العلمي والأدبي وما بينهما
ا
اتساءل لماذا تمكن العراق خلال فترة تاسيس دولته الحديثة عام ١٩٢١ ان يكوّن عشرات الالوف من الاطباء والمهندسين والصيدلانيين والتقنيين والمعلمين واخصائيي العلوم العسكرية ولم ينتج في مجال العلوم الانسانية او العلوم غير الخدماتية من تاريخ الى انثروبولوجيا الى علم النفس الى علم الاثار الى الفلسفة علماء واكاديميين برؤى متعددة متنوعة متغايرة يشكلون مرجعيات يستقي منها الجمهور رؤاهم وقناعاتهم بدلا من الاعتماد على مرجعية واحدة منغلقة على علومها القروسطية ورافضة للقبول بالانتماء الى العصر الحديث: اي القبول بالانضواء تحت علم حقيقي معاصر هو علم اللاهوت الذي يبني جسورا بين الديانات ويساهم بقبول الاخر والتحاور معه بدلا من رفضه.
هذا لا يعني عدم وجود حالات استثنائية لعلماء ساهموا في الثقافة الاكاديمية والشعبية مثل علي الوردي وفيصل السامر وطه باقر ، مع ذلك فما تركوه من اعمال فكرية واكاديمية متواضعة قياسا بما تركه زملاؤهم في بلدان شمال افريقيا او مصر قبل ثورة عام ١٩٥٢.
اين نجد مؤرخين مثل التونسي هشام جعيط او الجزائري محمد اركون او المغربي عبد الله العروي وعشرات في مجالات العلوم الانسانية المختلفة.
حتى بما يخص تاريخ العراق الحديث يظل كتاب حنا بطاطو، المؤرخ والانثروبولوجي الفلسطيني-الاميركي: “العراق”، باجزائه الثلاثة انجازا مفصليا في منهجيته وجمعه بين الدراسة النظرية والمقابلات الواسعة لشخصيات لعبت دورا في صياغة الحياة السياسية عبر اكثر من نصف قرن وفي ما ضم من جداول تفصيلية عن الشخصيات السياسية وعن تطور شتى الجوانب المعنية بالبنى التحتية والفوقية للمجتمع العراقي.
كانت العائلة العراقية حريصة على دفع ابنائها المتفوقين للدخول في الفرع العلمي فكأن الفرع الادبي هو نوع ادنى اهمية من الاول ومن يتخرج منه ستكون مكانته الاجتماعية والوظيفية اقل شانا.
وحتى بعد التخرج من الفرع العلمي، تحصد الكليات ذات الطابع الخدمي مثل الطب والهندسة والصيدلة الاكثر تفوقا في دراساتهم وربما الاكثر دأبا والاكثر قدرة في التحول الى علماء اجتماع ونفس وانثروبولوجيين وعلماء آثار .
ولذلك كانت هذه الفروع مرتعا لاضعف الطلبة الى حد كبير واصبحت شهادة البكالوريوس وسيلة للحصول على وظيفة ادارية بدلا من ان تدفع لاكمال الدراسات العليا داخل وخارج العراق .
هذا النقص الهائل في المرجعيات سمح للاحزاب المؤدلجة ان تملا الفراغ وتبدا بلعب دور في خلق ثقافة شيطنة الاخر بين انصارها ورفض وجهة نظر اخرى … تدريجيا اصبح العراقيون انفسهم كافراد مرجعيات لانفسهم وللاخرين في كل حقل: فانت تجد الطبيب او المهندس او التقني عالما في كل هذه الحقول بما فيها حقلي الاقتصاد والعلوم السياسية وما عاد بحاجة الى العودة الى اي مرجع مختص في هذا الحقل او ذاك.
ربما هذا التوجه طاغ في مجتمعات الشرق الاوسط اكثر من مجتمعات شمال افريقيا التي حافظت على الارث الفرنسي مع محافظتها على هويتها العربية ( ثقافة وليست عرقا).
النتيجة النهائية هي بقاء مرجعية وحيدة قادرة على كسب قطاع واسع من الجمهور ذي الثقافة والتعليم البسيطين والتحكم به: المرجعية الدينية، نجد في المقابل قطاعا واسعا من العراقيين يعتبر نفسه مرجعية لذاته وللاخرين بغض النظر عن عمله واختصاصه الاصليين.
العلمي والادبي: في بلد مثل بريطانيا، من يسمح للسيارة بالاستمرار في حركتها هم المختصون في العلوم التطبيقية، اما من يحدد اتجاهها فهم المؤرخون المتخصص كل منهم بحقل ضيق والمحامون المحددون بالتخصص في مجال ضيق ايضا وبعض المتفوقين جدا في حقل الادب الانجليزي والثقافة الذين يتحكمون في الاعلام والنشر والصحافة والخبراء الماليون … في المجال الثقافي والسياسي من يصوغ الذائقة والضمير والتوجه العام والقناعات العامة هم اولئك الخبراء المخفيين في عشرات الجامعات والمراكز الاكاديمية والبحثية ولا يظهرون في مقابلات اذاعية او تلفزيونية الا لماما وهم بفضل دراساتهم الاكاديمية وتوفر وسط اخر من المختصين ساعد على نشرها بين عامة الناس،فالقناعات الجديدة مثل حقوق الاقليات والتعدد الثقافي والتصحيح السياسي وحقوق النساء لم تسقط هكذا من السماء بل هي بفضل بحوث اكاديمية ذات طابع جمعي ومتنوع تحولت لاحقا الى مرجعيات ثم قناعات عامة..
في المقابل ما انتجه المجتمع العراقي ( ولحد كبير العديد من المجتمعات العربية) ثقافة شيطنة الاخر والانغلاق على مرجعية وحيدة القرن تتمثل بقناعة الجميع بانهم مرجعيات قائمة في ذاتها في كل الحقول ابتداء من الطبخ وانتهاء بفيزياء الكم!