البناء الموسيقي للرواية: ميلان كونديرا مثالا
البناء الموسيقي للرواية: ميلان كونديرا مثالا
يسعى ميلان كونديرا في كتابه «خيانة الوصايا» إلى الكشف عن المصادر الفكرية والفنية التي شاركت في تكوين أسلوبه الروائي، فبتحليله لبعض الأعمال الروائية والموسيقية المنتمية إلى فترات زمنية مختلفة، تتضح العناصر التي استقى منها رؤيته الفنية. من بين هؤلاء يحتل بيتهوفن موقعا متميزا إذ معه تم رفض البناءات المعمارية الجاهزة التي كان الموسيقيون قبله يتبعونها في تأليفاتهم، وأصبح البناء الموسيقي نفسه إبداعا، وقد اتضح ذلك في سوناتاته الاثنتين والثلاثين. فقبل بيتهوفن كانت السوناتا بناء مهلهلا تتناوب الحركات فيه بين السرعة والبطء، بين الفرح والحزن، وكان الوقت الذي تستغرقه كل حركة متساويا تقريبا. لكن مع بيتهوفن ظهرت الوحدة المتكاملة بين الحركات عبر اختلاف كل منها في الوقت الذي تستغرقه، وفي طبيعة الشعور الذي تثيره.
يتوقف كونديرا عند سوناتا بيتهوفن 111، وهذه تتكون من حركتين فقط، تستغرق الأولى 8 دقائق و41 ثانية بينما تستغرق الثانية 17 دقيقة و42 ثانية، وهذه حال لم تحصل في الموسيقى من قبل. الحركة الأولى درامية، بينما الثانية هادئة وتأملية. وهذا الأسلوب الذي يبتدئ بحركة درامية وينتهي بحركة تأملية طويلة يتعارض مع مبادئ البناء الموسيقى جميعها، ويحكم على السوناتا بفقدان التوتر الدرامي الذي كان عنصرا مهما لبيتهوفن في أعماله المبكرة. يقول ميلان كونديرا: «هذا التبديل غير المتوقع في موقعي هاتين الحركتين منح هذه السوناتا قدرة بلاغية خاصة وحوَّلها إلى دلالة إيمائية للسوناتا، حيث يستثير حسها المجازي صورة الحياة القصيرة، وأغنية الشغف اللامتناهي التي تعقبها. ذلك الحس المجازي يقع خارج قبضة قوة الكلمات، لكنه مع ذلك قوي ودؤوب وقادر على منح السوناتا وحدة فريدة غير قابلة للتقليد».
ويكشف كونديرا عما تعلمه من نيتشه على مستويين مختلفين: استثمار البناء الموسيقي في الكتابة، ورفض الأنظمة الفكرية المتحجرة، ففي الكثير من كتب نيتشه نجده «يتابع، يطور، يمفصل، يبرهن ويحسِّن أسلوبه في التأليف. القواعد لديه هي التالية: الوحدة الأولية للكتاب هي الفصل، وطوله يختلف من جملة واحدة إلى صفحات عدة. ومن دون استثناء تتكون الفصول من فقرة واحدة، وهي دائما مرقَّمة».
في كتابيه «العلم المرِح» و«إنسان كله إنسانية» أعطى نيتشه لكل فصل عنوانا إضافة إلى الترقيم: من عدد معين من الفصول يتكون الباب، ومن عدد معين من الأبواب، يتكون الكتاب. الكتاب مبني على ثيمة رئيسية محدَّدة في عنوان الكتاب نفسه( ما وراء الخير والشر، العلم المرح، أنساب الأخلاق، الخ…). الأبواب المختلفة تعالج ثيمات مشتقة من الثيمة الرئيسية. «بعض هذه الثيمات الفرعية مرتب بطريقة عمودية ويناقش كل منها في باب واحد يحمل عنوان تلك الثيمة الفرعية، بينما هناك ثيمات تناقش في شكل أفقي على امتداد فصول الكتاب. هذه الطريقة تجعل الكتاب ذا بناء معماري شديد التمفصل (منقسم إلى عدد من الأبواب القائمة بذاتها) وفي أعلى درجات الوحدة (تتكرر الثيمات باستمرار). هذه الطريقة تجعل التأليف موشحا بإيقاع رائع مستنداً إلى تناوب الفصول القصيرة والطويلة مع بعضها البعض».
