباع في هيئة كبسولات والتي ساد انتشارها خلال عقد التسعينات. في البدء تفشى استعمالها بين السجناء الذين كانوا يعيشون في ظروف مجردة من أي بصمة انسانية، حيث كان الحراس يوفرونها لهم مقابل أجور عالية يدفعها الأهل لأبنائهم السجناء. حاليا يمكن للمرء أن يشاهد أفرادا جالسين في مقهى وغارقين في حالة من “الانسطال” المطلق فيشير البعض إلى أي منهم: “إنه مُكَبْسِل”.

وطنية: ليس لهذا التعبير علاقة بالوطنية التي وردت في كتب التاريخ والواجبات المدرسية بل هو رمز للكهرباء الطبيعية التي تنتجها محطات الطاقة الكهربائية. فحينما يقول الابن لأمه: “جاءت الوطنية” فهو يعني رجعت الكهرباء إلى البيت.

مولِّدة: هذا التعبير لا علاقة له بالمرأة المولِّدة بل هو للجهاز الذي أصبح أساسيا للحياة العامة لتوليد الكهرباء. وفي المناطق الشعبية هناك مولدات تغطي الحاجة لعدد من البيوت وتدفع كل أسرة اشتراكا متواضعا مقابل ذلك أما بالنسبة لأحياء الطبقة المتوسطة فلكل بيت مولدته الخاصة التي يظل ضجيجها يترجّع صداه في الرأس حتى عودة “الوطنية”. وعادة يتنقل الكثير من  الناس خلال كل ساعات اليوم بين “الوطنية” و”المولِّدة” بدون أي مظاهر انزعاج أو غضب.

بازوكا: لا علاقة لها بقذائف البازوكا بل هي مصباح كبير يتغذى بالشحن أثناء وجود “الوطنية” ثم يولع بعد انقطاع الكهرباء.

عاكسة: خزن الكهرباء بواسطة البطاريات ثم عكسه على بعض المصابيح الخاصة.

لالة: الفانوس الذي أصبح مستخدما  في بعض الأوقات جنبا إلى جنب مع مصباح اليد.

طاقّ (من فعل طقّ أي انفجر): وهو الشخص الذي كسب من “الحواسم” إلى درجة الإشباع. وأصبح هذا التعبير يستخدم اليوم لوصف أولئك الذين أثروا بطرق غير شرعية وبفترة قصيرة بحيث أنهم وصلوا إلى حد التخمة.

توريط: منذ بداية الثمانينات شاع أسلوب توريط الناس بأعمال إجرامية لجعلهم مخلصين تماما لحزب البعث الحاكم. والتوريط غالبا ما يحدث تحت التهديد. ينقل اللواء المهندس المتقاعد أبو أنمار (أحد النشطاء الديمقراطيين الذين التقيتهم  في بغداد وأعجبتني كثيرا رؤيته وغنى طروحاته) تفاصيل ما جرى بعد أن وزِّعت استمارات على أعضاء شعب وفروع حزب البعث (وهم قياديون متقدمون) تستفسر منهم إن كانوا يرغبون في الالتحاق بـ “قادسية صدام” (الحرب العراقية الإيرانية). بادر أغلبهم بملئها بينما تجاهلها عدد صغير منهم خصوصا أولئك العسكريين الذين كانوا في الأساس يشاركون في الحرب. بعد أيام قليلة طلب من أولئك الذين لم يملأوا الاستمارات الحضور إلى قاعة معينة وفي وقت معين. وهناك ظهر الرئيس السابق ليخبرهم أنه مستاء كثيرا من تصرفهم. وبعد انصرافه أجبِروا على البقاء حتى قدوم مسؤول آخر ليقرأ عليهم الحكم الذي أصدره الرئيس ضدهم: لقد تقرر تنفيذ حكم الإعدام بكم…آنذاك ساد صمت مطبق بين الحاضرين بدا كأنه أزلي. فجأة انطلق ذلك المسؤول بقراءة ما بيده ثانية: لكن الرئيس قرر في حالة عدم ظهور أي احتجاج من أي منكم فإنه يعفو عنكم شرط أن تنفذوا أي أمر يُطلب منكم. وبعد تنفسهم الصعداء بقليل جاءت حافلات كبيرة لتنقلهم إلى سجن الرضوانية المخصص للسجناء السياسيين، وهناك كان على كل فرد منهم أن يلتقط مسدسا موضوعا على طاولة ويدخل إلى غرفة ليطلق رصاصة واحدة على رأس أحد السجناء المقيدين ثم يخرج من الباب الآخر قاتلا محترفا. وهكذا تم توريطهم جميعا. ولا بد أن صدور القرار وتنفيذه فورا لم يعط أيا منهم الوقت الكافي لاتخاذ قرار آخر قد يدفع حياته ثمنا له مقابل أن يحافظ على إنسانيته.

