العراق في محفل الدول المستقلة (2)
ولادة بلد بعملية قيصرية
في الصورة: مسز بيل (غريتوورد بيل) على رصيف محطة القطار في بغداد عام 1913 (غيتي)
اندبندنت عربية الأحد 4 أكتوبر 2020
اندلعت ثورة العشرين حين كان برسي كوكس، الوزير المفوض لبريطانيا في طهران، في طريقه إلى لندن يوم 6 يونيو (حزيران) 1920، وهناك وجد صخباً واضطراباً شديدين لدى الرأي العام من الوضع الذي وصلت إليه الأمور في العراق، بينما راحت صحف عديدة تطالب الحكومة بالجلاء عنه. وأصبح السؤال الذي يدور في أذهان المسؤولين البريطانيين: ما الذي يجب فعله بعد انتهاء الانتفاضة: هل يجب إيقاف الخسائر وترك الانتداب والخروج من العراق أم يجب تنصيب حكومة وطنية؟
كان رأي كوكس مهماً جداً للحكومة، إذ سبق له أن رافق الحملة البريطانية العسكرية منذ احتلال البصرة… وظل لعامين يشغل منصب المندوب المدني لبريطانيا في العراق قبل انتقاله إلى وظيفته اللاحقة في إيران.
أكد كوكس أن الحل الوحيد هو إنشاء حكومة وطنية لأن الجلاء سيؤدي إلى عودة الفوضى وإلى الحكم التركي. “بعد مناقشات طويلة سئلت هل أنا مستعد لتحمل عبء إنشاء الحكومة الوطنية في العراق فيما إذا استقر الرأي على ذلك، أجبتهم بالإيجاب”. (The Letters of Gertrude Bell, P427).
في 20 أغسطس (آب) غادر كوكس بريطانيا بحراً، بينما كان آرنولد ويلسون يتهيأ لمغادرة العراق.
وقد أقام السيد طالب النقيب أبرز شخصية عراقية معارضة للحكم العثماني، حفلة توديعية له، ألقى خلالها الشاعر جميل صدقي الزهاوي كلمة أطرى فيها على خدمات ويلسون للعراق وذم الثورة والثوار.
كان ويلسون واحداً من أولئك المسؤولين الإنجليز الذين يؤمنون بالحكم البريطاني المباشر، وعند اندلاع ثورة العشرين في يونيو عرض ويلسون على الحكومة البريطانية، إما الانسحاب الكامل أو الحكم البريطاني الصارم.
يكتب عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” (الجزء السادس) أنه كان هناك عدد كبير من الموظفين الإنجليز العاملين في العراق عارضوا خطة كوكس، لتشبعهم “بما يسمى رسالة الرجل الأبيض في تمدين الشعوب، فقد كان رأيهم أن العراقيين لو أتيح لهم الاستقلال التام في حكم أنفسهم لأكل بعضهم بعضاً، ولهذا أصبح من واجب بريطانيا أن تستمر في حكم العراق مدة كافية إلى أن يتعود العراقيون على الحياة المدنية الحديثة، ويتركوا عاداتهم القبلية القديمة في الغزو والثأر وسفك الدماء” (صفحة 18).
كانت أول مهمة أمام كوكس هو اختيار الشخص الذي سيرأس الوزارة العراقية، وفي البدء فكر بترشيح السيد طالب النقيب للمنصب لكن نقاشه مع مستشاريه جعله يغير رأيه، فيسعى إلى إقناع نقيب وجهاء بغداد، عبد الرحمن الكيلاني (من ذرية الشيخ الصوفي الكبير عبد القادر الكيلاني) لشغل المنصب.
ويبدو أنه نجح في مهمته بعد مناشدته النقيب البالغ من السن الثامنة والسبعين القيام بواجبه نحو البلاد، وإشارته إلى المطامح الشخصية لدى الآخرين ومدى الضرر الذي سوف يقع من جرائه إذا لم يتول هو تشكيل الوزارة.
أعلن عن تشكيل الوزارة في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 1920، وكان أعضاؤها صنفين: صنف يتألف من وزراء عاملين وعددهم تسعة، أما الصنف الآخر، فعددهم 12 وهم حسب التعبير الفرنسي وزراء بلا حقائب.
