النبوءة
كعادته كل يوم، غفا جابر خلف ماكنته. ظهر له رجل كالح بعمامة بيضاء وشاربين يرتفع طرفاهما الى أعلى. قال له، وهو يمرر راحة يده اليمنى على لحيته الكثة السوداء: “الن تأتي معي؟ جلبت لك عطورا عجيبة، وبهاراً، واعشاباً سحرية…” اراد ان يصرخ به: “اتركني وشأني”. لكن عيني زائره ظلتا تترصدانه، ومضى يحدثّه دون كلمات، بفحيح يتردد إيقاعه في زوايا الحجرة. استيقظ فزعاً. لاحت له غمامة صفراء تتوثب فيها دوائر برّاقة ملونة، ثم تلاشت تدريجيا، لتخلّف وراءها مصباحاً متدلياً من سقف الدكان المقابل له، حيث بدا العطار “ابو علي” تحت نثار الضوء ظلاً متألقاً بكوفيته وجلبابه الأبيض.
تطلع إلى الستر الثلاث المعلقة بالجدار. تذكر كم كان مغطى بالبدلات المتعددة الألوان. يأتي زبائنه من بعيد، تجّار وملاّكون وموظفون كبار، يضج دكانه الصغير بهم، كل يوم. كم نشأت صداقات بينهم، تزوج بعضهم من عائلات البعض الآخر، تشارك آخرون في مشاريع تجارية جديدة. لكنهم انفضوا عنه منذ حلول ازمته القلبية الأولى، وانقطاعه عن العمل عدة اشهر،فراح يستقبل أناساً جدداً، بعضهم من الشباب الذي يفرض شروطه في خياطة ملابسه، ويساومه على السعر حتى نصفه. ذهب ذلك الزمان دون رجعة حين كان يحدد لزبائنه الملابس التي تناسبهم، فلم تأت شهرته التي بلغت حتى البصرة إلاّ من قدرته على النفاذ إلى الصورة المثلى التي سيكتسيها زبونه بعد ارتداء بدلته. إنه اليوم أكثر مهارة في عمله من قبل، بامكانه أن يدرز بدلة لرجل دون أن يأخذ قياساته بعد القاء نظرة واحدة عليه.
مرر أصابعه على قطع القماش المنثورة فوق الطاولة المجاورة إليه، رتبها واحدة جنب الأخرى، سحب من صندوق موضوع تحت الطاولة قطعة أخرى. شرع في قصها. ارتفع صوت مبحوح من الخارج: “بَعَدْ بُكرةْ السحبْ. جرب حظك. الجائزة الأولى…” خفق قلبه وهو يلتقط العشرة آلاف دينار. توقف عن عمله، وراح يتابع بائع اليانصيب، حاملا بين يديه لوحة خشبية معلقة فوقها الأوراق، مرّ قدّامه، ملقيا نظرة استفسار، ثم مضى في طريقه.
رجع إلى ماكنته، لكن الصوت ظل يبعث صداه: “عشرة آلاف دينار…” كم ادّخر بعد أربعين عاماً من العمل في دكّانه هذا؟ اليوم، وبعد المرض الطويل، والانقطاع عن العمل من وقت إلى آخر، يجد نفسه قريباً من الافلاس..ابتدا “ابو علي” حياته بائعاً متجولاً بعربة يد وضيعة، واليوم، بامكانه شراء بستان، رغم ثيابه الرثة، وتمسكنه، وشكواه الدؤوب، أقرضه عشر روبّيات، فاكترى الدكان المقابل له، واشترى العنبة والبهار، بمساعدة صديقه رافي، الذي جاء مع من جاؤوا من الهنود، بعد دخول الجيش البريطاني البصرة في زمن الحرب الأولى.
رافي الرجل الغريب، الأعزب، المولع بالسحر وقراءة المستقبل. عيناه مصباحان تخترقان العتمة. تعرّف عليه عند أحد اصدقائه. تسمّر آنذاك اإزاءه لحظات: ” ستغلق دكانك إلى الابد عندما تبلغ السبعين…” علّمه التنويم المغناطيسي وقراءة الكف. كشف له أسرار الروح المخفية عن الأبصار، كيف يستطيع الرجال المشي فوق الجمر، كيف يغرزون سفافيد مدببة في اجسادهم. فسّر له كيف تحدد الأبراج مصائر الخلق، ويحدد شكل الأصابع قدراتهم… لكن رافي غرق في سفينة شراعية عائدة الى “بومبي” بعد هبوب عاصفة عنيفة قلبتها وسط اليمّ، فتركه في منتصف الطريق وحيدا.