شملت سياسة التوريط  الكثير من مظاهر الحياة وابتدأت منذ لحظة وصول صدام حسين إلى الرئاسة. إذ نُفذ أول عمل توريطي حينما أراد تصفية رفاقه القياديين الذين كانوا متحمسين لفكرة التقارب مع سوريا أو أنهم غير راضين على الطريقة الفردية التي أزاح وفقها الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر، آنذاك تم إشراك الكثير من القياديين الصغار والكبار لتنفيذ حكم الإعدام بما يقرب من 500 فرد من رفاقهم، وبذلك ضمن الرئيس الجديد تورط أعضاء حزبه في القتل وضمن ولاءهم الأبدي له.

تَستُّر: هذا التعبير يستعمَل كتعبير عن “الجريمة” التي يرتكبها الفرد في حالة عدم إخبار السلطات عن أي شخص يسيء للرئيس أو النظام السابقين. فمع جهود المؤسسات الأمنية لتوريط أكبر عدد ممكن من الناس في نشاطاتها، كان العاملون في قطاع الخدمات أكثر من يتم استدعاؤهم وإجبارهم على البدء بتزويدها بمعلومات عن زبائنهم. وإلى هؤلاء ينتمي الحلاقون والسواق ونادلو المقاهي والمطاعم وباعة الصحف وأصحاب أجهزة الاستنساخ وأمثالهم. وفي حالة إبلاغ أحد الأفراد عن شخص “معاد” للنظام بحضور واحد من عمال الخدمات فإن الأخير سيعاقب أيضا لأنه تستَّر على ذلك الشخص المعادي. هذا المبدأ ساد أيضا في فترة الحرب العراقية الإيرانية ، فأي فرد يتستر على شخص هارب من الجيش سيلقى عقوبة الإعدام نفسها التي سيلقاها الهارب نفسه. كذلك تمت إبادة عوائل بأكملها لتسترها على شخص ما ينتمي إلى حزب سياسي “معاد” عن طريق إخفائه في بيوتها، بغض النظر عن طبيعة القرابة التي تجمعه بها.

تسود حكاية طريفة في بغداد تبدو كأنها قطعة سريالية كتبها سلفادور دالي وأخرجها بونويل: شاهد أحد أهالي بغداد حلما ظهر فيه أنه رئيس للجمهورية وأنه عيّن صديقا له وزيرا للدفاع. وحينما سرد ذلك الحلم في مقهى الحي نقل أحدهم الحكاية إلى الجهات الأمنية المسؤولة. وبعد فترة من التعذيب له ولصديقه أحيلا إلى محكمة فصدرت العقوبة ضدهما: حُكم على الحالم بالسجن لمدة خمس سنوات لتمنيه أن يصبح رئيسا للجمهورية أما صديقه فكان الحكم ضده بالسجن ثلاث سنوات للتستر على حلم صديقه.

تقرير: سادت هذه المفردة بشكل شائع منذ بداية الثمانينات وهي لا تشير إلى التقرير الصحافي أو التقرير الذي يكتبه الخبراء بعد دراستهم لهذه الظاهرة العلمية أو تلك بل هي تشير فقط إلى  تلك الرسائل التي يكتبها أي منتم إلى حزب البعث مهما تكن درجته الحزبية، بل كلما كان موقعه الحزبي متواضعا تزايد الضغط عليه لكتابة تقارير ضد الآخرين ليؤكد إخلاصه للنظام ورئيسه. وخلال الحرب العراقية الإيرانية ازداد  حجم التقارير المكتوبة تحت وطأة الخوف من إرسال الأفراد إلى خطوط الجبهة الأمامية خصوصا بعد بدء وصول أعداد كبيرة من القتلى المنقولين من ساحات القتال إلى المناطق الشعبية. ولتأخير إرسال هذا الشخص أو ذاك أسبوعا آخر كان عليه أن يشي بشخص ما كي يكسب رضا المسؤولين الحزبيين عنه. كان الكثير من التقارير تحوَّل إلى الجهات الأمنية للنظر فيها وفي حالات كثيرة تنتهي بإعدام من يُكتب ضدهم فيها للسرعة التي تنجَز فيها المحاكمات أو بسبب اعترافهم بارتكاب “الجرائم” التي تضمنتها تقارير “الرفاق” عنهم تخلصا من التعذيب الذي يمرون به قبل أي حكم ضدهم.

