العراق في محفل الدول المستقلة (3)

كيف استقبل العراقيون الملك فيصل ولماذا غضب البريطانيون من اتصالاته بالحركة الوطنية؟

في الصورة: فيصل الأول (يده في جيبه) ملك العراق من العام 1921 وحتى العام 1933 (غيتي)

اندبندنت عربية الاثنين 5 أكتوبر 2020

1٬385

وصل فيصل على متن طراد بريطاني إلى البصرة في 23 يونيو (حزيران) 1921 برفقة حاشيته التي شملت بعض وجوه قادة ثورة العشرين، بعد صدور بيان العفو العام عن جميع الذين شاركوا فيها سوى أفراد معينين. وكان القصد من ذلك أن يكون رجال الثورة الذين فروا من العراق في صحبة فيصل عند قدومه إليه.

في البصرة قضى فيصل ومرافقوه يوماً واحداً، حيث نزل هو في ضيافة متصرفها، بينما توزعت حاشيته في دور بعض وجهاء المدينة. وفي صباح اليوم التالي أقيمت حفلة في دار المتصرف حضرها أعيان البصرة والوفود، وألقيت الخطب والقصائد الترحيبية، ثم ارتجل فيصل كلمة طويلة جاء فيها: “… وإني لأصرح لكم بالنبي وآله، ليس لي أي طمع شخصي، وإنما أعمل طمعاً في خدمة هذه البلاد ابتغاء لوجه الله، تعالى، وإني أقسم بشرفي وتربة أجدادي وبقبر جدنا الرسول (ص) إنني أول من يبايع الرجل الذي تتفق عليه الأمة جمعاء، فإذا أردتم أن تولوا شخصاً أنصحكم بأن تخلصوا في القول وإذا قال أحدكم كلمة لا يحيد عما قال…” (فريق المزهر فرعون: الحقائق الناصعة، صفحة 528).

خلال فترة المبايعة التي استمرت أقل من شهرين، كسب فيصل خلال جولاته في المدن والبلدات العراقية حب وتقدير الناس، لما كان يتمتع به من بساطة ووقار وقدرة خطابية متميزة، مكنته من اختيار الأسلوب الذي يناسب الحضور، إضافة إلى وسامته وجديته التي كان يعكسها وجهه. كما كان يبدو أكبر من عمره الذي لم يتجاوز السادسة والثلاثين. كأن التجارب القاسية غضنت الخطوط في وجهه، وجعلت حضوره مؤثراً على جمهوره.

كان هناك شبه إجماع عليه بين مختلف الكيانات المجتمعية، بمن فيهم المجتهد مهدي الخالصي المعروف بتفضيله الأتراك على البريطانيين، إذ هو الآخر بعث برقية إلى الشريف حسين يبايع فيها ابنه فيصل.

بدأت البيعة في أواخر يوليو (تموز)، عبر تنظيم مضابط يوقع عليها الأهالي في كل منطقة، وانتهت في 6 أغسطس (آب)، وجرت في الغالب حسبما كان متوقعاً، حيث أقبل الرؤساء والوجهاء في معظم مناطق العراق على توقيعها بلا معارضة، وكانت النتيجة حصول فيصل على تأييد الأهالي بنسبة 96 في المئة، وإثرها جرى تتويجه ملكاً يوم 23 أغسطس (آب) 1921.

الصراع بين فيصل وكوكس

لا بد من الإشارة إلى أن المضابط التي جاءت من 8 ألوية، تختلف في شروطها، وتكشف عن انشقاق أفقي في الموقف العام من الوجود البريطاني، سيتفجر قريباً بأشكال عديدة.

فمن لواء بغداد، جاءت 157 مضبطة وهي كلها تبايع الأمير فيصل، ولكن 68 منها تطالب أن يكون منقطعاً عن سلطة الغير، وأن ينعقد المؤتمر الوطني الذي يمثل الشعب خلال ثلاثة أشهر.

في المقابل صدرت عن لواء الدليم (الأنبار حاليا) 26 مضبطة تبايع كلها فيصل، ولكن 16 منها تشترط عليه أن يقبل بالإشراف البريطاني. أما لواء الحلة فصدرت عنه 41 مضبطة وهي كلها تبايع فيصل، لكن 13 منها تعلن صراحة أنه مقبول على شرط استمرار الانتداب البريطاني.

ولعل هذين الخيارين وضعا الموقعين مرة أخرى ضمن خانتي “الوطنية” و”الخيانة” (العمالة للإنجليز).