ظهرت لجابر سيارة مارسيدس بيضاء، يقودها رجل أنيق، ويجلس هو في المؤخرة. تلتقي عيناه بالعمارات المتراصفة على جانبي الشارع العريض في مدينة غريبة عنه. تتوقف السيارة فجأة، يلتفت إليه سائقها، يقابله وجه يشبه وجه رافي، يتفكك رأسه إلى ثلاث كتل معتمة، يصله منها اللغط: كان هنالك ثلاثة اطفال قبالته مندهشين لحاله، يتبادلون الهمس والضحكات. حدجهم بتلك النظرة التي اعتاد أن يُفزع بها الصغار، ففرّوا منه. قلّب الحلم بحثا عن مغزاه: ترمز المارسيدس للغنى والرفاه. ما الذي دعا رافي للظهور معه؟ المدينة التي رآها تنبض حياة، لم تكن مقبرة أو بحراً أو صحراء قاحلة… كم مضى عليه وهو قابع في حفرته هذه؟ مرض القلب له علاج كسائر الأمراض، إذ يمكن توسيع صمام قلبه لتعود إليه صحته، لكن عملية كهذه يلزم إجراؤها في الخارج، وتحتاج إلى ثروة… إنه لم يزل محتفظا بحيويته، أسنانه سليمة، وبصره حاد. لم يضع سيجارة في فمه قط. شرب الخمر قليلا في شبابه، ونام أربع مرات مع المومسات، فأصابه السيلان، كان المرض تحذيراً له ليبعد عن المرأة… سمع صوت رافي قادما من بعيد: “ستغلق دكانك الى الأبد…” مختلطا بصوت بائع اليانصيب: “الجائزة الثانية: خمسة آلاف، الثالثة…”.
خادمه العجوز عرضت عليه مراراً نساء يَتُقْنَ للزواج به، لكنه أغلق أذنيه لها، لم تأته الاشارة، حلما أو حادثة، تدفعه لاتخاذ قرار. أخرجه المرض الذي حل به من عزلته، عندما انفجر وخز قوي في صدره كانغراز نصل بين أضلاعه، دارت الحجرة به دون توقف. أراد ان يمسك بماكنته، لكن اصابعه تحولت إلى خشب يابس. سقط على الأرض وعيناه مغرورقتان بدمع، تتقافز عليه كريّات الضوء البنفسجية، تأتيه أصوات متداخلة مع بعضها، وتمسكه أذرع قوية، لتحمله بعيداً عن دكّانه إلى المستشفى. كان الألم يحزّه، وهو يجد نفسه سهلاً طيّعاً بين أيدي الآخرين… تهدم بضربة واحدة استقلاله عن الآخرين. كفّت الخادم عن عرض الزواج عليه، ومنعه كبرياؤه من طلب مساعدتها، فمضت الأعوام سراعاً، وحلّ به المرض ثانية، وثالثة…
رفع رأسه، التقى ببائع اليانصيب شاخصا أمامه، راسما على شفتيه ابتسامة ذليلة. كان جسمه صغيراً ونحيلاً لا يناسب شيخوخته. ظهرت في فمه ثلاث أسنان صفراء معوجّة، وتجمّع الزبد الأبيض على طرفي شفتيه، بعينين تسوّرهما أهلّة حمراء: “ما تشتري، عمي، مني بطاقة؟” تطلع جابر إليه قليلاً، ثم عاد يدرز الإبرة في قطعة القماش، كأنْ لم يسمع شيئاً. اعتاد على الصمت حين يُقدَّم له عرض، يتجاهل سائله، يتظاهر في الانشع=غال بشيء آخر، يقلّب افكاره يميناً وشمالاً، يسعى إلى سماع صوت من داخله يدعوه للرفض أو القبول.
ــ لَيْشْ جَيْتْ عليّ؟
ــ هِجَستْ إنتَ راحْ تِرْبَحْ.