“وقد عين لكل وزير عامل مستشار بريطاني يسيره ويوجهه، وتقرر أن يعرض الوزير جميع الأعمال الرسمية على مجلس الوزراء عن طريق المستشار.. وللمستشار الحق في حضور جلسات مجلس الوزراء حين يجري البحث حول أعمال الدائرة المختصة به، وأن يشارك في المناقشة من دون أن يكون له حق التصويت” (المصدر السابق صفحة 26).
وقد أثار هذا الوضع ردود فعل ساخرة بين أوساط الأفندية (المتعلمين أو أنصاف المتعلمين المهتمين بالسياسة)، جسدها هذا البيت الشعري لباقر الشبيبي:
المستشار هو الذي شرب الطلا
فعلام يا هذا الوزير تعربد
الوطنية والخيانة
يجب التأكيد أن ثورة العشرين قربت لأول مرة جزءاً من العشائر الشيعية في الفرات الأوسط من أفندية بغداد السنة، رغم اختلاف الدوافع، فالأولى، كانت بتأثير الفتاوى التي أصدرها المجتهدون (رجال الدين الشيعة الذين بلغوا درجة الإفتاء) برفض الحكم البريطاني المباشر والمناداة بتتويج أحد أبناء الشريف حسين بن علي ملكاً على العراق، أما الأفندية، فكان الدافع القومي، والإيمان بالاستقلال، أو لتضررهم من انتهاء الحكم التركي للعراق، وراء مساهمتهم في المظاهرات الداعمة للعشائر التي رفعت السلاح ضد القوات البريطانية.
غير أنه كان هناك، في الوقت نفسه ما يقرب من 40 شيخ عشيرة رفضوا الانخراط في الثورة، وظلوا مؤيدين للحكم البريطاني المباشر الذي حقق لهم مكاسب مادية واستقراراً وأمناً.
حين بعثت حكومة لندن أمرها بأن يجري مندوبها المدني في العراق، أرنولد ويلسون، استفتاء شعبياً لمعرفة نوع الحكم الذي يريده سكان وادي الرافدين، والشخص الذي يريدونه أميراً، سادت الحيرة بين كثير منهم، فهم ظلوا تحت حكم الأغراب قروناً عديدة قانعين به. يصف محمد مهدي البصير، الذي كان أحد محرضي ثورة العشرين البارزين، في كتابه “تاريخ القضية العراقية” وقت الاستفتاء بأنه “كان وقت عجائب وغرائب وإشاعات وأراجيف، وقد أشيع في البداية أن غرض الحكومة من الاستفتاء هو أنها تريد أن تسبر غور الناس لكي تعلم من هم أصدقاؤها، ومن هم أعداؤها فتثيب هؤلاء وتعاقب أولئك بما تقتضيه مصلحتها”.
لذلك جاءت نتيجة الاستفتاء مطابقة لما كان يرغب ويلسون فيه: أغلبية العراقيين يريدون الحكم البريطاني المباشر.
حسبما يرى الدكتور علي الوردي، كانت الفئة القليلة التي طالبت بالحكم العربي في أثناء الاستفتاء هي البذرة التي انبثقت منها ثورة العشرين، فهي أخذت تنمو بمرور الأيام، وصار ينضم إليها كل متذمر من الإنجليز.
وقد أطلق الناس على هؤلاء اسم “الوطنيين”، أما المخالفون لهم، فكانوا في نظرهم خونة وموالين للكفار. ولعل وراء هذا التعميم تشكلت تلك القناعة التي انغرزت في اللاشعور الجمعي بأن الوطني هو كل من يناهض البريطانيين في أي شيء يطرحونه والخائن (أو العميل)، أما المخالفون لهم، أو حتى من يسعون إلى حلول وسط تنفع الطرفين، فكانوا في نظرهم خونة وموالين للكفار.