كانت المهمة الأولى أمام الملك فيصل، تشكيل الوزارة الجديدة، حيث اختار عبد الرحمن الكيلاني للمرة الثانية رئيساً لها. لكن الخلاف الأول تفجر بين الملك وكوكس حول ملء منصب وزير الداخلية. ففيصل كان يريد تعيين ناجي السويدي (أحد الوجوه القومية البارزة الذي شارك في الثورة العربية الكبرى)، بينما كوكس كان يريد توفيق الخالدي (أحد الموظفين البارزين خلال العهد العثماني). استمر الجدال والخلاف بينهما ثلاثة أسابيع، وهدد الملك بأنه يريد الذهاب إلى لندن ليضع القضية بين أيدي المسؤولين هناك، لكن في النهاية جرى الاتفاق على إسناد وزارة الداخلية إلى ضابط غير معروف كان رئيساً للتجنيد اسمه الحاج رمزي.

كذلك جاء اعتذار عبد الكريم الجزائري الذي اختير لمنصب وزارة المعارف عن تقلد منصبه عرقلة أخرى لإشراك الشيعة في الحكومة، فاختير هبة الدين الشهرستاني من كربلاء، وجاء إلى بغداد لتولي الوزارة.

كان الملك يرى ضرورة إدخال الشبان الشيعة في الوظائف الحكومية، غير أنه لم يجد عدداً كافياً من ذوي التعليم الحديث الذين يصلحون لإشغال تلك الوظائف، فاقترح ساطع الحصري (مدير التربية العام) على الملك لحل المشكلة أن يفتح ثانوية مسائية يستطيع الكسبة والموظفون أن يدرسوا فيها لكي يتمكنوا بعدها من دخول المعاهد العليا، فنفذ هذا الاقتراح فوراً.

لوحظ بعد فترة قصيرة على تتويج فيصل، بروز صراع خفي بين الملك وكوكس لكسب منطقة الفرات الأوسط (موطن ثورة العشرين)، كل إلى جانبه، وتتميز بأن عشائرها منقسمة إلى فريقين متعاديين: موالية للبريطانيين ومعارضة لهم. وكان الملك يتودد للعشائر المعارضة، ويقرب رؤساءها إليه، ويجعلهم من مستشاريه وأعوانه، وكان يتسبب في إغاظة كوكس وجعله دائم التذمر منه.

غير أن نقطة الخلاف الرئيسة بينهما، كانت المعاهدة التي اقترحها  كوكس على حكومة لندن بديلاً عن عبارة الانتداب (التي ينفر العراقيون منها حسب تعبيره).

فالحكومة البريطانية بموافقتها على فكرة المندوب السامي أرادت أن تتضمن المعاهدة كل الشروط المشمولة في الانتداب، بينما كان فيصل يريد إلغاء الانتداب إلغاء تاماً، والتعويض عنه بمعاهدة تحالف بسيطة.

في حديثه مع الكاتب اللبناني أمين الريحاني، خلال زيارته لبغداد، أوضح الملك فيصل “وعدني المستر تشرتشل وعدين: أن يلغي الانتداب، وأن يعترف باستقلال العراق. وقد جاءنا الآن بمعاهدة طافحة بذكر الانتداب وعصبة الأمم، فإذا كان الانتداب فما الفائدة من المعاهدة، وما الغرض منها، وإذا كانت المعاهدة فما الحاجة إلى الانتداب؟ غني عن البيان أن أحد الصكين غير لازم وغير مفيد… إننا مصرون على ما وعدنا به المستر تشرتشل وهو ما يطلبه العراقيون المعتدلون منهم والمتطرفون، وإني لا أزال أعتقد وآمل أن يبر بوعده، وإلا فالموقف حرج يا أخي، حرج جداً”. (صفحة 163 علي الوردي).

بدأت المفاوضات حول المعاهدة في 29 سبتمبر (أيلول) 1921، أي بعد مرور 38 يوماً على تتويج الملك، حيث راحت مسودتها منذ ذلك الحين تتنقل مرة بعد أخرى بين دار الاعتماد البريطاني (مكتب المندوب السامي) ومجلس الوزراء  والبلاط. وكان الملك يحاول كل مرة أن يجري تعديلاً على المسودة فيرجعها إلى مجلس الوزراء لترجع من جديد إلى دار الاعتماد.