انقلب جابر إلى عمله، أراد ان يطرد البائع، لكنه وجد كلماته تنقلب إلى موافقة بالشراء.”بُكرَةْ تعال…” تخيّل نفسه بائعاً لأوراق اليانصيب، يتجول في السوق ذهاباً وإياباً، متوسلاً بالباعة والعابرين لشراء بطاقاته. سينهكه المرض يوماً، فتعجز يداه عن العمل، ثم يصيبه الافلاس فلا يجد سوى التسول أو… همس وهو يتطلّع إلى المصباح المعلق فوق رأسه: “عليّ أن انتظر المعجزة”.
2
رجع جابر إلى داره المحاذية لدكانه، بعد تناوله العشاء في مطعم صغير قريب من السوق. كان الطريق مقفراً الاّ من كلاب سائبة، تتحلق جماعات، ألقت بعضها نظرة لا مبالية إليه. فتح باب بيته. استقبله رواق قصير معتم. اشعل المصباح الصغير فبانت أرضيته المرصوفة بطابوق أصفر مهشّم، متشقق، تدبّ فوقه زيزان حمراء. دخل حجرته الصغيرة، حيث واجهه السرير المجاور للجدار، تعلوه كومة من الأغطية والشراشف. انتشرت على الأرض قصاصات ورق وقماش، سحّابات ممزقة، وبكرات فارغة. ثُبتت على الجدار المجاور للسرير أربعة رفوف ملأى بالكتب القديمة، المائلة إلى الصفرة، تنبعث منها رائحة الأشنات، تغطيها طبقة كثيفة من الغبار، وتناثرت تحتها كومة من الكتب، بان عنوان إحدها “الابراج”. وُضِعت خزانة كبيرة جنب جدار الباب، وانتصبت إلى يمين السرير طاولة فوقها مصباح أحمر. دبّت الفوضى في الحجرة منذ توقف خادمه عن المجيء إلى داره.
اشعل المصباح الأحمر، الواهي، وأطفأ المصباح الآخر. ملأ الحجرة ضياء خافت، احال اشياءها إلى كتل ضبابية، تختلط الحمرة فيها بالسواد. اضطجع على سريره محدقاً في المصباح. اعتاد على تنويم نفسه مغناطيسيا بعد عجزه عن تنويم الآخرين. وضع فوق الطاولة دفتراً كبيراً مفتوحاً على صفحة بيضاء. تنتابه أحيانا لجظات من الصحو الممزوج بفقدان الوعي، فينهض من فراشه، ليخطّ عليها كلمات يفسرها صباحاً، معتبراً إياها كشفاً للمستقبل.
اتسعت الحجرة به. اختفى الضوء الأحمر وحل محله ضوء النهار.تحولت ظلال جدرانها إلى اشجار وارفة الخضرة، والسقف إلى سماء زرقاء صافية. انقلب الفراش إلى عشب أخضر ناعم الملمس، تراءت له خزانة الملابس شجرة موز، ذات أوراق طويلة، خرجت منها امرأة مرتدية ثوباً ارجوانيا شفافاً. تقدمت نحوه، جلست قربه. ذكّره وجهها بتلك الفتاة التي نام معها يوما في مبغى تملؤه النساء والضحكات والعطور. تبدّلت ملامحها، تبدّى وجه آخر له شبيه بوجه كريمة التي رغبت الاقتران به. أخبرته الخادم أن ارملة ضابط شرطة تود لقاءه. اصابه انفعال شديد. صاح متوعداً: “أطردْها إذا خلّت قدمها في الدكّان”. لكنها جاءت برفقة ابنها الجميل.دخلت عنده واضعة نقابا أسود فوق وجهها. قالت وهي ترفعه ملياً: “أريدكْ تخيّطْ بدلةْ لشاكر”. داعبت شعر صبيها بكفها اللدن، وارتسمت على محياها ابتسامة عذبة. “سمعنا انت أحسنْ خيّاطْ بالبصرةْ كلها”. خلّفت كلماتها وشوشة واضطراباً في حواسه، جعلت أنفاسه تتلاحق سراعاً، وظل يختلس نظرات شرهة إلى جسدها المكتنز المشدود.
شق رافي الجدار، فهربت المرأة منه. اشار إليه بصوت غليظ: “يوجد في أعماق كل انسان إله نائم يمكننا أن نوقظه، لكن علينا أن نقتل رغباتنا أولاً”. ثم تلاشى وسط وهج الرذاذ الأحمر المتصاعد من المصباح.
