البلدوزر… الصراع بين الذاكرة والاستيطان

2٬258

هل كان الروائي الفلسطيني غسان كنفاني يشكل خطرا على الأمن الإسرائيلي؟

بعد جنين، كان على الجيش الإسرائيلي أن يذهب خطوة أخرى: التوجه نحو تلك المباني التي تضم كل ما يتعلق بالذاكرة الفلسطينية.
في بعض مدارس رام الله، قام الجنود باقتلاع ونهب الأقراص الصلبة من كومبيوتراتها، وفي محطة المحبة والسلام تم تكسير أو سرقة معداتها، عدا عن التخريب المروع الذي الحق بمسرح القصبة ومسرح عرائس الدمى والمراكز الثقافية الأخرى. بل حتى ذلك المكتب المختص بسجلات ملكية العقار التي تعود إلى العصر العثماني لحقه الخراب واختفت أو دمرت محتوياته.
في هذا النوع من التخريب، يبدو لي أن التوجه الإسرائيلي هو نحو إزاحة شيء يتجاوز عمليات القتل للأفراد أو الجماعات، بل صوب مسح ما يمكن أن يتصل بـ«سرديات الذاكرة». أن يكون إلغاء الآخر لا عبر إلغائه جسديا، بل عبر منع الآخرين عن تذكره. ضمن هذا السياق، يأتي حذف كل التفاصيل التي جرت خلال فترة انتفاضة الأقصى: أسماء ورسوم الأطفال الذين قتلوا على أيدي جنود الاحتلال، آلاف الحكايات التي كتبها التلاميذ في دفاتر الإنشاء، ونقلت إلى ذاكرة الكومبيوتر، ارشيف مسرح القصبة الذي يمثل ذاكرته الفنية.
يحضرني اغتيال غسان كنفاني، سنة 1972، الذي ظلت أسبابه لغزا بالنسبة لي: ما الذي يشكله روائي فلسطيني مثله من خطر على إسرائيل؟ ولعل أحداث الغزو الأخير، وتدمير المعالم الثقافية في رام الله، قد جعلاني قادرا على تقديم تبرير افتراضي: الروائي، في إعادة صياغة الماضي، لا يكتفي بإثبات حقيقة وجوده، بل هو قادر على توثيق ما لا يستطيع المؤرخ أن ينقله: تلك التفاصيل التي لا تحتمل صفحات التاريخ نقلها، والمعنية بخصوصيات الأفراد. فالتاريخ في تعميمه يقصي الفرد، إنه يؤكد الماضي الذي يخص مجموعة بشرية ما. بالعكس من ذلك، تسعى الرواية إلى تأكيد ما تتميز به هذه الجماعة عبر أفرادها، عبر الرصد لمصائرهم. ومن تلك المواد التي نبذها المؤرخ، سيصوغ الروائي من دون أن يعلم، أسطورة، مانحا بعدا إضافيا للشعب: عبر الأبطال يصل الشخص الأجنبي إلى هذا الشعب ليتماهى به. من جعلنا نتماهى مع الشخصية الروسية أفضل من دوستويفسكي؟ ومن جعلنا نتلمس الشخصية الفلسطينية في الشتات أو في المخيمات أفضل من غسان كنفاني؟ في روايته «رجال تحت الشمس» استطاع الروائي الذي قتل في سن مبكرة، أن يكشف بصيغة مجازية أبعاد المنفى الذي دفع الفلسطيني إليه بعد طرده عن الأرض.
مقابل هذه الذاكرة التي تمتد جذورها بتأن إلى طبقات زمانية ومكانية عميقة، تظهر فجأة ذاكرة أخرى من نوع آخر: ذاكرة لا تمت صلتها بالمكان عبر الآباء والأجداد، بل عبر ذاكرة التوراة، التي تعود فترة كتابتها إلى ما بعد سقوط دولة إسرائيل على يد نبوخذ نصر سنة 722 قبل الميلاد. ووفق هذه الذاكرة ينظر المستوطن اليهودي إلى الأرض الغريبة حوله فيسقط ذاكرة الأسطورة التي تتحدث عن زمن يعود إلى العصر البرونزي، أي إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة. ينقل ديفيد هير في مسرحيته التوثيقية، «طريق الآلام» إجابة أحد المستوطنين القادمين من بروكلين، حينما يعبر الكاتب عن استغرابه من زرع مستعمرة داخل مدينة الخليل، ليعيش فيها 521 يهوديا، محميين من 4000 عسكري: «الخليل هي قطعة أرض اشتراها ابراهيم، وهي أول معاملة تجارية يقوم بها يهودي عندما اشترى ابراهيم منطقة الخليل بمائتي شاقل ومنذ ذلك الوقت والاتفاق لم ينقض قط». أما القدس فقد اشتراها داود بمبلغ 400 شاقل، «وقد دقق الآن في السعر ووجد أنه بالفعل 400 شاقل». في الحماسة التي يظهرها هذا المتحدث جنون من نوع خاص يدفع الكاتب هير إلى التندر به، للتخفيف من جو المسرحية الثقيل، فكأن تلك الأحداث التي وصفتها التوراة، قد وقعت قبل 30 سنة، حينما كان المستوطن نفسه صبيا، لكأنه شهد بنفسه صفقات البيع والشراء.