هناك عدد كبير من التقارير كتبها أخوة ضد أخوتهم أو آباء ضد أبنائهم أو بالعكس. يحكي قريب لي كيف أنه شاهد ابنه الذي كان آنذاك في السادسة عشرة من عمره يبحث في جيوب سترته المعلقة على مشجب وحينما سأله تحت التهديد عمن طلب منه القيام بذلك كان جواب الابن: “مسؤول الخلية”. إذ طلب الأخير منه بناء على طلب مسؤوله الأعلى أن يتحرى فيما إذا كان الأب يتسلم نشرات معادية.

هناك تقديرات غير موثقة تشير إلى أن نسبة عدد المتورطين في كتابة تقارير أدت إلى إلحاق الأذى بالآخرين  هي حوالي 20% من عدد السكان الراشدين في العراق. أي شخص واحد بين كل خمسة‍‍ أشخاص.

حصار: ظلت هذه المفردة بالنسبة للمقيمين خارج العراق مفهوما مجردا لا يزيد عن كونه عتلة أدت “إلى تدمير البنية التحتية للمجتمع”. وهو تعبير سياسي للعقوبات الدولية التي فرضها مجلس الأمن الدولي ضد العراق بعد غزو جيشه للكويت. أما بالنسبة لأغلبية العراقيين في الداخل فهي تعني السنوات التي مرت عليهم منذ عام 1991 وحتى وقوع الحرب الأخيرة. مع ذلك هم يميزون بين فترتين تقع الأولى منها بين عامي 91 ونهاية 96 أما الثانية فهي بعد بدء تطبيق قرار “النفط مقابل الغذاء” الذي لم يوافق الرئيس العراقي السابق عليه إلا بعد ما يقرب من مرور عامين على تقديمه أمام مجلس الأمن الدولي. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت معظم العوائل تتسلم ما يكفيها للبقاء على قيد الحياة. أما قبل ذلك أي في فترة الحصار الأولى  حيث تصاعدت  معدلات التضخم بشكل جنوني إلى الحد الذي جعل رواتب الموظفين الشهرية في أحسن الأحوال لا تسد تكاليف العيش لأكثر من عدة أيام. هنا بدأ الحصار الذي هو مفهوم مجرد لمن لم يعشه حقا يقضم “فعليا” الأولويات التي تقوم عليها حياة الأفراد والعوائل. فإذا كانت حربا الخليج الأولى والثانية بالنسبة للفرد صراعا من أجل البقاء عن طريق إيجاد مئات الوسائل التي تساعده على تأخير إرساله إلى خطوط القتال الأمامية فإن حرب الحصار بين عامي 91و96 هي صراع ضد عدو مجهول. أفضل صورة للحصار ظهرت حينما بدأ الناس ببيع الكنبات  والأسرّة والكراسي في بيوتهم  لضمان عيش أسرهم أياما إضافية ثم سياراتهم ثم منازلهم  الكبيرة مقابل شراء منازل أصغر ثم بيع بلاطات السيراميك لأرضيات بيوتهم ثم أعمدة الحديد التي تسند جدران الغرف بعد هدها على يد عمال مختصين بهذا النوع من الأعمال ثم بيع حدائق بيوتهم والملابس والسجاجيد والتلفزيونات.

في هذه الفترة تنامت غريزة البقاء لدى الناس إلى حد متطرف وكسِر الحاجز الذي كان يقف بين الفرد والملكية العامة. فسرقة الأسلاك الكهربائية النحاسية وأنابيب المياه وغيرها جرت خلال تلك  الفترة لمنح من يقوم بها فرصة البقاء أسبوعا إضافيا. وفي هذه الفترة ازدادت معدلات الجريمة بشكل خارق للمألوف وعجت السجون باللصوص والمحتالين والقتلة.

من جانب آخر هناك قصص أخرى تحكي عن كيفية استغلال النظام الحصار لصالحه. تسود حكاية (أو إشاعة) عن موت مجموعة من الأطفال بطريقة غامضة في يوم واحد حينما أخذهم آباؤهم لعلاجهم من أمراض عادية، وفي اليوم الثاني ظهر موكب من التوابيت الصغيرة أمام لجنة دولية كانت قد حضرت لتقصي آثار الحصار على الأطفال.