تقلص الضوء تدريجيا، تحول إلى بصيص نار خافتة منبعثة من ثقب في الجدار. وجد نفسه في حمّام كبير يملؤه ضباب شفّاف، تتضخم فيه الأصوات وتظهر فيه الأجساد العارية أشباحاً تخلّف وراء خطواتها رنيناً، يظهر بائع اليانصيب من بينها، يلف وزرة حول بطنه،يقدم له ورقة نقدية زرقاء، ثم يمضي إلى الباب خارجاً منه. يتطلع فيها فيرى عدداً بسبعة أرقام.
هبّ من رقدته، سجل العدد الذي طالعه وهو يدمدم: “سبعة كواكب، سبع سماوات، سبعة أيام…” جذبه الكرى ثانية، فرأى نفسه هابطا في درج شاهق الارتفاع، سلالمه عريضة، يفضي إلى مرج فسيح، ينتصب فيه مسجد من الرخام الأبيض اللماع، المتلألئ، تحت وهج الشمس، تملؤه الرغبة في الدخول إليه، ما إن يصله حتى تنبثق من نوافذه طيور رمادية، فتغطي الفراغ حوله، يسمع حفيف اجنحتها المتواصل، ثم ترتفع إلى السماء مكوّنة شبكة تتسرب من خلالها أشعة الشمس المتكسرة، نثاراً، متوهجاً، متقطعاً.
* * *
حلّ النهار في حجرته متغلغلاً عبر الكوة الصغيرة الملاصقة للسوق، فاتضحت حدود الأشياء فيها. تسربت أصوات العابرين وخطاهم، مختلطة بقرقعات عارضات الحوانيت المرفوعة إلى أعلى. ألقى نظرة إلى دفتره فرأى العدد مبتدئاً برقم 7 . كان الرقمان الثاني والثالث مشوشين. أتته العلامة اخيراً، سيغلق دكانه مثلما تنبّأ رافي، تاركاً وراءه سنوات العمر الضائعة. يسكن بيتا تغمره الشمس، وتعتني به امرأته. تناول فطوره بشهية، ثم راح يرتدي بدلته، جاءه صوت البائع: “جرّب حظك، السحب بُكرةْ…” وجب قلبه. اسرع إلى باب بيته. التقى به واقفاً قبالة دكانه، يتطلع مندهشا إلى عارضته المغلقة. “تعال هنا”. صاح فيه، فطفح السرور على وجهه. اقترب نحوه مرتبكا. بادره بصوت حازم: “ادخل”.
أقعده على كرسي من الخيزران في حجرته، يقابله كرسي آخر، وبينهما طاولة دائرية صغيرة. “شفتك البارحة بالحلم، وانا اعطيك كأس ماء” قال بائع اليانصيب، وعيناه تدوران مذهولتين بين ركام الحجرة نصف المعتمة. فكّر جابر بالأحلام، وقد ملكته الدهشة لما رواه الآخر. “من تراهم في الحلم ليسوا الاّ أرواح الناس تزورنا لتنبئنا بما يخبئه المستقبل لنا. كل الأرواح تمتلك المقدرة على كشف الغيب. كل شيء من الماء قد خُلِق، وسعيد الحظ من يحظى بالماء في حلمه”.
ــ خلّي أوراقك على الطاولةْ وانظرْ في عيني.
ــ أحلف لكْ، عمّي، آنا شفتكْ بالحلمْ.
ــ لا تْخافْ.
اطاعه الآخر منكمشاً على كرسيه، وغاصت عيناه في محجريهما. حدّق جابر فيه دقائق عديدة، فانتابت جسده ارتعاشة شكمت فمه. “اسحب ورقة واحدة”. أخذها جابر منه. قارن عددها بالعدد المكتوب في دفتره تحت بريق المصباح الأحمر. أمر بائع اليانصيب بسحب ورقة أخرى ولعدة مرات. قابلته أعداد تحمل نفس أرقام عدده. مرّر عينيه فوق كل البطاقات فالفى الأرقام نفسها.
فتح خزانة نقوده الصغيرة المركونه تحت سريره. عدّ ما فيها فوجده مساويا لثمن البطاقات كلها. كانت العلامة قد حلتّ.
قال جابر: “إذا جَيتْني بالبشارةْ، أقدِّمْ هديةْ ما تنساها طُولْ عمرك”. نهض بائع اليانصيب،
وساقاه تهتزان، فأمسكه جابر من ذراعه. تمتم بصوت مرتعش: “راحْ أسافرْ بنفسي للبصرة حتى اجلبْ لكْ جريدة اليانصيب أوّلْ ما تطلعْ”. اضاف حينما اصبح قريبا من الباب: “الله
يجعلْ كل الجوائزْ من نصيبك”.
