المنفيون

2٬134

كان هواء المكتب مشبعاً برائحة الاسفنيك عند وصولي إليه ذلك السبت، والعتمة متغلغلة بين ثنايا الستائر الرمادية، على الرغم من زرقة السماء المتوهجة في الخارج. ارتبكت المنظفة لظهوري المفاجئ فراحت تشغل نفسها بلف إزار الحائك[1] حول خصرها استعداداً لمغادرة المبنى، متبادلة جملاً وضحكات متشنجة مع البوّاب الذي طفح الأستياء فوق عينيه من قدومي المبكّر.

لم يتجاوز عقربا الساعة الجدارية السابعة والنصف. كان لدي متسع من الوقت لانجاز الشغل الذي تراكم على الطاولة، قبل بدء الدوام ومجيء الآخرين. قضيت الأيام الثلاثة السابقة في سفرة قصيرة إلى ميليلية ووجدة، برفقة زوجتي، وعدنا مساء الجمعة إلى وهران.

بين الخرائط والملفات المتراكمة أمامي، ظهر ظرف زيتوني اللون مدعوك ومهترئ، إلى درجة جعلني أظنه ورقة من سلة المهملات، وضعتها المنظفة خطأً فوق مكتبي، لكنني لمحت اسمي مطبوعاً عليه وسط حشد من كتابات اليد الغاضبة، لكأن ذلك الظرف قد تنقّل حول عناوين كثيرة قبل بلوغه الطابق الثالث. رفعته قليلاً فانسلّت من زاويته اليمنى ورقة شبه شفافة. انحبس الهواء في رئتي وأنا اسحبها. كانت برقية من سطر واحد مكتوبة بالفرنسية. لم أفهم محتواها مباشرة. سألت البوّاب عن وقت وصولها إلى المكتب، فأجابني متبرّماً: “أول البارحة”. اتضح معنى الكلمات واحدة بعد أخرى تحت عيني: “احضرْ حالاً، صفوت في خطر، نحن بانتظارك…”

كان مفترضاً أن يرافقنا “صفوت” في السفر إلى المغرب، لكن حادثة صغيرة جعلته يغيّر رأيه، وهو الشخص ذو المزاج المتقلّب الذي تتناوبه الرغبات المتعارضة في لحظة واحدة بنفس القوة: ذكرت “هالة” في آخر لقاء لنا به، وبشكل عرضي، حينما أخبرنا عن نيته باصطحاب “سديم” معه في رحلتنا المشتركة، كم أن الكلاب تسبّب لعينيها تهيجاً واحتقاناً كلما مكثت معها طويلاً. قال “صفوت” آنذاك: “وأين اضعه؟” قالت زوجتي: “لِمَ لا توصي أحدهم به…؟” قال صفوت بجفاف: “ليس لدي أي علاقة بهم”. بعد يومين من ذلك اللقاء اتصل بي معلناً عن انسحابه من مشروع السفر لمشاغل طارئة في عمله تقتضي الانجاز السريع.

تركت مع البوّاب قصاصة ورق لمديري أعلمه فيها عن سبب تغيبي. وعندما أغلقت الباب ورائي، تخيلت عبوس وجهه وهو يقرأ رسالتي المقتضبة، فانتابني احساس بالضيق. يمتد الطريق إلى مدينة بلعباس كالأفعى بين السهوب الواسعة المزروعة بالقمح. آنذاك كانت الصفرة قد وشّحت السنابل بميسمها، والرؤية المفتوحة للأفق دون عوائق تمنح الاحساس بالحرية والاندماج في ذلك المهرجان الذي بدأته الطبيعة مع بدء شهر أيّار. لكنني كنت تحت وطأة تخدير وهمي منعني من الانتباه إلى الخارج، أو التفكير بما أصابه بالرغم من آصرة القرابة التي تجمعنا، وبرغم أننا عشنا الطفولة في قرية واحدة. كان “صفوت” مولعاً منذ طفولته بالطيور والحيوانات، فلم يمض يوم دون وجود ثلاثة أنواع منها على الأقل معه. يقضي معظم فراغه في الغابة، باحثاً عن أفراخ البلابل. وفي بيته خصصت له أمه قنّاً كبيراً إلى جوار قن الدجاج الذي يلزمه العناية به، مقابل السماح بتربية ما يرغب من طيور وحيوانات غريبة.

