المونديال: حينما يتسلل التاريخ إلى ملاعبنا
المونديال: حينما يتسلل التاريخ إلى ملاعبنا
يقدم الفريق الفائز بكأس هذه البطولة لبلده خدمات إضافية تحددها الحالة الخاصة التي يعيشها خلال تلك الفترة بالذات. فحينما تمكن الفريق الفرنسي من الفوز لأول مرة ببطولة المونديال عام 1998 جاء ذلك ضربة كبيرة للتيار اليميني المتطرف بعد أن صعد نجمه خلال فترة التسعينات وأصبح يشكل خطرا على الأقليات القادمة من شمال أفريقيا بشكل خاص. فالفوز لم يأت بفضل سكان فرنسا الأصليين بل بفضل لاعبين من أصول أفريقية. واللاعب الذي قاد المنتخب الفرنسي في البطولة هو من أصل جزائري. وهذا ما جعل زين الدين زيدان آنذاك وحتى اليوم أكثر الشخصيات شعبية. وأوضح استفتاء جرى آنذاك أن زيدان سيفوز برئاسة الجمهورية إن هو رشح لها. هذا الفوز عمق لدى الشعب الفرنسي انتماءه لقيم الثورة الفرنسية الانسانية وعمق شعورا بالرضا عن الذاتوحقق إلى درجة ما سلاما اجتماعيا بدأ يهتز مع تعمق الأزمات الاقتصادية وزيادة شعبية اليمين المتطرف العنصري.
يقول الكاتب الفرنسي البير كامو الذي كان يحتل موقع حامي هدف أثناء دراسته الجامعية: «كل ما أعرفه تماما حول الاخلاق والالتزامات أنا مدين به لكرة القدم» ولعل ذلك ينطبق على كل اللاعبين الكبار مثل زين الدين زيدان وبيليه وبيكنباور، فاللعبة على ما تحمله من عبثية (وجودية) تتمثل بمطاردة 22 لاعباراشدا لكرة جلدية لمدة ساعة ونصف، تتطلب التزاما مطلقا من قبل اللاعب وموقفا أخلاقيا صارما تجاه أعضاء فريقه وتجاه الخصومومع جذب نوادي الكثير من الدول لمهارات ومواهب من بلدان مختلفة أصبح اللاعب أكثر أممية. فهو يقضي أفضل سنوات حياته وبشكل شبه يومي مع لاعبين أجانب وفي اقتسامه مسرات الانتصارات وآلام الخسائر يصبحون أخوة له.
إذا أردتُ مقارنة النوادي الكبيرة مثل آرسنال وريال مدريد وايه سي ميلان مع منتخبات الامم تحضرني المقارنة بين الشركات متعددة الجنسيات ذات التوجه الاممي المفتوح مع مؤسسات الدول الحكومية ذات التوجه القومي الضيق.
في المباراة الأخيرة على كأس الدوري الأوروبي الذي جمع ناديي آرسنال وبرشلونة في باريس كان هناك لاعبان انجليزيان (من أصل أفريقي) فقط من الأحد عشر لاعبا في فريق آرسنال بينما كان أفضل مهاجمي برشلونة الذين بفضلهم تحقق النصر هم من غير الأسبان.
وإذا كانت النوادي غير القومية هي الحاضنة التي يتكون فيها لاعب كرة القدم من أول خطوة له حتى اعتزاله فإن بطولة المونديال تسعى إلى طرح عكس ذلك. حيث أن كل أمة تسقط صورتها على أبطالها الذين يصبح فوزهم فوزها وخسارتهم خسارتها،على الرغم من حقيقة أن المهارات الفردية للاعبين ليست هي الحاسمة بل نمو ما يمكن تسميته بتوارد الأفكار (التليباثي) بين اللاعبين بحيث يمكن لكل منهم أن يقدر أين سيكون رفيقه في كل لحظة.ولعل سبب فوز منتخب فرنسا عام 1998 يعود إلى أن أبرز لاعبيه جاءوا من نادي يوفنتوس الايطالي. وغالبا حينما تجري مباراة بين أفضل لاعبي العالم ضد فريق ناد ما يفوز الأخير حتى مع نقص مهارات أفراده عن الفريق الأول.
لكن الامم تفكر بطريقة أخرى. انظروا ما يجري هنا في لندن. فهذه المدينة الكوسموبوليتية عن جدارة تتحول ما بين ليلة وضحاها إلى قلعة انجليزية تعشش فوق سياراتها ونوافذ حوانيتها وبيوتها وحاناتها أعلام القديس جورج. كأن روحا أخرى تستيقظ قبل بدء المونديال بشهر تنتمي إلى عصر آخر حيث تقيم حاجزا بين من هو انجليزي حقا ومن هو بريطاني. خلال هذه الفترة تختفي أعلام بريطانيا حتى من مركز الحكومة لتحل محلها أعلام القديس جورج الانجليزية. إحدى الظواهر المثيرة للاستغراب هو أن هذا الشعب الذي يتسم بروح ساخرة خفيفة من كل ما هو مثار إعجاب واحترام، تلبسته حالة جنونية عكستها معظم الصحف الكبرى، وهذه تتمثل بحالة الترقب لتحسن إصبع قدم اللاعب واين روني بعد تعرضها للكسر في أبريل الماضي أثناء مباراة جمعت فريقه يونايتد مانشستر بفريق تشيلسي. وأصبح الخلاف ما بين مدرب ناديه ومدرب المنتخب الوطني حول متى سيبدأ روني باللعب خلافا قوميا تعكسه الصحف اليومية بشكل منتظم.
