العراق في محفل الدول المستقلة (4)

طريق الصدمات

صورة من الجو لمدينة بغداد مطلع القرن العشرين (غيتي)
اندبندنت عربية الأربعاء 7 أكتوبر 2020

1٬197

للوصول إلى استقلال العراق النسبي والإقرار به عضواً في عصبة الأمم، كان على الملك فيصل والرعيل الأول من السياسيين العراقيين الذين تحملوا عبء بناء صرح الدولة من الصفر، أن يقطعوا طريقاً مزروعة بالألغام، كل خطوة عليها قد تتسبب في تمزقهم.

فبعد التصديق على المعاهدة كان عليهم أن ينظموا أول انتخابات في تاريخ العراق ما بعد العهد العثماني، لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي الذي سيبُتّ المعاهدة البريطانية- العراقية، ويقر دستوراً للبلاد.

في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1922، أصدر عبد المحسن السعدون وزير الداخلية في حكومة النقيب أوامره إلى المتصرفين في الشروع بإجراء الانتخابات للمجلس التأسيسي، وفي الرابع والعشرين من الشهر نفسه، أعلن السعدون بلاغاً عاماً جاء فيه أن “القول الفصل هو للمجلس التأسيسي الذي يباشَر الآن بانتخابه. وفق الله الجميع لما فيه خير البلاد”.

جاء الرد على هذا القرار، عبر جملة فتاوى أصدرها أبرز علماء الدين الشيعة وعلى رأسهم مهدي الخالصي وأبو الحسن الأصفهاني ومحمد حسين الغروي.

ولم تكن الفتاوى، إلا رداً على استفتاء نظمه عدد من الشباب المعارض للانتخابات، حين استفسروا عن موقف هؤلاء المجتهدين منها.

أجاب مهدي الخالصي، “نعم قد صدر منا الحكم بتحريم الانتخاب على كافة الأمة العراقية، فمن دخل أو تداخل أو ساعد فيه فقد حاد الله ورسوله، وقد قال عز من قائل في كتابه المجيد ألم يعلموا أن من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً، ذلك الخزي العظيم، أعاذ الله الجميع من ذلك”.

وكرر هذا الموقف رجلا الدين الآخرَين الأصفهاني والغروي. بل إن الأول ذهب خطوة أبعد في تحريمه المشاركة في الانتخابات حين أصدر فتوى أخرى، “إلى إخواننا المسلمين، إن هذا الانتخاب يميت الأمة الإسلامية فمن انتخب بعدما علم بحرمة الانتخاب حرمت عليه زوجته وزيارته، ولا يجوز رد السلام عليه ولا يدخل حمام المسلمين”. (الوردي، صفحة 202-203).

وفي مدرسته أعلن الشيخ الخالصي أمام جمع حاشد، “بايعنا فيصل ليكون ملكاً على العراق بشروط، وقد أخل بتلك الشروط، فلم تعد له في أعناقنا وأعناق الشعب العراقي أية بيعة” (محمد مهدي كبة، مذكراتي في صميم الأحداث، صفحة 26).

كانت نسخ من تلك الفتاوى تلصق على أبواب المساجد وجدران البيوت والمحلات وتنقل إلى مدن أخرى، فانتشر رفض المشاركة في الانتخابات في شتى أنحاء العراق، والمظاهرات والتجمعات المعارضة لها.

كان البلد على كف عفريت بتأثير تلك الفتاوى التي تبناها وراح ينشرها حتى “الأفندية” الذين هم بشكل عام ضد “الملائية”.

إطفاء نار الفتاوى

جاءت استقالة عبد المحسن السعدون من الحكومة، رداً على رفض النقيب وزملائه ما اقترحه من إجراءات صارمة لإنهاء الوضع الملتهب في العراق.

من جانب آخر، شعر الإنجليز أن النقيب لم يعد يصلح لهم فالموقف السياسي أصبح في حاجة إلى رجل قوي حازم من طراز غير طراز النقيب، مثل السعدون، فهو كان مناسباً لرئاسة الوزارة في بداية تشكيل الحكومة، عندما كانوا يريدون لها رجلاً ذا قدسية أو مهابة اجتماعية، أما الآن بعد أن أشهر المجتهدون فتاواهم الحادة فإن الموقف يحتاج إلى رجل حازم وليس إلى رجل ذي مهابة.