وصلت إلى بيته عند الضحى. كان الشارع خاوياً من الأطفال، ولا شيء يبعث على الظن بوقوع مصيبة ما. ضغطت على جرس الباب عدة مرات، فلم يصلني سوى الصمت. لمحت من بعيد كلب “صفوت” وسط الشارع مترنّحاً، يخبّ من مكان إلى آخر. أقبل نحوي. وما ان وصل قربي حتى تصاعد صوت لهاثه متقاطعاً مع عويل مختنق متمزق. ربتُّ على رأسه، فمضى يحدق في وجهي بعينين مخبولتين. أدرتُ القفل بالمفتاح الاضافي الذي أحمله معي دوماً. ازداد تهيّج الكلب، مما اضطرني إلى توبيخه بحدة. سكت قليلاً، لكنه عاد ثانية للهاثه الغريب وعويله. كان صفوت يردد بلغة آمرة كلما سمعني اسخر من هجنة كلبه: “مزّقْه”، وإذا بسديم ينقلب إلى ذئب غاضب، مكشّراً عن أنياب مخيفة تبعث الشلل في أوصالي، لكن ما أن ينطق سيده بكلمة “كفى”، حتى يتحول كلبه إلى حمل وديع، يدور حولي، منتظراً تربيتة على ظهره, يؤكد صفوت أنه وكلبه قد عقدا اتفاقاً غريباً بينهما: إذا شاهد أي منهما كابوساً فإن الآخر عليه القيام بايقاظه. وقد التزم كلاهما بتنفيذ ذلك الاتفاق دون تلكؤ.

كانت شقته على حالها، وهي لا تعدو أن تكون مسكناً خشبياً انتشر طرازه في اطراف بلعبّاس على هيئة مستوطنات صغيرة تابعة للمصانع الجديدة. مع ذلك فقد تسرب إليّ شعور مجنون جعلني أتأمّل أشياءه المتوزعة هنا وهناك بشكل غامض، لكأنها بقايا حجرية تركها مخلوق غامض في كهفه قبل آلاف السنوات. صندوق البيرة موضوع كالعادة في مكانه تحت مغسلة المطبخ، والصحون مغسولة ومرصوفة في السلة المخصصة لها، المنشفة البيضاء في الحمّام عليها بقع دم ناجمة عن جروح حلاقة طائشة للوجه. كانت محتويات الشقة تعطي ذلك الانطباع بأن صاحبها من اولئك الذين يخضعون حياتهم لفكرة واحدة لا يحيدون عنها أبداً. في غرفة الضيوف علق صورته، وصورة أخرى معي برفقة كلبه، التقطتها هالة لنا قرب بحيرة بلعبّاس الصغيرة.

ذهبت إلى مكان عمله. التقيت بمديره الذي اكتسى وجهه شيء من الشحوب حينما علم بعلاقة القربى التي تجمعني بصفوت، بل شابت لهجته نبرة اعتذار، كأنه مسؤول عمّا أصاب قريبي. أخبرني أن صفوت في المستشفى، وحينما سألته عما حدث له، نقل باقتضاب حادثة اصطدام سيارته بشجرة على الطريق الخارجي عندما حاول تجنب شاحنة مقبلة نحوه وجهاً لوجه. قبل خروجي أظهر أحد الموظفين رغبته بمرافقتي. أخبرني في الطريق أن معظم زملائه قد ذهبوا إلى المستشفى لمرافقة صفوت من بعدُ إلى… وإن ما سمعته من المدير لم يكن إلاّ نصف الحقيقة، إذ لم يرغب بمفاجأتي بكل الاخبار الحزينة.

كانت باحة المستشفى خالية من الناس، لكن مناديلهم الورقية واعقاب سجائرهم ما زالت مبعثرة فوق الأرض الترابية، مما يشير إلى مغادرتهم ذلك المكان قبل فترة قصيرة، مخلّفين وراءهم صمتاً مذهلاً. وحينما دخلت المبنى من بابه الواسع، التقيت برائحة الاسفنيك مختلطة بروائح غريبة اخرى: الكحول؟ وربما رائحة الطعام المعدّ للمرضى الراقدين في المستشفى. قد أكون مخطئاً إذا قلت بانني شممت كذلك رائحة طلاء الجدران النفّاذة مختلطة بالروائح الاخرى. في وسط ردهة الانتظار الواسعة شاهدت ممرضة تحرك بين لسانها واسنانها اللامعة البياض قطعة لبان باهتمام كبير. وقبل أن أشرح لها هدف زيارتي، أجابت وعلى عينيها شيء من الدهشة: “مسكين أخذوه لمقبرة الفرنساويين…” ثم انبرت بعض الوجوه لي مندهشة ومستاءة. قال أحدهم: “عربي ومشرك؟ سبحان الله…” قال الموظف مخففاً وهو يربت على ذراعي: “أنا أعرف المكان، لنذهب”.