حينما كنت أتابع المباراة التي جمعت انجلترا بمنتخب دولة ترينيداد وتوباغو التي استقلت عن بريطانيا عام 1962 حضرني هذا السؤال: ماذا سيكون رد الفعل هنا في انجلترا لو دخلت الكرة التي تمكن المدافع الانجليزي جون تيري من فم مرماه باعجوبة. أو لو أن الحكم لم يحتسب الهدف الانجليزي الذي جاء قبل عشر دقائق من انتهاء المباراة بسبب اتكاء المهاجم الانجليزي على كتفي وجدائل مدافع ترينيداد وتوباغو؟ لا أستبعد أن يعلن الحداد القومي، وتبدأ حملة مطاردة الساحرات حيث سيكون ضحيتها الأولى المدرب السويدي الذي ضرب أجره رقما قياسيا خلال فترة الخمس سنوات الاخيرة التي عمل خلالها مع المنتخب الانجليزي. ستبدأ مشاعر جلد الذات عبر كل الصحف حيث ستسلط الأضواء على نواقص كل اللاعبينالانجليز، خصوصا حينما تأتي الهزيمة أو التعادل من بلد كان حتى أمس تابعا للامبراطورية البريطانية، ناهيك عن كونه موطنا للعبيد الذي تحقق تحريرهم في منتصف القرن التاسع عشر فقط.
فيمتابعة النتائج التي حققها الفريق الانجليزي خلال الدورات الخمس الأخيرة، يمكن القول إنها باهرة، وسيفتخر بها أي شعب لا يقيده ماض استعماري غذى في نفسه ذات يوم شعورا بالتفوق على الآخرين. في مونديال عام 1990 وصل المنتخب الإنجليزي إلى دور الشبه النهائي وخسر بركلات الترجيح مع ألمانيا. وفيعام 1994خرج بتصفيات متقدمة من خلال ركلات الترجيح ضد واحد من أقوى المنتخبات المشاركة آنذاك: الأرجنتين. كذلك هو الحال في دورتي 1998 و2002 . ففي الأخيرة خسر أمام منتخب لا يختلف اثنان عن أنه الأفضل في العالم: المنتخب البرازيلي.
لكن المناحة التي دارت هنا لا صلة لها بأي منطق. فمباريات الكرة في نهاية المطاف تشبه الحياة ببعض جوانبها. إذ قد يكون للقرار، الذي يأخذه هذا اللاعب أو ذاك في دفع الكرة بهذا الاتجاه أو ذاك، تأثير حاسم على مستقبل فريقه لا في لعبة واحدة بل في كل الدورة. وهكذا هي الحياة أيضا: أن يتخذ المرء هذا القرار أو ذاك بشكل عفوي ليكتشف لاحقا أن ذلك لعب دورا حاسما في صياغة حياته بأكملها!
يعكس المونديال أيضا علاقة الشعوب المنتصرة بالمهزومة في حروب سابقة في المباراة التي جمعت ألمانيا وبولندا كان الماضي القريب حاضرا وبشكل لا شعوري لدى الشعبين. فألمانيا النازية احتلت بولندا وأحرقت مدنها واسرت عددا كبيرا من نسائها لامتاع جنودها، بينما ظلت بولندا تحت وطأة أمم أقوى خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فمنذ هزيمة نابليون وهي تابعة لروسيا القيصرية( قد يساعد ذلك على معرفة سبب كراهية جوزيف كونراد ذي الأصل البولندي للكاتب الروسي دوستويفسكي). وبعد ثورة اكتوبر 1917 عاشت بولندا فترة استقلال قصيرة قبل اجتياحها على يد جيوش المانيا النازية. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وقعت تحت نفوذ موسكو حتى انهيار جدار برلين عام 1998.
لعل الهدف الذي سجلته ألمانيا خلال الوقت المستقطَع في مرمى بولندا هو فتح جرح من نوع خاص لدى الطرفين: بالنسبة للمستعمَر السابق: بولندا، تعميق الشعور بالنقص. أما بالنسبة للمحتل السابق فهو شعور مزدوج: الفرح بالانتصار وتأكيد الشعور بالتفوق وآخر مواز له هو الشعور بالذنب. وهذا ما دفع المدرب الألماني كلينسمان لأن يردد بنبرة اعتذارية أن أفضل لاعبي المنتخب الألماني هم من أصل بولندي.