في أوج ثورة العشرين، خلال يوليو (تموز) كان هناك حدث كبير يقع في دمشق. فبعد مضي ثلاثة أشهر على تأسيس المملكة السورية وتتويج فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا الكبرى، بدأ الفرنسيون باحتلال أراضيها تنفيذاً لمعاهدة سايكس- بيكو الموقعة عام 1916، ووفقها قسمت بلاد الشام ووادي الرافدين على الورق بين بريطانيا وفرنسا، وفي 24 يوليو 1920 وقعت معركة بين المتطوعين السوريين البالغ عددهم نحو 3 آلاف شخص، بقيادة وزير الحربية يوسف العظمة، وقوات الجيش الفرنسي البالغ عددها نحو 9 آلاف بقيادة الجنرال ماريانو غوابيه، في منطقة ميسلون غربي مدينة دمشق. ومع الأسلحة المتطورة التي يمتلكها الجيش الفرنسي من دبابات وطائرات، بينما كان السوريون مزودين بمعدات بسيطة، حسمت نتيجة المعركة خلال ساعات قليلة، وفيها قتل 400 متطوع سوري، وجرح نحو 1000 منهم، إضافة إلى مقتل القائد يوسف العظمة.
ترتب عن هذه المعركة سقوط دمشق، ومغادرة الأمير فيصل دمشق، حيث أقام في مدينة كومو الإيطالية.
أما بالنسبة للضباط العراقيين الذين شاركوا في الثورة العربية الكبرى بقيادة فيصل، والموجودين آنذاك في سوريا، فكان عددهم 240، وقد بدأوا يعودون إلى العراق، بمن فيهم نوري السعيد وجعفر العسكري.
كذلك أخذ العراقيون المقيمون في تركيا بالعودة إلى العراق، وهم أو الموظفون السابقون أو الضباط أو التجار أو الطلاب، وكان دفعة من الأطباء العراقيين الذين درسوا الطب في إسطنبول قد عادوا قبلهم.
في 6 يناير (كانون الثاني) 1921 تأسست قيادة الجيش العراقي في مقر وزارة الدفاع من عشرة ضباط، وأخذ الجيش ينمو منذ ذلك الحين بمناصبه وتشكيلاته.
يشير الدكتور علي الوردي في كتابه “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، ج (6)، إلى أن “العائدين من سوريا حصلوا على حصة الأسد من الوظائف العليا مما أثار عليهم حنق أبناء الأسر المعروفة الذين كانوا يحتكرون كثيراً من تلك الوظائف في العهد التركي. فلقد كان العائدون في الغالب من أسر متوسطة أو فقيرة، وقد حدث صراع خفي بينهم وبين أبناء الأسر المعروفة واستمر هذا الصراع مدة طويلة”. ولعل هذا الصراع امتد طوال فترة العهد الملكي تحت إطار مناهضة البريطانيين.
غير أن الشرخ الأكبر بين المكونات الاجتماعية جاء نتيجة موقف المجتهد الشيخ مهدي الخالصي من الوجود البريطاني، فبصفته أكبر سناً من المجتهدين الآخرين أبو الحسين الأصفهاني والمرزا حسين ناييني، ولأنه من أصل عربي بعكسهما (رغم أنه يحمل الجنسية الإيرانية تجنباً لأداء الخدمة الإلزامية في الجيش العثماني) كان لفتاواه تأثير أكبر على أتباعه.
فعندما فتحت أبواب الوظائف للعراقيين في الشهر الأول من عام 1921 حرم الخالصي في فتوى له الدخول فيها حيث اعتبرها بمثابة تعاون مع الكفار.
وقد لقيت فتواه رواجاً واسعاً في أوساط الشيعة فصار كثيرون منهم يرفضون الوظائف التي عرضت عليهم، مفضلين الكسب “الحلال” من السوق على الكسب “الحرام” من الوظيفة.
وحاول كوكس اللقاء بالشيخ مهدي الخالصي بشتى الطرق لإقناعه بتغيير فتواه عبر رئيس بلدية الكاظمية جعفر عطيفة من دون جدوى.
هل أدرك المندوب السامي آنذاك حاجة العراق إلى ملك لتنهض دولته على قدميها؟
فيصل وعرش العراق
يقول تولستوي في روايته “الحرب والسلم”، ما معناه، إن الناس وهم يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة يقومون دون أن يدروا بخدمة أهداف أكبر غير مرئية لهم.
كان فيصل معتكفاً في شمال إيطاليا حين وصلته رسالة يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1920، من اللورد كرزن وزير الخارجية البريطانية آنذاك، يدعوه فيها لزيارة لندن.
حين زاره فيصل في مكتبه، سأله كرزن “أين عباءتك الجميلة؟” فكان جواب فيصل غريباً “لقد شلحوني بلادي يا حضرة اللورد، فشلحت عباءتي”.