خرجنا من المستشفى. قدتُ السيارة بشرود مطلق. كان الجالس جنبي دليلي: “استدر يميناً ثم يساراً. امض في الشارع إلى نهايته…” ووسط السيارات المقبلة من شتى الاتجاهات، وسط الناس العابرين من رصيف إلى آخر، بين خطوط الدكاكين المصطفة كبناءات الدومينو، احسست كأنني منساق في حركة غريبة، قطعة حلم بلا بداية ولا نهاية. حقيقة واحدة ظلت راسخة أمامي: الشمس المتقدة فوق الرأس. قال الموظف محاولاً كسر حالة الجمود الجاثم بيننا: “هذا هو مارْشي الغْرابة”. استطعت لمح باعة أكياس النايلون الصغار أمام بناية سوق الخضار الشعبي. كنت ارافق صفوت إليه كلما قمت بزيارته في عطل نهاية الاسبوع، حيث نقضي وقتاً طويلاً فيه، نتجول، اثناءه، بين المساند الخشبية الممتدة خطوطاً متوازية ومتعامدة داخل صالته المغلقة الكبيرة. اعتاد صفوت على شراء، لحم الخيول الهرمة لسديم من دكان قصّاب أحول، ولحم البقر لنا من قصّاب آخر. قلتُ له مرة هازئاً: “لا بدّ أن كلبك سيتبنى صوت الخيول قريباً”. لكنه لم يواجه ملاحظتي تلك باكثر من ابتسامة متشنجة وتربيتة على رأس سديم، جعلت ذيله يرتعش فرحاً. ثم تبادلا نظرة تحمل شيئا من التضامن ضد سخريتي المتكررة.

تباطأت حركة السيارات مع تكاثر الشوارع الفرعية وتزايد عدد المشاة المتنقلين من رصيف إلى آخر دون اكتراث بالعربات. كانت المقاهي والمحلات الصغيرة ملأى بالقرويين. قال الموظف فجأة، “قف هنا…” ومن بعيد لمحتُ بعضهم يرمون خطواتهم بصمت، افراداً وجماعات، واعينهم تراقب الشارع بذهول.

كانت بوّابتا المقبرة مفتوحتين، وعلى وجه الحارس بدا الاستياء والاستغراب، وهو يفسر ما حدث لبعض المارة الذين وقفوا قربه. قال زميل صفوت الجالس جنبي بلهجة معتذرة: “هذه المقبرة لاتُفتح الاّ نادراً منذ زمن الاستقلال. إنها شبه مهجورة”. سألته إن كان أقارب الموتى يأتون لزيارتهم. قال بتردد: “أعتقد جداً قليل. أنت تعرف أن عشرين عاما قد مضت على خروجهم من بلادنا. والناس تنسى مع مرور الوقت”. كانت أصوات بعض الفلاحين تتسرب في الفضاء وهم يضربون يداً بيد: “لا حول ولا قوة إلاّ بالله، عربي وفي مقبرة الروميين…”

لكن الضجيج خفّ تدريجياً ونحن نلج إلى الداخل. استقبلنا شارع على طرفيه تبسق أشجار السرو، تمتد قممها متقاربة تدريجياً حتى تلتقي في نهايته مكوّنة درباً موصلاً إلى السماء المتوهجة الزرقة. ووراء تلك الأشجار استطالت أذرع النباتات متداخلة مع بعضها، زارعة ذلك الأحساس باللازمن: شقائق النعمان الحمراء وزهور البابونج الأصفر مع الشوك والصبّير الصامت، شتلات القرنفل والجوري ملتفة عليها، نباتات العلّيق واللبلاب، والميموزا المتوهجة بالورد الأصفر، وسط سيقان العشب اليابس. ما إن انتهينا من ذلك الطريق حتى راحت الأرض تصعد بنا وسط ذلك العالم الموحش. وحين بلغنا قمة الاكمة لمحنا غمامة من الناس محتشدين في الطرف الأقصى النائي من المقبرة. فهبطنا إليهم وسط دكات من المرمر، بعضها مهشّم، وبعضها الآخر مغطى بالتراب، تنتصب فوقها صلبان معوجة قليلاً، وتماثيل رخاميّة متآكلة، ملتفة حولها خيوط العلّيق اليابسة.