3
عبر الليل طويلاً وثقيلاً عليه، أغفى خلاله، ولدقائق، مرات قليلة. رأى نفسه في اغفاءته الثانية على ظهر سفينة شراعية، مرتديا ملابس بيضاء، ويقف إلى جانبه رافي. تعول الريح حولهما، فتتمزق الأشرعة البيضاء بها، تتكسر امواج البحر على سطح السفينة، تاركة وراءها رشات من الزبد الأبيض. كان هناك رجال فوقها، غير مبالين بما يجري. يشبه أحدهم أخاه، يلمحه رغم الدجنة التي تلفهم، مقرفصا في زاوية، يمضغ لباناً.
هدأت الريح فجأة، وساد الكون هدوء مطلق، ثم علت البحر ملايين من الشموع الطافية على صفائح خشبية، فاشتعل البحر بها. قفز رافي إلى البحر ومشى فوقه، بين صفين من الشموع، حتى غاب في الأفق.
راوده الشك بأن بطاقاته قد سرقت منه، أخرجها من خزانة النقود، وضعها على الطاولة، ثم كتب أرقامها على ورقة كبيرة.
يأتيه النهار مرة أخرى، وبائع اليانصيب قد نكث بوعده. هل دهسته سيارة؟ مرض المّ به؟ أو…؟ يحل النهار اخيراً، وتبدأ الحياة في الخارج من جديد. فتح أبو علي دكانه. ها هو يسمع حديثه مع العابرين، يساومهم على ثمن العنبة التي شحّت في السوق، يقسم لهم بأغلظ الايمان مؤكداً على جودتها. وبائع اليانصيب لم يأت اليه بعد. ودّع البارحة، باعة السوق وأقاربه. جاءه تاجر الأثاث العتيق، واتفق معه على شراء محتويات دكانه. بائع اليانصيب لم…ترتفع الأصوات حادة في السوق، تزداد خطوات روّاده فيه. إنه الضحى الآن… اصبحت المدينة غريبة عنه، كل ما كان يشّده إليها قد تقطّع. شعر خلال اليومين السابقين أن له جسداً خفيفاً، كأن أجنحة خفية تحمله. اختفت الآلام من صدره، زال ضيق التنفس عنده.يأتيه صوت المؤذن معلناً عن صلاة الظهر. ترتفع الشمس إلى سمْت السماء، وبائع اليانصيب لم يظهر…
نهض من سريره، ودوار يمسكه. عاين، في المرآة، شعر رأسه المطلي بالصبغ الأسود، وكحل أجفانه. “لولا هذا الورم الخفيف الذي يحيط بعينّي لبدوت في الأربعين”. عليه أن يذهب لشراء الصحيفة.
4
تهللت أسارير أبي علي، حينما رأى جابراً قادماً نحوه. توقف الآخر منذ سنوات عن التحدث معه، عدا تحية الصباح والمساء، وظل الخجل ملازماً له كلما بادر في التحدث معه. إذ يشعر أن جابراً متفوقا عليه كثيراً، فهو يعرف القراءة والكتابة، يستطيع التكلم بلغة أخرى لا يفهمها، يرتدي كل يوم بدلة نظيفة، بخلاف الآخرين الذين يتلفعون بملابس تقليدية كملابسه. كان جابر، قديماً، يضع قبعة على رأسه. يختلط بأجانب وأثرياء، يأتون من بعيد لزيارته، بينما هو يدور بعربته على البيوت، مبدّلاً الملابس العتيقة بالزجاجيات ــ كم مرة دعاه جابر إلى بيته النظيف، المنظَّم، لتناول الغداء عنده. يركن عربته في رواق بيته، ويجلس وحيدا في المطبخ خلف طاولة. تقدم الخادم له الطعام، وتجبره على الأكل بملعقة نحاسية.
لم يدخل إلى غرفة الضيوف سوى مرتين، حيّا في خجل اصدقاءه “الافندية” الذين كانوا يحتسون الشاي من ابريق خزفي مذهَّب.