كان السعدون الذي تخرج ضابطاً في تركيا وعمل فترة مرافقاً للسلطان عبد الحميد، ثم عضواً في مجلس المبعوثين (البرلمان العثماني بعد عام 1908) عن مدينة الناصرية، شخصاً صريحاً لا يداجي، وجاءت هذه الخصال من تراثه البدوي الذي نشأ عليه في طفولته، مع شخصية قوية مهيبة.

يكتب علي الوردي نقلاً عن مخطوط لخيري العمري، بعضاً من آراء السعدون وقناعاته، فهو يعتقد أن مفهوم الوطنية لم يتبلور بعد في العراق، وأن أهل العراق ليسوا شعباً واحداً بل شعوباً متباينة، كما أن العراق محاط بالأعداء من كل جانب كالأتراك والإيرانيين والفرنسيين، ولهذا فإن مصلحة العراق في رأيه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتعاون مع الإنجليز، ولو أنهم انسحبوا من العراق لأكله أعداؤه المحيطون. (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج6، ص206).

إضافة إلى رئاسة الوزارة، أخذ السعدون وزارة الداخلية. ولم يقبل الاستيزار من بين الشيعة سوى عبد الحسين الجلبي فقد عُين وزيراً للمعارف. لكن دخوله في الحكومة قوبل بالاستنكار الشديد في الكاظمية، وأخذ الناس يشتمونه ويذمونه ذماً قبيحاً، وكاد يتعرض للضرب في طريقه إلى بيته.. وقد آثر أخيراً أن يسكن خارج الكاظمية.

كانت الخطة التي وضعها السعدون تقوم على إبعاد المجتهدين الذين شاركوا في إصدار الفتاوى التي تحرم الانتخاب إلى إيران، والحجة التي برر قراره بها، هي أنهم جميعاً يحملون الجنسية الإيرانية، وبالتالي فهم غرباء ولا يحق لهم التدخل في سياسة البلد المضيف.

صمم السعدون على تنفيذ رأيه هذا على الرغم من المخاوف التي أثارها الملك فيصل والمندوب السامي الجديد هنري دوبس.

ففي يوم 9 يونيو (حزيران) صدر تعديل لقانون العقوبات البغدادي، وبهذا التعديل أصبح للحكومة الحق في نفي الأجانب بسبب الجنح التي يرتكبونها.

بعد أن طلب السعدون من الملك الإذن بتنفيذ ما أقرته حكومته بشأن نفي المجتهدين المتورطين بتحريم الانتخاب. أجاب فيصل ببرقية قال فيها، “إذا كان العمل ضرورياً تجاه الشيخ مهدي فأرغب أن يكون بكل احترام وبصورة لا تخل بكرامته الشخصية، وأن لا تعجز عائلته ولا تخوَّف”.

إجراء الانتخابات

حقق نفي الخالصي والمجتهدين الآخرين، تضاؤل المعارضة لانتخاب المجلس التأسيسي، وخلال زيارته للواء الديوانية الذي يعد مركز ثورة العشرين، لاقى الملك فيصل ترحيباً كبيراً من رؤساء عشائر الفرات الأوسط، ما عزز من شأن الدولة العراقية النامية.

في 31 مارس (آذار) 1923، عاد كوكس إلى بغداد، وهو يحمل ملحقاً للمعاهدة باسم “بروتوكول”، يتضمن موافقة الحكومة البريطانية على تخفيض مدة المعاهدة من عشرين سنة إلى أربع سنوات.

وبعد تدارسه، أصدر الملك بياناً يوم 30 أبريل (نيسان)، إلى الشعب يبشرهم بالخبر قائلاً فيه، “تمكنت حكومتنا بأن تخطو خطوة كبيرة أخرى في سبيل تحقيق أماني الأمة، وذلك بعقدها الملحق الجديد للمعاهدة العراقية – البريطانية”.

وما كاد هذا البيان ينشر في الصحف حتى بدأت البرقيات تنهال على بغداد من مختلف أنحاء العراق لتهنئة الملك والحكومة بهذا الإنجاز.