وهناك رأيتهم جميعاً. بالرغم من انقطاع علاقتهم بصفوت، بالرغم من خلافاتهم مع بعضهم البعض. ها هم أبناء المدينة الموبوءة يقفون جنباً إلى جنب، الخصوم والاصدقاء معاً. يلتصق كل منهم بالآخر خوفاً من قدر غامض قد يصيبهم على غفلة. ما بعث على الضحك المجنون تقمص روفائيل دور القس، فمضى يقرأ بتلعثم ممثل رديء نصاً من كتاب العهد القديم: “إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا، لأنك أنت معي، عصاك وعكازك هما اللذان معي…” في الجهة اليمنى اجتمعت النساء حيث اقمن مناحة شبيهة بتلك التي كانت تقيمها امهاتهن وجداتهن: اللطم على الخدود والصدور، هيل التراب على الرأس، البكاء الشديد على ايقاع أهازيج عاشوراء. وما زاد في المناخ من كوميديته ومأساته قدوم “سديم” الذي ظل على بعد أمتار قليلة عنا. مختفياً وراء شاهدة قبر مراقباً ما يجري لسيده الذي هبط إلى القاع دون مقاومة. في الجانب الأيسر، احتشد عدد من زملاء صفوت، وهم يتابعون باندهاش طقوس تلك القبيلة المجنونة، لأول مرة، حيث أنشدّت أبصار أفرادها الزائغة إلى الهاوية الجاثمة أمامهم، لكأنها مرآة تنعكس فوقها صورتهم، على إيقاع قبضات التراب المقذوفة نحوها برتابة ثقيلة.

حينما انتهينا من طقوس الدفن التفّ الجميع حولي معزّياً. كانوا بانتظار إشارتي للعودة إلى المدينة، لكن إغراء غامضاً دفعني لمقاومة نظرات التضامن والتآزر التي طوّقتني. أخبرتهم أنني سأقضي وقتاً مع صفوت ثم التقي بهم من بعد. كان شدو الطيور استثنائياً في تلك الظهيرة المشرقة. إذ بانغلاق تلك البقعة في وجوه الأحياء عشرين عاماً تحولت إلى مستعمرة تسكنها أغرب الطيور: العنادل، الشحارير، الهداهد وطيور الحنّاء النادرة، عدا الوف العصافير. وما شجعها على الاندفاع في الغناء الطلق وجود تلك السماء المتوهجة بزرقة بلورية.

تدريجياً، جذبتني الاصوات، الألوان، روائح الأزهار البرية ونعومة التراب الندي في قبضة يدي اليمنى. اندفعتُ بخطى تائهة بين دكات المرمر المهشم أحمل في صدري امنيةقبول ذلك العالم المهجور لصفوت دون مصاعب.. مجنوناً كنت آنذاك. أردت اقناع اولئك الذين أصبحوا فجأة غرباء على أرض كانت ملحقة، ولزمن طويل، ببلادهم، بأن الزائر الجديد غريب مثلهم، ولن يعكّر صفوهم، وإذا كان بعضهم يحمل شهادات عليا فإن صفوت متخصص في الألكترونيات، وهو لاعب شطرنج ماهر، ويعرف الكثير عن الطيور والنباتات… هكذا تصاعد صوتي متداخلاً بذلك النشيد المتواصل حولي، أحسست أن أجنحة قد نبتت لي، وإن “سديم” قد تحول إلى لقلق رشيق الحركة. ثم أن الطيور قد قبلتنا معها دون أن تسألنا عن مكان ميلادنا، ودون أن تطالبنا بتقديم أي أوراق تثبت هويتنا، بل هي وافقت على أن نشارك في هجراتها المنتظمة… سنندفع من الآن فصاعداً معها في الرحلات الطويلة المتواصلة، دون الانشداد إلى قبلة أو موقع معين، وحتى نهاية الشوط.

لندن 1990

________________________________________________________

*من كتاب “العبور إلى الضفة الأخرى”، دار الجندي، دمشق، 1992

[1]الحائك لباس شعبي نسائي سائد في المغرب العربي

اقرأ ايضاً