وقد ظلت المفاوضات تجري في الخفاء من دون أن يعلم الرأي العام عنها شيئاً، حتى أواخر مايو (أيار) 1922. ففي 23 من الشهر نفسه، أعلن تشرتشل في مجلس العموم البريطاني عن رفض الشعب العراقي الانتداب، وكشف عن المفاوضات الجارية بشأن المعاهدة البديلة له.

كان تصريح وزير المستعمرات ذاك أشبه بصب الزيت على خشب جاف جاهز للاشتعال. ففي يوم 24 يونيو(حزيران) شاعت بين الأهالي أن المعاهدة على وشك التصديق، من دون أن يكون فيها ذكر لإلغاء الانتداب. ولهذا أغلقت الأسواق وتشكلت وفود تمثل المهن المختلفة كالبزازين والحدادين والنحاسين والبقالين وغيرهم، وساروا بمظاهرة في شارع الرشيد متجهين  نحو دار رئيس الوزراء الواقعة على النهر قرب الباب الشرقي. وأمامهم وقف النقيب حاملاً عصاه، لينتهرهم بغضب “من أنتم لتحتجوا باسم البلاد؟ أنا صاحب البلاد، وأنا أعلم منكم بحاجات البلاد وأغراضها. عودوا إلى بيوتكم وأشغالكم” فخرجوا من عنده ساكتين. (أمين الريحاني “فيصل الأول” صفحة 138).

في اليوم اللاحق، صادق مجلس الوزراء على المعاهدة، بعد إدراج النقيب (عبد الرحمن الكيلاني) عبارة عليها تقضي بوجوب تصديقها من قبل المجلس التأسيسي المنتخب.

وقد حاول كوكس صرف النقيب عن إضافة تلك العبارة  لكنه أصر عليها. وقال مخاطباً كوكس “هذا رأيي ورأي بلدي في المسألة، فليس بيني وبينكم إلا الصداقة في سبيل الواجب، ولقد قبلت أن أتحمل المسؤولية في سني هذه، فإذا أصررتم على وجهة نظركم فسأترك المقام وأدخل إلى هنا- وأشار إلى غرفة خاصة يؤدي بابها إلى المكتبة- ولا يراني أحد بعد”. (خيري أمين العمري: “شخصيات عراقية”، ج1 صفحة 20).

بين المطرقة والسندان

كان الملك فيصل في أصعب وضع يمكن لزعيم أن يجد نفسه فيه، مع ذلك بقي متماسكاً، وهادئاً، وحريصاً على التقريب بين الأطراف المتصارعة، فهو إذ يدعم الأطراف الرافضة للانتداب يعي في الوقت نفسه أن خروج بريطانيا من العراق في ذلك الوقت سيؤول إلى انهيار البلد تماماً، فتركيا وإيران وفرنسا وغيرها، ستنهش أجزاء كبيرة من البلد، فيما ستنفجر الفتن بين المؤيدين للانتداب البريطاني والمعارضين له، بين الشيعة والسنة والكرد، بين الأفندية والملائية، وتسود الفوضى الشاملة.

ولعل كوكس هو الآخر، يفكر لو أنه نصح حكومة لندن عند استدعائه خلال ثورة العشرين بالجلاء عن العراق، وتركه لقمة سائغة لتركيا وأنصارها الكثر بمن فيهم المجتهدون الشيعة، لكنه فكر بمصالح بلده التي في مقدمتها النفط الذي تزخر به أرض العراق، بعد كل الخسائر المادية والبشرية الكبيرة. كأنه في نصيحته الأخرى ينزع المعنى عن كل تلك الجهود الضخمة التي قام بها الضباط والمسؤولون الإنجليز في التمكن من انتزاع وادي الرافدين والموصل وكركوك من العثمانيين، وتثبيت سلطة بريطانيا فيه.

مقابل التجمعات الضخمة التي يحرض عليها المجتهدون الشيعة، بقيادة الشيخ مهدي الخالصي، ومظاهرات “الوطنيين” الأفندية في بغداد، ضد المعاهدة، كانت هناك العشائر المؤيدة للانتداب، في الفرات الأوسط وغرب العراق.

في يوم 26 يونيو اجتمع عدد كبير من رؤساء العشائر وزعماء المعارضة عند الشيخ مهدي الخالصي في الكاظمية. وخلاله أعلن كبير المجتهدين الشيعة أن “بيعتهم للملك فيصل أصبحت لاغية لأنه أخل بالشروط التي تعهد بها أثناء البيعة والتي تنص على المحافظة على استقلال البلاد”. (خيري أمين العمري (شخصيات عراقية) ج1 ص20).

