من يسكن مزبلة التاريخ

3٬363

تظل هذه الجملة الكليشة تتكرر كلما سقط طاغية هنا وهناك او حلت هزيمة بحركة سياسية ما : الى مزبلة التاريخ، وكأن التاريخ مزوّد بزبالين وعربات ضخمة لنقل الفضلات وتدويرها بنظام صحي لتعود إلينا بشكل أنقى، وهنا يكمن خطر هذا النوع من المزابل ، فإدخال هتلر اليوم الى مزبلة التاريخ سيعود بعد أربعين سنة بشكل اخر ربما بول بوت او عيدي أمين وادخال الطاغية نيرون الذي احرق روما وهو يعزف على قيثارته يعود على شكل صدام حسين وهو يدفع باتجاه حرق بغداد بصواريخ عابرة للقارات وقنابل اليورانيوم المنضب بعد احتلاله الكويت عام 1991 بينما هو مشغول بكتابة الروايات او اعادة تدوير هولاكو الذي على يده دمرت بغداد بسكانها وعلومها وكتبها على هيئة زعيم داعش ابو بكر البغدادي. 

لكنني لا اؤمن بوجود تدوير من هذا النوع داخل مزبلة التاريخ العملاقة، بل قد يكون سكانها جنس اخر غير الشريرين الذين على قلتهم فانهم بشكل او باخر حرفوا مسار التاريخ او في حقيقة الامر هم صاغوا التاريخ. 

لنأخذ أمثلة لبعض الطغاة الكبار المشهورين بفظائعهم: انظروا الى الملك الانجليزي هنري الثامن الذي قتل اكثر من زوجة كي يضمن الزواج من امرأة تنجب له وريثا للحكم، والذي تخلى عن الكاثوليكية لتحقيق رغبته بالزواج فقط وما ترتب عليه من قسر المجتمع على تبديل مذهبهم وتدمير الكثير من الكنائس والأيقونات والتماثيل للتماشي مع الكنيسة الانجليكية التي أسسها هذا الطاغية. وما قام به هنري الثامن من حرف لمسار بريطانيا قد صب دون ان يدري لاحقا بانفتاح فكري واسع ساعد على تحقيق ثورة علمية وصناعية لاحقة فهل يمكن ادخال هذا الطاغية الى مزبلة التاريخ بعد كل ما ترتبت عليه جرائمه وحماقاته من تطور لم يؤثر على بريطانيا فحسب بل أوروبا وربما العالم اجمع. 

لنأخذ طاغية اخر مثل نابليون. ما الذي كان يريده من الذهاب الى الامبراطورية الروسية التي تتجاوز مساحتها آنذاك مساحة قارة؟ في معركة بورودين قُتل اكثر من ربع مليون جندي فرنسي ولم يكن امام الجيش الروسي سوى اختيار الانسحاب وترك نابليون يتعقبهم بانتظار قدوم موسم الشتاء والصقيع القاتل لجيش انهكته التنقلات، فهم جلِبوا من باريس وليون وتولوز الى جحيم طقس جليدي قاتل تصل درجة الحرارة فيه الى – ٣٠ ..مع ذلك فان كل حروبه الدونكيشوتية حفزت تلك الإمارات الإقطاعية على ان تتحد وان تتبنى النظام الديمقراطي، فبفضل نابليون ظهر المد القومي العارم ومعه تشكلت ألمانيا وإيطاليا ودول قومية أخرى من ركام الإقطاعيات المفككة .

استطيع ان أجزم بأن مزبلة التاريخ ان وجِدت فهي ستضم تلك الأغلبيات الصامتة التي يأتي المغامرون الطموحون ذوو الإرادة الحديدية ليدّعوا بانهم يمثلونها لكنهم حال استلامهم للسلطة يبدأون باستخدام هذه الأغلبية الصامتة وقودا لحروبهم ومعاركهم الداخلية. هؤلاء المغامرون الثوريون قد وضعوا أمام أنفسهم خيارين: اما الموت او المجد، والمجد لا يتحقق الا باستعباد الأغلبية الصامتة التي بفضلها تدور ماكنة الحياة والابتكار وتحسين ظروف الحياة. لكن أفرادها الان ليسوا سوى عبيد للسادة القساة. .. 

انهم أولئك الذين نظنهم دائماً يقيمون في مزبلة التاريخ من صنع التاريخ، وهم الذين قرروا مصير من كانوا معاصرين لهم وخطوا الطريق الذي ستسير الأجيال فيها عبر التاريخ. 

لم تبن الجمهوريات الديمقراطية إرثا كبيرا في بناء الامم وبناء دولها بل هم الطغاة من قاموا بهذه المهمة: لويس الرابع عشر من كان وراء إقامة البيروقراطية الفرنسية التي ظلت أساسا لكل الجمهوريات التي أعقبتها في تسيير الخدمات العامة وفي تنفيذ القرارات الحكومية. انه جنكيز خان الذي جاءت منه كل الجحافل المغولية التي قوضت دول القرن الثالث عشر والرابع عشر في  العراق وإيران والهند والصين وكان هولاكو في طريقه الى أوروبا لولا صد الجيش المملوكي له بقيادة الظاهر بيبرس في عين جالوت بفلسطين. 

حتى القرن الثامن عشر لم تعرف البشرية الا ثلاث فترات قصيرة من سيادة الحكم الديمقراطي غير الليبرالي: في اثينا القرن الخامس قبل الميلاد ولمدة تقل عن القرن، وفي جمهوريات بعض المدن الإيطالية في القرن الثالث عشر، ولفترة قصيرة، ثم بروز الديمقراطية الملكية في بريطانيا مع ظهور المصانع الكبيرة  وتحول المجتمع الى الرأسمالية: انه القرن الثامن عشر لكن النظام الديمقراطي ظل حكرا على الملاكين واصحاب الثروات الكبيرة ولم تبدأ عاصفة التغيير الا بعد وقوع الثورة الفرنسية وبعد أخذ الإمبراطور الصاعد نابليون رسالتها الى أوروبا لتبدأ تلك الإقطاعيات بالتحول الى دول قومية والبدء بتطبيق المبادئ التي طرحتها الثورة الفرنسية بطرق سلمية .. لعل جملة هيغل حين رأى الإمبراطور الفرنسي الصاعد وهو يدخل الى مدينة يينا الألمانية تجعلنا نفكر بالتاريخ ومزابله : ارى التاريخ راكبا على حصان ! 

لقد ولِدت  الأنظمة الديمقراطية الليبرالية وفي فمها ملعقة ذهب .. لقد أقام الطغاة أسس دولهم عبر القمع والظلم والاستبداد الى الحد الذي أصبحت دولهم قادرة على السير وحدها مثلما تتحرك كواكب المنظومة الشمسية وفق قوانين نيوتن. وإذا كان الخوف وراء سير الدول التي أسسها الطغاة فان العادة التي فرزها الخوف مكن من التخلي عن الطغاة في اخر الامر بعد ان انتفت الحاجة اليهم وأصبح بالإمكان لهذه الدول ان تسير كالمجموعة الشمسية ولن يكون الحاكم سوى موظف تنتهي صلاحية حكمه بعد اربع او خمس سنين.. 

فهل دخل اولئك الطغاة مزبلة التاريخ؟ 

 

 

 

اقرأ ايضاً