لكن علماء الآثار والتاريخ المعاصرين في إسرائيل، ينفون، تماما، هذا التاريخ الذي صاغته أسفار التوراة. في مقالة نشرت بصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، الصادرة في 29 أكتوبر (تشرين الاول) 1999، يلخص كاتبها زئيف هيرزوغ، نتائج البحوث التي صدرت أخيرا بعد أعمال تنقيب وبحث استمرت أكثر من تسعين سنة. يقول هيرزوغ، إنه لم يتم العثور على أي دليل يثبت وجود أسوار ضخمة حول مدينتي أريحا وعاي، حينما جاء إليها يشوع غازيا. بدلا من ذلك، تشير التنقيبات إلى انهما كانتا مدينتين بسيطتين خاليتين من الأسوار والقلاع، ومثلهما كانت بقية مدن أرض كنعان، التي تسكنها أقوام عديدة. كذلك لم يستطع الباحثون أن يجدوا أي دليل على وقوع الهجرة العبرية من مصر، بل حتى اسم «إسرائيل» لم يذكر إلا في لوح مصري، بعد حملة الفرعون ميرنبتاح التي جرت سنة 1208 قبل الميلاد، على أرض كنعان، وذكر اسم هذه المدينة إلى جانب أسماء مدن أخرى، وقعت تحت احتلاله. يستنتج الآثاريون الإسرائيليون المعاصرون أن إسرائيل ويهودا لم تكونا سوى دويلتين أصغر بكثير من الوصف التوراتي، ولم تكونا لوحدهما بل وسط عدد كبير من الدويلات الصغيرة الأخرى، ولم يحدث توحيدهما أبدا. بل حتى الإله يهوه، الذي عثر على تماثيل له تعود الى القرن الثامن قبل الميلاد، لم يكن مختلفا عن آلهة المنطقة، إذ له شريكة اسمها اشيرا، وهذا دليل على أن مبدأ التوحيد لدى اليهود ظهر بعد الغزو البابلي ليهودا.
مع ذلك، تستمر سياسة الاستيطان، على الرغم من انتفاء التبرير التاريخي لها، فحتى في فترة «انتفاضة القدس» قامت حكومة شارون ببناء أكثر من ثلاثين مستوطنة في الضفة الغربية. يقول نفس المستوطن لديفيد هير الذي سأله عن أسباب الاستيطان: «يجب أن تكون لإسرائيل جذور، ولا يمكن أن تكون فقط ثقب مسمار، يجب أن تصل الجذور إلى أعماق الأرض، فالرب لم يعد اليهود بتل أبيب أو حيفا، بل ما وعد به هو السامرة ويهودا (الضفة الغربية)». في عمليات الهدم والبناء تتحرك البلدوزرات بسرعة لتحذف معالم المكان المستولى عليه حديثا، ولتحل محله أماكن ذات ملامح غربية لكنها تحمل أسماء توراتية. بل أصبح لهذه الآلة دلالاتها اللغوية الأخرى. البلدوزر وفق قاموس الـ«بي. بي. سي»: جرافة كبيرة مزودة بشفرة عريضة في مقدمتها، وتستعمل لرفع كميات كبيرة من الأنقاض والأتربة. لكن سياسة الاستيطان داخل الضفةالغربية وغزة الدؤوبة، وما رافقها من عمليات هدم للبيوت والقرى الفلسطينية، منحت معاني جديدة للبلدوزر، منها، انها آلة تستعمل لهدم البيوت فوق رؤوس المدنيين في حالة تعذر اختراقها عبر الجنود، والمعنى الآخر المجازي: انه فعل إزالة الذاكرة عبر حذف الحكايات التي تدور حول مقاومة الاحتلال، قبل تحولها إلى إنتاج فني. قطع الطريق أمام الذاكرة خوفاً من أن تسرد محتوياتها.
يقول ميلان كونديرا، في روايته «كتاب الضحك والنسيان»: الصراع الحقيقي بين السلطة والجمهور هو الصراع بين الذاكرة والنسيان، ولعل أفضل تجل لهذه العبارة الآن هو بين الذاكرة الفلسطينية المتشبثة بجذورها، وقوى النسيان التي تعمل لصالح المستوطن الغريب المدعوم بالبلدوزر. وهنا يأخذ البلدوزر معنى شخصيا بحتا.

 

اقرأ ايضاً