الأفكار المستنسخة كالجينات
الافكار المستنسخة كالجينات
في كتابه ‘الجينة الانانية’ يخصص عالم الأحياء ريتشارد داوكنز الفصل الاخير لشيء يشبه في تضاعفه وانتشاره الجينات لكنه يختلف عنها بطريقة الاستنساخ. فإذا كانت الجينة تسعى للبقاء عبر التزاوج كي تنتقل الى الجيل الجديد من الأبناء فان الفكرة او العادة او الموضة تنتقل عبر العقول وتنتشر بين الناس، والأداة التي تستخدم في الانتقال هي اللغة بشكليها المكتوب والمحكي.اطلق داوكنز على ظاهرة الانتشار هذه اسم “ميم” même وهي الكلمة الفرنسية التي تعني ‘ نفس الشيء’ فأنت تقول بالفرنسية le même personne وهذه تعني نفس الشخص. لكن بانتزاعها من اصلها ومنحها معنى ما ذا صلة واهية بأصلها تصبح المفردة مصطلحا علميا بحتا. حسب قاموس اكسفورد، ‘ الميم’ même هو عنصر من ثقافة او من نظام سلوكي ما ينتقل من فرد الى اخر عن طريق التقليد او بطرائق اخرى غير جينية.وإذا كانت الجينة تسعى للبقاء المادي بفضل انانيتها فان عقل الفرد يسعى للبقاء في المجتمعات المتزمتة المنغلقة من خلال تقليد ما هو سائد في منطقته باعتناق المذهب او النظام الفكري او العادات الغالبة. وهنا يكون مقياس بقاء الفرد مختلفا عن مقياس بقاء الجينة فالبقاء في الحالة الاولى مقياسه مدى تقبل الوسط الاجتماعي والعائلي الذي يعيش فيه الفرد.ولعل هذه الفكرة تساعدنا على فهم الكيفية التي تتحول مجتمعات واوساط اجتماعية وفقها من اتباع مذهب ما في حقبة زمنية ما ثم الانقلاب عليه تماما في حقبة زمنية اخرى.لفهم هذه الفكرة، قد تساعدنا صور النساء الفوتوغرافية في العديد من المجتمعات العربية قبل خمسين سنة ومقارنتها بصور فوتوغرافية من زمننا الحالي. نتفاجأ بان امهات وجدات نساء اليوم كن يرتدين اخر صرعات الملابس التي تظهر في شارعي الشانزيليزيه واكسفورد في حين نرى ان أغلبية الحفيدات اليوم متجلببات بالحجاب او غطاء الرأس او اللثام بألوان كامدة بين السواد والرمادي والبني الغامق. ولعلنا نتفاجأ في بعض المناطق الشعبية البغدادية التي يسود فيها التشدد الديني ومظاهر رفض الثياب العصرية والتشبث باطالة اللحى والمسابح حين نكتشف ان اباء وأجداد هؤلاء المتشددين دينيا ومذهبيا كانوا معتنقين افكارا وعادات لا دينية (وفي الكثير من الحالات كانوا منتمين لاحزاب ثورية راديكالية ) على عكس ابنائهم وأحفادهم اليوم الذين انقلبوا على ما توارثوه منهم بزاوية ١٨٠ درجة.نستطيع على ضوء ما صيغ أعلاه ان نحدد ثلاث قنوات يتم فيها نقل الافكار ( اذا تجنبنا اضافة العادات والموضات والتقاليد الجديدة). الاولى هي تلك التي تسعى الى مخاطبة ملكة التفكير لدى المتلقي وهذا ما يجسده الفكر الإغريقي وورثته من الفلاسفة والعلماء المسلمين في العصر الوسيط، فالفلاسفة والعلماء الإغريق ظلوا حريصين على بناء الحجج العقلية المستندة الى مبادئ الاستقراء والاستنتاج. ولعل افضل ما ورثناه اليوم هو كتب أفلاطون التي وضع فيها سقراط بطلا حيث يحاجج بمنطقه المبني على مبدأ كشف التناقض داخل القناعات العامة السائدة، والمنطق الصوري الذي صاغه أرسطو.