قال كرزن بنبرة مطمئنة “بل ستلبس أحسن منها”، ففهم فيصل من هذه العبارة أنهم سيعوضونه عن سوريا بعرش العراق.
وفي السياق نفسه، وصلت الحكومة البريطانية يوم 26 ديسمبر (كانون الأول) رسالة من كوكس يؤكد فيها أن فيصل هو الشخص الأنسب لحكم العراق، وأن اعتراض فرنسا عليه يمكن أن يعالج على وجه من الوجوه.
وفي 7 يناير 1921 أرسل كرزن الميجور كورنواليس إلى فيصل لمفاتحته في الأمر بصورة غير رسمية.
كان هناك شرطان عليه القبول بهما: أولاً، أن يقبل بالانتداب البريطاني، وثانياً، أن يتجنب أي عمل عدائي ضد فرنسا في سوريا.
غير أن المقابلة لم تكن ناجحة. شرح فيصل أن والده الشريف حسين لن يقبل بترشيحه لعرش العراق، لأنه يريده لابنه الآخر الأمير عبد الله، ولو أن فيصل قبل بعرش العراق لظن والده والناس جميعاً أنه أناني يسعى لمصلحته الخاصة بالتعاون مع بريطانيا، وأنه يطلب عرشاً على حساب أخيه.
كتب كورنواليس تقريره عن المقابلة، وفيها أشار إلى أن هناك طريقين مفتوحين لحل مشكلة العراق هما: أن يذهب عبد الله إلى العراق، أو يسعى كوكس إلى جعل العراقيين ينتخبون فيصل بشكل هادئ غير مكشوف. وفي رأيه أن “الطريق الثاني أنفع لأن فيصل أفضل من أخيه عبد الله كثيراً، وأنه سوف يخدم بريطانيا بإخلاص وكفاءة”.
كلف لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني اللورد ونترتون لإقناع فيصل بقبول ترشيحه لعرش العراق، نظراً للصداقة التي تجمعهما معاً، فدعاه إلى بيته ودعا شخصيات أخرى من بينهم لورانس. واستمر النقاش بينهم إلى ساعة متأخرة حتى وافق فيصل بالعرض. وكان شرطه إقناع أخيه عبد الله بالتنازل عن حقه في ذلك العرش.
في المؤتمر الذي عقد بالقاهرة ابتداء من يوم 11 مارس (آذار) بتنظيم من وزارة المستعمرات، ورئاسة وزيرها تشرتشل، حضر السير برسي كوكس والجنرال هالدين قائد القوات البريطانية في العراق والمس بيل وجعفر العسكري وساسون حسقيل، وثلاثة من المستشارين البريطانيين. واتفق في المؤتمر على نفس الرأي الذي كان قد تقرر في لندن من قبل، وهو أن فيصل هو الشخص الملائم لعرش العراق.
أما الأمير عبد الله، فقد استطاع تشرتشل إقناعه بالتنازل بعد أن وعده بحكم شرق الأردن، وربما عرش سوريا قريباً.
كانت المحطة الأخيرة لفيصل زيارة أبيه في مكة، حيث وصل إليها يوم 25 أبريل (نيسان). وهناك كان يقيم كثير من المساهمين في ثورة العشرين.
في حديثه مع علي البازركان أحد الوجوه العراقية البارزة في مناهضة سلطات الاحتلال البريطانية، قال الشريف حسين إنه “تسلم كثيراً من الرسائل والبرقيات من وجهاء العراق يطالبونه فيها بإرسال ابنه فيصل ليكون ملكاً دستورياً عليهم. ثم توقف قليلاً، كأن هاجساً حضره للحظة: “لكني أخشى يا شيخ أن يعامل أهل العراق فيصل كما عاملوا جده الحسين من قبل”. أجابه البازركان “سيدي لقد تغير الزمن وإن أهل العراق ليسوا كأسلافهم في زمن الحسين بن علي بن أبي طالب، عليهما السلام، فهم الآن يقومون بإكرام الضيف وبخدمة ملكهم”.
صاح الشريف حسين آنذاك بلهجته الحجازية المحببة، وهو يضرب كفا بكف “يا عيال نادوا فيصل”.