هذا الأسلوب سيتبناه كونديرا في رواياته كلها إذ نجده متشددا مع الناشرين باحترام العناوين الفرعية والأرقام التي تحملها فصول رواياته. الدرس الآخر الذي تعلمه كونديرا من نيتشه هو الطابع الافتراضي للفكرة، إذ برفض نيتشه للأنظمة الفكرية فإنه قد حقق تغييرات عميقة للكيفية التي تنشأ فيها لفلسفة، «ومثلما قالت حنا ارنت، فإن نيتشه ذو تفكير تجريبي. يقول نيتشه إن فيلسوف المستقبل بنزوعه لكسر ما هو متصلب وجاف لتقويض الأنظمة المقبولة جماهيريا، يفتح ثغرة تسمح بالمغامرة داخل المجهول. سيكون الفيلسوف آنذاك تجريبيا وحرا في الذهاب باتجاهات مختلفة تؤول في الأخير إلى الصراع في ما بينها».
يستثمر كونديرا هذه الرؤية في رواياته، إذ أنه ينطلق من قناعة نيتشه القائلة بأن ليس هناك أي دور للفكرة سوى كونها تساعد على ولادة فكرة أخرى لدى المتلقّي، لذلك يمضي ميلان كونديرا خطوة أبعد ليضعنا أمام حقيقة كون روايته استندت إلى نظام فكري مؤقت لا يلبث أن يتبعثر تاركا مكانه لنظام فكري مؤقت أيضا. هنا في عالم الرواية، تصبح الأفكار نسبية ومرحة وغير حاسمة، لذلك تصبح الرواية بالنسبة إليه المكان الذي يخلو من إصدار الأحكام، إذ أن كل شيء قابل لأكثر من تأويل.
ابتدأ ميلان كونديرا حياته الفنية في براغ كموسيقي لكنه تخلى عن هذه الحرفة مبكرا ليتحول صوب الرواية. جاء كتابه الأول “غراميات مرحة” في هيئة قصص قصيرة تربطها ثيمات معينة، ومع بدء الستينات أنجز كونديرا رواية “المزحة” ليعقبها بـ “الحياة في مكان آخر” و”فالس الوداع”. على أثر إجهاض ربيع براغ سنة 1968 بأيدي القوات السوفياتية، وُضع اسم كونديرا ضمن القائمة السوداء، وفي سنة 1975 منحته فرنسا اللجوء. ومنذ ذلك الوقت وكونديرا يكتب بحمية، حيث ظلت كل رواية تصدر له موضع إعجاب واهتمام كبيرين في الكثير من بلدان العالم.
أين يكمن السحر في أعمال كونديرا؟
في كتابه «فن الرواية»، يكرس ميلان كونديرا فصلا للروائي هرمان بروخ، وكان هذا الكاتب قد أنجز في فترة الثلاثينات ثلاثية بعنوان «المسرنمون»(السائرون نياما)، لكن اضطراره للهروب والعيش في المنفى بعد وصول النازيين إلى الحكم، فوَّت على روايته فرصة الانتشار أوروبيا وعالميا. يتكون الجزء الثالث من الرواية من خمسة خطوط موضوعة في شكل متناوب، وهذه هي: الرواية والقصة القصيرة والقصيدة والمقالة والتقرير. هذا البناء هو خرق لمبدأ أساسي كرسته رواية القرن التاسع عشر، وهو اقتصارها على السرد الروائي.
