العراق في محفل الدول المستقلة (1)

حين يمسح "الثوريون" ذاكرة شعب من إنجازات أسلافهم

في رسالة بعثها الملك فيصل الثاني قبل فترة قصيرة من مقتله إلى أستاذه مالون الذي درّسه الإنجليزية في مدرسة هارو عن نشاطاته خلال عام 1957: “كنا مشغولين جداً مؤخراً، فخلال أسبوع التنمية الثاني كان هناك أولاً افتتاح جسرين، ومشروع سكني يضم 6 آلاف بيت لبغداد فقط، ووضع الحجر الأساس لمبنى المتحف الوطني الجديد. ثم ذهبنا شمالاً إلى الموصل حيث وضعنا الحجر الأساس لمصنع سكر جديد، وافتتحنا مصنعاً للنسيج. وفي اليوم اللاحق ذهبنا إلى السليمانية حيث افتتحنا مصنعاً جديداً للإسمنت، ووضعنا الحجر الأساس لسد دوكان الذي يعتبر أهم السدود من حيث الفائدة على نهر الزاب الأسفل، وهو أحد روافد نهر دجلة”.

1٬125

اندبندنت عربية                          السبت 3 أكتوبر 2020

تمر اليوم الذكرى الثامنة والثمانون على الاعتراف بالعراق دولة مستقلة ذات سيادة وضمها إلى عصبة الأمم لتحتل المقعد السابع والخمسين بين أعضائها.

غير أن العقل المدبر لثورة الرابع عشر من تموز (يوليو) 1958، العميد عبد الكريم قاسم وأنصاره نجحوا في مسح الذاكرة الجمعية من كل ما حققه الرواد المؤسسون لدولة العراق وإنشاء مؤسساتها وبناها التحتية حجراً فوق حجر، فبعد تصفية العائلة الملكية جسدياً كباراً وصغاراً نساء ورجالاً، ومنح جثة الوصي على العرش، عبد الإله بن علي للغوغاء ثم قتل رئيس حكومة الاتحاد الهاشمي آنذاك، نوري السعيد، وتكرار عملية التنكيل بجثته، تغير اسم العهد الملكي إلى العهد البائد، وشُكلت محكمة عسكرية تبث جلساتها الحية عبر التلفزيون، لغرض محاكمة أبرز المسؤولين خلال الحقبة السابقة التي استغرقت 37 سنة.

وقد أصبحت جلسات هذه المحكمة جزءاً من التسلية لعدد كبير من العراقيين بمن فيهم الصغار، فالمتهم الذي كان يوضع في قفص الاتهام، لا يمتلك القدرة على الدفاع عن نفسه أو ضمان كرامته، وأي علاقة رسمية كانت له مع مسؤولين بريطانيين بحكم عمله ستستخدم دليلاً على “عمالته”، وأي شخص لحقه الضرر خلال ذلك العهد بسبب مناهضته له، أصبح دليلاً على “وطنيته” وشجاعته.

إضافة إلى ذلك، جاءت الأعمال الفنية التي حثّ عليها “الثوار” الجدد أبرز فناني العراق الذين سبق أن درسوا في أكاديميات الفنون الغربية من خلال المنح التي حصلوا عليها في العهد الملكي، لتصب بالهدف نفسه. فنصب الحرية الذي صممه ونفذه جواد سليم، أحد أبرز رواد الفن الحديث في العراق، ينقسم إلى ثلاثة مقاطع: الأول يظهر امرأة ترمز للحرية وهي في السجن (مثلما أظهر الرسام الفرنسي ديلاكروا الحرية في لوحته الشهيرة، بهيئة امرأة ترفع علماً أحمر وتتقدم المتظاهرين)، وفي المقطع الثاني، هناك رجل عسكري يكسر قضبان السجن لتخرج المرأة حاملة مشعلاً، ثم في المقطع الثالث حركة الأجسام التي تشير إلى النهضة العارمة.