مع الفلاسفة الإغريق نجد انهم سلموا بفكرة وجود قوة مسيرة للكون وما عليهم الان الا ان يكشفوا اسرار القوانين التي وضعتها هذه القوة في العالم والتي بفضلها ينتظم الوجود المادي للعالم. وبذلك فهم وضعوا هذه القوة المسيرة للكون وراءهم وراحوا يكشفون خبايا الحياة ضمن ما هو متاح لهم من كشوفات علمية في عصرهم. يمكن القول ان الفكر الإغريقي كسب الى جانبه نخبة المثقفين اكثر من ان يكون فكرا شعبيا عاما اذ ظلت الافكار الدينية السائدة انذاك هي المتغلغلة في عقول الأكثرية ولذلك حصل إقرار حكم الإعدام ضد سقراط بأغلبية المحلفين، فمن بين الخمسمائة محلف وافق ٢٨٠ منهم على عقوبة الإعدام وعارضه ٢٢٠ محلفا، والتهمة هي الاساءة للآلهة الإغريقية!الطريق الثاني الذي تتبعه الفكرة كي تكسب عقل الاخر تتمثل بإثارة غريزة البقاء فيه عبر تهديده بالعقاب الجسدي الذي سيلحق به بعد موته ان هو لم ينفذ ما تريده الآلهة ( وفي حالات اخرى الاله) منه من طاعة وتقديم الاضاحي والصلاة المنتظمة. وإذا كان الالم الجسدي يتطلب وجود اعصاب وخلايا حية وشبكة معقدة من العصبونات والأوردة والشرايين كي يستطيع الجزء المتضرر ان يوصل رسالته الى الدماغ بان ضررا لحقه ( عبر رسالة الالم المحض) فان هذه الاشكالية حلتها الافكار التي تخاطب غريزة البقاء من خلال تجدد مستمر لكل هذه الخلايا كي تصل رسالة الالم الى الدماغ فيشعر المرء بالالم. بزرع الخوف لدى العقل الذي من وظائفه تجنيب الجسد الالم والفناء نجحت كثير من الأنظمة الاستبدادية سواء كانت إكليريكية او دنيوية بتثبيت سلطتها المطلقة على اتباعها. وضمن هذا السياق تدخل مشاهد الإعدام العلني الدورية بأبشع اشكالها كي يسقط الفرد ذاته على الضحية ويتماهى معه فيرتدع من تجاوز الخط المرسوم له.الطريق الثالث الذي تتبعه الفكرة كي تكسب عقل الاخر تتمثل بالسعي للوصول الى قوة الفرد الشهوانية ( التي تتجسد باشباع الغريزة الجنسية لغرض الحفاظ على النوع وغريزة الحفاظ على الحياة الفردية عبر توفير افضل للمأكل والمشرب والمسكن). ولعل تطور صناعة الإعلان خلال القرن العشرين ينضوي تحت هذا الطريق، فمن خلال استخدام جسد المراة في الإعلان يمكن تحقيق مبيعات اكبر للاطعمة والعطور والملابس وغيرها.وقد تحقق النقيض للطريق الثالث من خلال تعميق مشاعر الكراهية والحقد ضد الطبقات الموسرة وإيجاد تبريرات فلسفية واقتصادية كي يتم تدميرها عبر الثورات دون إمكانية تحقيق درجة اليسر التي كان أفرادها يتمتعون بها للجميع، وهذا ما حققته بعض الثورات الكبرى في القرن العشرين.اختصارا: يمكن القول ان آلية انتقال الافكار وتناسخها من عقل الى اخر شبيه بانتقال الجينات من جيل الى اخرلكن تطور وسائل الاتصال والتواصل جعلت الفكرة تنتشر بشكل أسرع من ذلك فالكمبيوترات قادرة على إرسال فكرة ما عبر مئات الآلاف من العقول في ان واحد. الافكار تنتشر بشكل أسرع حتى من انتشار الفيروسات والبكتريا ولعل هذا يفسر سبب حالة الغليان التي يعيشها عصرنا اليوم، والتي لم يشهد مثيلا لها من قبل.هل فكرتي هذه تدخل ضمن مفهوم المَيم التي ابتكرها عالم الأحياء ريتشارد داوكنز؟ هل التعريف باي فكرة هو بحد ذاته فكرة؟