البوليفوني في الموسيقى هو وجود لحنين أو أكثر تُعزف في آن واحد وتربطها وحدة متكاملة، وكان الكثير من الروائيين قبل بروخ قد استخدموا مبدأ البوليفوني بوجود تناوب للشخصيات في المسار الروائي، ولكن في رواية “المسرنمون” أصبح للبوليفوني معنى آخر. مع ذلك لم ينجح بروخ في تحقيق الوحدة بين هذه الألحان الخمسة حيث تظل جميعها متساوية في التأثير بل تحول بعضها إلى عناصر مصاحبة موسيقية ثانوي. يقول ميلان كونديرا إن “بروخ ملهم لنا ليس فقط بما أنجزه ولكن أيضا بما هدف له ولم يستطع إنجازه. ويبين ما هو غير متحقق في عمل بروخ الحاجة أولا إلى فن جديد من التعرية والتجريد الجذريين حيث يستطيع أن يحتوي تعقيدات الوجود في العالم الحديث من دون فقدان الوضوح المعماري، وثانيا الحاجة إلى فن جديد من الطباق الروائي يخلط الفلسفة والسرد والحلم في موسيقى واحدة، ثم أخيرا الحاجة إلى فن جديد في المقال الروائي النوعي الذي لا يهدف إلى حمل رسالة قطعية لكنه يظل افتراضيا مازحا وتهكميا.
إلى أي حد نجح كونديرا في تحقيق هذه الشروط الثلاثة في رواياته؟
منذ روايته الأولى التي كتبها بعد وصوله إلى فرنسا: “كتاب الضحك والنسيان” سعى إلى تكريس هذه المبادئ الثلاثة، ففي رواياته نجد تراصف الفصول المنتمية إلى أصناف أدبية مختلفة ضمن بناء روائي متماسك. فهناك الخط الروائي الذي يوصل حكاية الوراية الأصلية، ثم المقالات التأملية عن الأبطال، إضافة إلى فصول خيالية بحتة متحررة من مبدأ السببية، حيث يختلط الحلم بالواقع، ويمكن تسمية هذه الفصول سوريالية وفق مقولة اندريه بريتون الشهيرة: “أؤمن بتحقق انصهار هذين العنصرين ببعضهما البعض في المستقبل، الحلم بالواقع، برغم كونهما يبدوان متناقضين، وهذا الانصهار سيخلق شيئا شبيها بالحقيقة المطلقة أو ما فوق الحقيقة”. هذا المزج بين الحلم والواقع تحقق في صنف الرواية بنجاح أكبر من أي صنف أدبي آخر، على رغم اعتبار بريتون الرواية صنفا متدنيا، وهذا المبدأ هو الذي بنيت عليه روايات الواقعية السحرية التي ينتمي إليها كتّاب كبار مثل غارسيا ماركيز وفوينتس وكالفينو وميلان كونديرا.
ويمضي كونديرا في روايته ” الخلود” خطوة أبعد، إذ هو يخلط أجزاء من الماضي تدور حول غوته مع الحاضر، ثم يقحم أحداثا فنتازية من العالم الآخر لبعض الشخصيات الخالدة، إضافة إلى إقحام نفسه مع أبطاله.
في حوار مع ميلان كونديرا نُشر ضمن كتاب “فن الرواية” يقارن الكاتب بين البناء الموسيقي وبناء روايته، فالباب في روايته يقابل الحركة في العمل الموسيقي، والقفصل يقابل الخانة (أو الميزور) وهذه الخانة قد تكون قصيرة أو طويلة أو متغيرة في الطول، “وهذه تقودنا إلى موضوع الإيقاع. كل جزء من رواياتي يمكن أن يحمل مدلولا موسيقيا: موديراتوا، بريستو، أداجيو… الخ”. ويتبدل المناخ العاطفي مع تبدل الإيقاع الموسيقي. يضيف كونديرا قائلا: “لتأليف رواية يتطلب الأمر وضع مجالات عاطفية واحدا جنب الآخر، وهذا بالنسبة إليّ هو الجانب الأكثر حذقا في حرفة الروائي”.
ما هي العناصر التي تحدد الإيقاع لكل جزء في روايات كونديرا؟
إنها مساحة الفصل وعدد الفصول في الباب الواحد، إضافة إلى مقدار الأحداث الموضوعة ضمن وحدة زمنية واحدة. وما يخلقه البناء الموسيقي لروايات كونديرا من تأثير في القارئ يشابه إلى حد ما ما تتركه السيمفونية في مشاعره، من تلون وتعارض في المشاعر عبر كل حركة.