غير أن العميد عبد الكريم قاسم وأنصاره، تجاهلوا بعض الحقائق الأولية حول هذا الكيان السياسي الذي ورثوه، فالعراق حتى عام 1919، كان معروفاً بالاسم الإغريقي، ميسوبوتوميا (بلاد وادي الرافدين)، وهو يضم الجزء السهلي من العراق أي الولايتين اللتين كانتا جزءاً من أراضي الإمبراطورية العثمانية: بغداد والبصرة.

وكان الفضل في تسمية هذه الأرض دولياً يعود إلى حاكمها المدني البريطاني آنذاك، آرنولد ويلسون، الذي اقترح اسم العراق المتداول في الماضي كثيراً، خلال مؤتمر السلام بباريس للدول الأربع المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، بدلاً من الاسم الشائع في الغرب: ميسوبوتوميا، وكسب هذا الاقتراح تأييد الجميع.

كذلك نجح صناع السياسة البريطانيون في إقناع فرنسا بالتنازل عن ذلك الجزء الذي خطه قلم المسؤول الفرنسي جورج بيكو خلال المحادثات التي جمعته بالمسؤول البريطاني مارك سايكس، على خريطة أراضي الدولة العثمانية، فمده ليشمل الموصل وأربيل ضمن حصة فرنسا من أسلاب “الرجل المريض” في حالة خسارته الحرب. وهكذا بضم هذين اللواءين إلى “أرض وادي الرافدين” ورسم الحدود جنوباً وشرقاً وغرباً، وفق اتفاقية سايكس- بيكو، برزت خريطة العراق التي رسخ النظام الجمهوري فكرة أنه موجود منذ الأزل.

كذلك فإن الحكام الجدد الذين أغلبهم قضى حياته في الثكنات العسكرية، لم يعرفوا أن ما توارثوه من بلد لم تتقلص أرضه شبراً واحداً عما كان قائماً في الخريطة التي رسمها المندوب السامي البريطاني للعراقي في بداية العشرينيات مع سكرتيرته الشرقية المس بيل، بفضل المؤسسين الآباء لدولة العراق بمن فيهم ذلك الذي قُتل شر قتلة بعد مضي يوم واحد على المذبحة الملكية.

ولم يكن الحفاظ على الحدود الطويلة مع بلدين ظلا طموحين بأرضه، أمراً سهلاً، فقد تطلب أولاً استخدام القوة العسكرية البريطانية لردع تركيا الطامعة بالموصل والمنطقة الكردية أكثر من مرة، ثم أعقبتها اتفاقية في نهاية عقد العشرينيات من القرن الماضي معها يقدم العراق فيها 10 في المئة من عوائد نفط الموصل لتركيا، أما إيران التي لم تكتفِ بالاستيلاء على منطقة المحمرة، فكانت تريد الاستيلاء على مجرى شط العرب بالكامل حتى تمكن نوري السعيد من التوصل إلى اتفاق معها وتوقيع معاهدة الحدود الإيرانية – العراقية يوم 7 يوليو (تموز) 1937، ووفقها تسيطر إيران على الضفة الإيرانية من شط العرب والعراق يسيطر على كامل مجرى النهر الملاحي.

وليس مستبعداً أن السياسي المخضرم نوري السعيد كان يعرف حقيقة أن قيام الحضارات الكثيرة في وادي الرافدين كان بفضل تدفق المياه المتواصل في نهري دجلة والفرات، وأن الجزء الأكبر منها ينبع من أراضي تركيا، في حين أن هناك خمسة روافد رئيسية تمد دجلة بأكثر من نصف مياهه خلال مواسم الفيضان تأتي من إيران.