من جانب آخر، أدت المواجهات بين الطرفين المختلفين إلى مقتل أحد الشيوخ الموالين لبريطانيا لأسباب سياسية.

تشير المس بيل في إحدى رسائلها إلى حضور عدد كبير من شيوخ العشائر المناصرين لبريطانيا، إلى مكتبها فملأوه، “وكان علي السليمان (رئيس عشيرة الدليم) أحدهم، وصاروا يحلفون على أن الملك يعمل على إسقاطهم”. (الوردي صفحة 178).

في هذا المناخ المكهرب، كانت فتاوى المجتهدين تلصق على أبواب المساجد، والتجمعات والمظاهرات تزداد يوماً بعد يوم.

وفي شهر أغسطس (أب) عندما بلغ الصراع أشده أخذ رؤساء عشائر الفرات الأوسط الذين شاركوا في ثورة العشرين يتحفزون للقيام بثورة أخرى. يقول كوكس “إن منطقة الفرات على وشك القيام بثورة كانت معالمها تدل على أنها لن تكون أقل خطورة من تلك التي كانت هذه العناصر المتطرفة نفسها قد أثارتها سنة 1920”. (الوردي صفحة 179).

جاء مرض الملك فيصل، واعتزاله العمل فترة، فرصة لكوكس لفرض النظام بإجراءات مشددة، ابتدأها بإغلاق الحزبين المعارضين “النهضة” و”الوطني”، وتعطيل جريدتي “المفيد” و”الرافدان”، واعتقال 6 شخصيات محرضين ضد المعاهدة، من بينها جعفر أبو التمن الذي كان وزيراً قبل فترة قصيرة، وحمدي الباججي، ثم إبعادهم إلى جزيرة هنجام الواقعة في الخليج.

اعتبرت المس بيل في رسالة لها ما قام به كوكس من ضرب المعارضة عملاً جريئاً أنقذ الموقف، “وإن المتطرفين انهارت حركتهم، أما المعتدلون فقد رفعوا رؤوسهم عالياً”. (الوردي صفحة 195).

فيصل يغير موقفه

بعد شفائه من العملية الجراحية التي أجريت له لاستئصال الزائدة الدودية، زاره كوكس ليعلمه بأن “الحكومة البريطانية لن تتحمل بعد الآن اتصاله بأي حركة وطنية ولن تتساهل في أي تأخير قد يحدث في شأن تصديق المعاهدة، وطلب منه أيضاً أن يكون ملكاً دستورياً، فيكف عن التدخل غير الضروري في شؤون الإدارة والموظفين. وقيل، إن كوكس خير الملك بين أمرين: إما أن يعتذر عما فعل سابقاً أو يستقيل، وقد فضل الملك الاعتذار”. (Gassan Attiyyyah: Iraq, p378).

في 30 سبتمبر 1922 شكلت الوزارة الجديدة حسبما أراد كوكس، برئاسة عبد الرحمن الكيلاني (النقيب). وأعقبها نشر المعاهدة التي تضمنت إمضاء الملك. وفي بلاغ صدر بتلك المناسبة امتدح فيصل المعاهدة ووصفها بأنها مبنية على أسس المصالح المتبادلة بين العراق وبريطانيا، “وإن الشعب سيقدر أهميتها بلا شك وسيزداد تمسكاً بصداقة حليفتنا الكبرى على اعتبار أن صداقتها ضرورية لصيانة استقلال هذه المملكة وتأمين تقدمها الاقتصادي والعمراني”.

يروي أمين الريحاني عن تلك الأيام العصيبة التي مرت بالملك، ويذكر أن الأخير حدثه عنها قائلاً “كان الناس قبل مرضه يأتون إليه متحمسين ويقولون له: ارفع العلم، ونحن رجالك، نفديك بأرواحنا… وذكر فيصل على سبيل المثال واحداً من هؤلاء الفدائيين وكان من كبار زعماء المعارضة وأشدهم تحمساً، غير أنه اختفى قبل أن ينفذ كوكس أمره بنفي الزعماء، ثم عاد بعدئذ ليهنئ الملك بشفائه، فسأله الملك: (وماذا فعلتم بالإنجليز؟ هل عدلتم عن إخراجهم من البلاد؟ فأجاب الرجل فوراً من غير ارتباك: (قالوا لنا إنكم أُخرِجتم من البلاد فسكتنا”. (أمين الريحاني، فيصل الأول، ص122-123).

 

 

اقرأ ايضاً