تبدلت الحياة اليوم، وحال جابر تسير من سيّء إلى أسوأ. تحول بيته الذي شاهده وقت مرضه، إلى خربة. أمّا هو، فلديه قصر قريب من الشاطئ، ابناؤه الخمسة يذهبون الى المدارس، وكبيرهم سينهي دراسته الجامعية هذا العام. انقضت أيام الفقر والجوع إلى الأبد، لكنه ما زال يخجل من جابر، ينتابه شعور بالذنب كلما التقى به، لكأنه مسؤول على ما حل به من بؤس. لو يقبل دعوته للمجيء إلى بيته، مرة واحدة، كم يود أن يريه ما يمتلكه، ليُشعره أن لافارق يفصلهما اليوم. فرح كثيرا، حين أخبره جابر بنيته على السفر. إذ ظل الآخر كابوساً متسلطا عليه، يشعره بدونيته، كل يوم، عنه. فكّر قبل سنوات بتبديل دكانه، لكنه خاف من سخط الخيّاط علي، إذا حسب فعله هذا نكراناً للجميل، فألغى فكرته.
“ما شفتْ بائع اليانصيبْ؟” سأله جابر وعيناه تتسمران فوق عينيه.
ــ من شهر ما مرْ ولا واحد منهم قدّامي.
ــ أنت متأكد؟
ــ عمّي، آنا اقدرْ أكذبْ عليك؟
“اذا احتجت لشيء… فانا اخوكْ في الدينْ.” اضاف أبو علي عبارته الأخيرة بعد ان لمح امتعاضا على عيني جابر الحمراوين. خشخش دون ارادته بقطع النقود، فرمقه الخيّاط بنظرة نارية أجبرته على اخراج يده من جيبه. مضى جابر دون أن يحييه، تاركاً إياه في دوامة الامتعاض والخجل من نفسه.
5
غامت الدنيا في عينيه، اندفعت أنفاسه بنشيج متواصل من فمه وأنفه. بين العشرة جوائز الاولى لم يقرأ عددا مماثلاً لما لديه. رمى الصحيفة جانباً. ألقى بنفسه على السرير، فارتج تحت وطأة جسده. تذكر عبارات الوداع المؤثرة التي تلقاها من الآخرين بعد اخبارهم عن نيته في الرحيل. كيف سيواجههم غدا عندما يفتح دكانه ويجلس خلف ماكنته؟ أي نكات سيصوغونها عليه حالما يكتشفون قصته؟ ستظل المدينة تلوك ما جرى له جيلا بعد جيل. هو الذي يهابه الآخرون ويستشيرونه بملماتهم، يوقعه رجل أبله في حبائل مصيدته…
ترسّخ في نفسه احساس قوي، بأن ما يشده إلى الحياة خيط رفيع: لو يفوز بجائزة تحمل أقل مبلغ: خمسة دنانير فقط. ستمنحه شرارة الحظ هذه دفعا قويا للتشبث بها. يتذكر عرض زبون ثري من البصرة، عليه بفتح مشغل للخياطة، يكون هو مديره، مقابل نصف الربح، إلاّ أنه رفض عرضه آنذاك، لكرهه أن يكون مرؤوسا من آخر. متجره في “سوق الهنود”. سيذهب ويبحث عنه، لكنه يحتاج إلى بصيص أمل. أن يتأكد أنّ الأنس والجن لم يتفقوا جميعهم ضده. سيغلق دكانه ويغادر قريته حالما يقبض على تعويذة الحظ بيده.
أمعن النظر في الصحيفة، واضعا فوقها عدسة مكبّرة، قارن أعدادها بما لديه، فلم يجد سوى عدد متشابه، تتماثل أرقامه مع عدد عنده، ويختلف بترتيب واحد بين رقمين عنه. وضع خطّا تحته، دار في الغرفة قليلا، قارن بينهما ثانية، كان الأختلاف راسخاً تحت عينيه. سمع كركرة خلف باب حجرته، كأنها ضحكة بائع اليانصيب المختنقة، فانقض على أكرة الباب. ظن أن عينين تلمتعان وسط العتمة. مضى في الرواق حتى آخره، فأفزعه فأر قفز بين ساقيه.