وصادف في تلك الفترة أن تمكنت القوات البريطانية من طرد القوات التركية من راوندوز وبعض المناطق الشمالية، ما أدى إلى تقلص التهديد التركي، وتقلص الدعاية التركية إلى درجة كبيرة.

وفي هذا المناخ الإيجابي شرعت الوزارة السعدونية بإجراء الانتخابات للمجلس التأسيسي ابتداء من يوم 12 يوليو 1923، وظلت عملية الانتخابات مستمرة في عهد وزارة جعفر العسكري اللاحقة.

وقد بلغت المندوب السامي دوبس، أن الملك يشجع في بعض مناطق بغداد والموصل والدليم من طرف خفي بعض المرشحين المعروفين بعدائهم للإنجليز فأثارت غضبه.

بعد انتهاء الانتخابات تقرر أن يكون افتتاح المجلس التأسيسي في يوم 27 مارس 1924.

وفي ذلك اليوم دخل الملك قاعة المجلس فوقف الأعضاء له احتراماً، ثم ألقى خطاب العرش عبر فيه عن غبطته لافتتاح أول مجلس شورى في العراق، وقال إن هناك ثلاثة أمور جوهرية على المجلس أن يبتّها، وهي، تصديق المعاهدة، وسن الدستور، وسن قانون الانتخابات للمجلس النيابي.

المعارضة للمعاهدة

كان المندوب السامي دوبس مقتنعاً بتصديق المعاهدة، خصوصاً بعد تقليصها لأربع سنوات، وخلقها شعوراً قوياً لدى الملك ومساعديه باقتراب استقلال العراق، وبوجود 40 رئيس عشيرة نواباً في المجلس من بين 100 عضو، لكن، حال افتتاح الجلسة الأولى للمجلس التأسيسي قدم ناجي السويدي (أحد الضباط الذين كانوا مع فيصل في سوريا) اقتراحاً بطرح المعاهدة على الشعب أولاً، وأن النواب لا يجوز لهم أن ينظروا فيها إلا بعد أن يطلعوا على رأي الشعب، لأنهم مجبرون على العمل برأيه، وطبق أمانيه ورغباته، وحين عرض اقتراح السويدي هذا قبله المجلس.

كان هذا الاقتراح سيؤول إلى انقسام النواب إلى فريقين متضادين في رأي الجماهير، وطنيين وخونة، وقد ينتهي الأمر إلى رفض المعاهدة بأكثرية الأصوات.

انتهى الاجتماع الأول للمجلس بالموافقة على طلب قدمه محام نائب، بتنظيم لقاء يجمع ما بين المحامين المعترضين على المعاهدة والنواب.

ولعل ذلك الاجتماع الذي نظم مساء يوم 20 أبريل 1924 في قاعة سينما رويال، وحضره أعضاء المجلس التأسيسي وعدد كبير من المحامين والوجهاء والمثقفون، نقطة انطلاق معارِضة للقبول في المعاهدة.

يقول علي الوردي إن “المعارضة الجديدة تختلف عن سابقتها التي كانت تقررها فتاوى رجال الدين. فهي الآن تستخدم أسلوباً مستمداً من طبيعة الدنيا وليس للآخرة فيها نصيب، إذ هي لجأت إلى الإرهاب تارة وإلى النخوة العشائرية تارة أخرى”.

يقول توفيق الفكيكي في مذكراته، إنه كان وزملاؤه الطلاب يذهبون إلى بيوت النواب البارزين فيستعملون معهم طرق النخوة المعروفة لدى العشائر كعقد الكوفية أو الامتناع عن شرب القهوة.

كتبت المس بيل في 4 يونيو 1924 تقول، إن عجيل الياور (شيخ مشايخ قبائل شمر) وعضو المجلس التأسيسي جاء لرؤيتها صباحاً وقال لها، “خاتون جئت لأخبرك بأن ليس على وجه الأرض قوة قادرة على جعل المجلس يصادق على المعاهدة، فأنت لا تدرين ماذا يجري في المدينة.. أمام بيتي يقف صبي رث الثياب وكلما أردت دخوله يتلقاني فيمسك بيدي لتقبيلها أو يقبّل عباءتي أو طرف قبائي، ثم يبكي قائلاً، (أيها الشيخ يا والدي ارفض المعاهدة، لا تبيعنا للإنجليز). إنه لا يعرف محتوى المعاهدة وقد استؤجر لكي يقف عند باب بيتي ويقول ما يقول… وإذا كان أمام بيتي واحد فإن هناك 3 أو 4 أمام بيت كل عضو من أعضاء المجلس”.