يحكي صديق عن طبيب كان يشارك في تدمير صناديق الأدوية التي تبعثها منظمات خيرية إلى العراق تحت إشراف قصي الابن الثاني للرئيس السابق. وحينما ترجاه ذلك الطبيب يوما لإبقاء صندوق من الأدوية لأهميته الخاصة للمرضى جاء جواب قصي: أبي يقول إنه إذا لم تُكنس جثث العراقيين من الشوارع فإن الحصار لن يُرفع عن العراق.

في فترة الحصار كانت رواتب الجنود لا تغطي تكاليف النقل كي يسافروا إلى معسكراتهم. ومع حاجة عوائلهم إلى الطعام اضطر البعض منهم إلى الهروب والقيام بأي عمل لإعالتها على الرغم من مخاطر وقوعهم بيد دوريات الانضباط العسكري وما كان يعنيه من قطع لآذانهم. تتردد حكاية عن طبيب رفض تنفيذ الأمر الصادر له بقطع صيوان أذن أحد الهاربين من الجيش قائلا: عملي هو لإنقاذ المرضى وتخفيف الآلام عنهم لا العكس. وكان الثمن حياته.

سلاّب: بعد سقوط النظام السابق وانهيار الأمن كليا في بغداد يوم 9 أبريل الماضي ظهر قطاع الطرق في الشوارع البارزة مثل شارعي الرشيد والسعدون وراحوا يوقفون المارة لانتزاع ما يمتلكونه من نقود. هناك قصص كثيرة يرويها أهالي بغداد عن تلك الأيام التي أعقبت سقوط تمثال الرئيس الأسبق في ساحة الفردوس.

بعد أن فتش سلاّب أحد الأشخاص المطقَّمين ببذلة وربطة وحذاء لماع ولم يعثر في جيوبه على أي ورقة نقدية استاء كثيرا فصرخ في وجهه محتجا: كل هذه الأناقة ولا تحمل شيئا. إذا جئت مرة أخرى في هذا الطريق فسأعاقبك. بينما شعر سلاّب آخر بالشفقة لأحد ضحاياه فمنحه 5000 دينار بعد أن فتشه ولم يجد لديه سوى 500 دينار فقط ‍.

بوري: البوري في العامية العراقية هو أنبوب الماء المعدني. وحينما يقول أي شخص: ضربني زيد “بوري فهو يعني أن زيدا قد وعده بشيء ما لكنه خذله ولم ينفذ وعده. وجاءت التسمية أولا من شيوع استخدام “البوري” في فترة الحصار للتحايل على الزبائن عند بيع الخضار. فأن تشتري على سبيل المثال كيسا من الباذنجان بعد اطمئنانك أن حباته داخل الكيس القطني الشفاف سليمة تكتشف عند فتحه في البيت  أن الحاصل الموجود وسط الكيس فاسد وليس هناك سوى بضع باذنجانات سليمة تحيط بأغلبية فاسدة. والطريقة التي يستخدمها بعض الباعة للغش هو وضع “بوري” متسع وسط الكيس ثم ملؤه بالباذنجان الفاسد. وبعد وضع حبات سليمة حوله يُسحَب البوري  ويُغلَق الكيس. لذلك كان الناس يرددون في هذه الحالة أن الكيس مضروب “بوري”. لكن هذا التعبير انتقل ليعني عدم الالتزام بالكلمة أو بالوعد. فحينما تتواعد مع صديق ولا يأتي حسب اتفاقكما فهو قد ضربك “بوري”.

هناك حكاية تدور في بغداد تقترب من أن تكون مزحة محض. اتصل شخص مقيم في الغرب بأبيه الفلاح قبل بدء الولايات المتحدة بهجومها على العراق ليطمئن عليه، لكنه فوجئ بسؤال غريب يطرحه الأب عليه:

“متى سيأتون؟”. فكان رد الابن: “ألا تخاف أن يضربوكم بأسلحة كيماوية؟”.

“لا يهم المهم أن يأتوا”.

“ألا تخاف أن يضربوكم بالأسلحة البيولوجية؟”

“لا يهم، المهم أن يأتوا”.

“ألا تخاف أن يضربوكم بالأسلحة النووية؟”

“لا يهم ليضربونا بأي شيء. شرط ألا يضربونا “بوري” ولا يأتوا”.

اقرأ ايضاً