ولذلك فإن العراق بحاجة إلى علاقات وطيدة مع البلدين الجارين القويين، مقارنة بعدد سكان العراق وإمكاناته المتواضعة، وكان مجلس الإعمار يدرك مشكلة اعتماد العراق على المياه المتدفقة من تركيا وإيران فخطط لبناء عدد من السدود والبحيرات للتحكم بالفيضانات من ناحية وللتمكن من تغطية حاجة البلد للمياه في أوقات الجفاف، ولذلك بنيت خلال السنوات السبع التي سبقت ثورة 14 تموز 1958 ثلاثة سدود، افتتح واحد منها عام 1957 وهو سد الثرثار في سامراء، إضافة إلى افتتاح منخفض الثرثار لخزن المياه من نهر دجلة خلال فترة الفيضان، فيها، وبحيرة الحبانية في محافظة الرمادي، وبذلك أمنت بغداد وقوع فيضانات أخرى فيها، أما سدا دوكان ودربندخان في السليمانية فقد افتتحا في عامي 1959 و1961 على التوالي.

الإرث الثالث الذي تسلمه الانقلابيون من العهد الملكي، كان التقارب الكبير والتفاعل الإيجابي بين مكونات العراق البشرية الثلاثة: العرب السنة والعرب الشيعة والكرد. فعند وقوع الثورة كان رئيس وزراء الحكومة العراقية، أحمد مختار بابان كردياً، ووزير الداخلية، سعيد القزاز كردياً، في حين كان وزير الإعمار، ضياء جعفر شيعياً، ووزير المالية في حكومة الاتحاد الهاشمي، عبد الكريم الأزري شيعياً كذلك.

وكأن العميد عبد الكريم قاسم ومساعديه بتشويههم صورة الآباء المؤسسين لدولة العراق الحديثة، دفعوا أبناءهم إلى حالة من الشعور بالعار، فلا شيء يجعلهم يشعرون بالفخر مما أنجزه آباؤهم الخونة والعملاء لبريطانيا، فالتاريخ الحقيقي للعراق يبدأ من ثورة 14 تموز 1958، والزعيم الأوحد الذي يجب تقديسه هو قائدها.

في رسالة بعثها الملك فيصل الثاني قبل فترة قصيرة من مقتله إلى أستاذه مالون الذي درّسه الإنجليزية في مدرسة هارو عن نشاطاته خلال عام 1957: “كنا مشغولين جداً مؤخراً، فخلال أسبوع التنمية الثاني كان هناك أولاً افتتاح جسرين، ومشروع سكني يضم 6 آلاف بيت لبغداد فقط، ووضع الحجر الأساس لمبنى المتحف الوطني الجديد. ثم ذهبنا شمالاً إلى الموصل حيث وضعنا الحجر الأساس لمصنع سكر جديد، وافتتحنا مصنعاً للنسيج. وفي اليوم اللاحق ذهبنا إلى السليمانية حيث افتتحنا مصنعاً جديداً للإسمنت، ووضعنا الحجر الأساس لسد دوكان الذي يعتبر أهم السدود من حيث الفائدة على نهر الزاب الأسفل، وهو أحد روافد نهر دجلة”.

ينهي الملك رسالته لأستاذه السابق: “أرفق طيه كراسَين نشرا مؤخراً من قبل الحكومة، أحدهما يعطي كل المعلومات عن المشاريع وعمّا سينجز منها مستقبلاً إضافة إلى موجز عن البلاد، أما الثاني فأظن أن السيدة مالان ستهتم به بشكل خاص، فهو عن تاريخ الإبداع والثقافة للعراق، أعدته دائرة الآثار…”.

في رحلتنا الاستقصائية عن الطريق الذي سار به الرعيل الأول من السياسيين العراقيين للوصول إلى عضوية عصبة الأمم يوم 3 أكتوبر (تشرين الأول) 1932، سنكتشف كيف أنهم تمكنوا خطوة خطوة من الوصول إلى تحقيق هذا الهدف، وكم أن دور الأشخاص والمصادفات في صناعة وطن كان من الممكن أن يتشظى بعد الحرب العالمية الأولى ويتفتت بين دول الجوار، وكم لعب نوري السعيد دوراً مع الملك فيصل وسياسيين آخرين في الحفاظ على وحدته وسيادته.

 

اقرأ ايضاً