كذلك، استخدم الإرهاب لمنع التصديق على المعاهدة، مع أولئك النواب الذين ظلوا صامدين على موقفهم بتأييد المعاهدة من شيوخ العشائر، مثل عداي الجريان وسلمان البراك، إذ أطلق شخصان مجهولان النار عليهما فأصيب عداي في ذراعه وسلمان في ساقه، لكن إصابتهما لم تكن خطرة”.

علقت المس بيل على الحادثة قائلة، “من مزايا سياستنا في العراق، أنهم حين يختلفون فيما بينهم يطلقون النار على بعضهم بعضاً وليس علينا، وإلا كنت أنا المصابة بدلاً من عداي”.

بدأ عدد النواب الذين يحضرون المجلس يتناقص يوماً بعد يوم، أخذ بعضهم يقدمون استقالاتهم من عضوية المجلس، و”صرح أحدهم أنه يريد الاستقالة بسبب التهديدات المستمرة عبر الرسائل غير الموقعة والإعلانات التي كانت تلصق في الأسواق”.(فيليب آيرلاند، العراق، ترجمة جعفر الخياط، صفحة 311).

في جلسة المجلس التأسيسي يوم 2 يونيو 1924، هاجم عدد من النواب المعاهدة بعنف، فقد قال محمد حسن حيدر مثلاً، “إن إعطاء زمام البلاد لأجنبي هي خيانة وإن الخيانة تعني خسران الدين والشرف والعيش الحر”.

كان نوري السعيد الوحيد (من بين النواب)، الذي أبدى رأيه علناً في تأييد المعاهدة من دون أن يخشى نقمة الجمهور عليه. ففي الجلسة نفسها قال، “إني أعترف بأنها تؤدي إلى تقييد استقلال البلاد، ولكن ذلك لا يعني عدم الاستقلال، فإن السلاح الحديث تملكه الدول الكبرى، والسعي للاستقلال من دون سلاح غير ممكن”. هل كان نوري خلال حديثه يستحضر معركة ميسلون، التي لم تستغرق سوى ساعات قليلة، لتنتهي بانتصار من يملك الطائرات والمدافع والدبابات انتصاراً ساحقاً؟

غير أن المندوب السامي هنري دوبس، قدم إنذاره الأخير للملك بالتصديق على المعاهدة، وحدد منتصف ليلة 10 يونيو آخر أجل أمام المجلس التأسيسي. وفي حالة فشله في تحقيق ذلك، سيقوم بحله فوراً، وربما العودة إلى الحكم البريطاني المباشر.

تصويت اللحظة الأخيرة

عصر ذلك اليوم، ذهب دوبس إلى قصر الملك، فقدم له ورقة تتضمن إنذاراً يطلب فيه حل المجلس اعتباراً من منتصف تلك الليلة وإصدار التعليمات إلى وزارة الداخلية بغلق بناية المجلس فوراً.

أذعن الملك لهذا الإنذار، واستدعى مستشار وزارة العدلية البريطاني إلى القصر لإعداد لائحة قانون لحل المجلس.

أثناء ذلك، كان رئيس الوزراء جعفر العسكري منهمكاً في محاولاته لجمع النواب.

وقد استعملت شتى الوسائل لتحقيق هذا الهدف. وفي الساعة العاشرة والنصف من تلك الليلة أمكن جمع ثمانية وستين نائباً، فحشروا في قاعة المجلس وبدأت الجلسة بجو يسوده توتر شديد.

انتهى التصويت بأن كسبت المعاهدة تأييد37 نائباً ومعارضة 23 لها، واستنكاف 8 نواب عن التصويت.

كان ذلك قبل حلول منتصف الليل، والبدء بتنفيذ أمر المندوب السامي بحل المجلس التأسيسي، بفترة قصيرة جداً!

 

اقرأ ايضاً