نازعه الشك بحقيقة ما حدث له، إذ يخلط احيانا بين الواقع وأحلامه. قد يكون البائع فكرة زرعها ابليس في رأسه أو روحا شريرة تقمصت شكلاً انسيا فراودته عن نفسه. سيرى الآن نقوده مصفوفة فيها على ثلاث رزم. “قل اعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخنّاس الذي…” ظهرت له البطاقات الصفراء، على كل منها صورة بناية كبيرة، مكتوب فوقها: شاركوا في بناء المستشفيات. حمل الأوراق بابهامه وسبابته إلى أعلى، ثم رماها في الفراغ، فانتشرت فوق البلاط تاركة خلفها حفيفاً ثقيلاً.
كيف وصلت هذه الأوراق إلى حجرته. لربما هو خداع البصر الذي يصيبه أحياناً بتأثير الجن الذي يسكن بيته منذ سنوات. أخذ بطاقة من الأرض، حدّق فيها دقائق، ثم اغمض عينيه قليلاً: “تحولي إلى شكلك الأصلي…” لكن اللون الأصفر والملمس الخشن ظلا لاصقين بها. أعاد نظره إلى الأوراق فوجدها تتحرك، كأن ريحاً خفية تسوقها، “بائع اليانصيب يجلس بين أبنائه فرحاً، وهو يحدثهم عن الخياط المغفل…”
اضطجع على فراشه، غطى جسمه حتى مؤخرة رأسه. كانت وشوشة تملأ أذنيه، أصوات العابرين تتفكك، تتحول إلى هدير منتظم، يزداد عنفاً، فيجبره على النهوض، والابتعاد عن النافذة إلى طرف الحجرة الأبعد.
ركّز تفكيره، نظّم انفاسه: شهيقاً، فحَبْسَ الهواء في الصدر نصف دقيقة، ثم زفيراً عميقاً، لكن الضجيج ظل يحاصره. حملق في المرآة، ظهر له رجل عجوز، مترهل، بشعر ابيض، منفوش، وغضون متشابكة فوق وجهه، يحرك فمه دون صوت ذكّره بعرائس الدمى. هل هو الشيطان قد حضر قدّامه؟ رفع رأسه إلى السقف، بانت له خطوط الأرضة كأنها عروق نابتة فيه، تتدلى منه أنسجة العنكبوت الكثيفة. شعر أن السقف منخفض أكثر من قبل، يكاد أن ينطبق عليه. أعاد النظر إلى المرآة، استقبله شاب وسيم، يتقطر الدهن من شعره المفروق، لكن الصورة اختفت سريعاً، ولاح له الشيخ، المنهوك، بانفاسه الثقيلة، مرة أخرى.
ضرب المرآة بكرسي قريب منه، فتكسرت قطعاً، تاركة وراءها صليلاًقوياً. أسقط أكداس الكتب الموضوعة في الرفوف. رفع المصباح الأحمر، والقاه على الأرض بعنف. قلب الكراسي والطاولات. فتح باب خزانة الملابس الأيسر. مد يده إلى الطابق الأعلى الذي يعتلي رأسه، خشخشت بين أصابعه قطع معدنية وزجاجية: هدايا قديمة وتذكارات عمرها نصف قرن. أمسك جسماً صلباً بارداً. صرّ بأسنانه: “لازمْ أقتلهْ”.
فاجأه هدير السوق، دوّامة تتلقفه، فيندفع يميناً، بخطى واهنة، مرتعشة. سأل العديد من الباعة إن كان أحدهم قد لمح بائع اليانصيب. اعطى أوصافه الكاملة: تفاصيل وجهه، ملابسه، صوته، لكنهم أنكروا رؤيته. مضى حتى نهاية السوق، استقبلته الشمس قرصاً متوهجاً تلوح من خلف صف البيوت والدكاكين المتجاورة على الطرف الآخر من الشارع الرئيسي الذي يوصل إلى ميناء الفاو. عبرت شاحنة ملأى بالطابوق، واخرى معبأة بقناني الغاز المعدنية تاركة خلفها دخاناً وضجيجاً، فجرّ خطواته على الداخل حيث الظلال الرطبة، الساكنة في جوف السوق، تتقاطع بينها أشعة متسسلة عبر ثقوب السقف، يتطاير فوقها الغبار الرمادي المشعشع بالضياء.
اجتاز ثلاثة دكاكين. التفت يساراً إلى زقاق متقاطع مع السوق، نصف معتم. لاح له بائع اليانصيب في زاوية منه، متّكئاً على الجدار بملابس جديدة. لمحه، فانقلب على عقبيه. اوسع جابر خطاه خلفه، ضاغطاً على مقبض المسدس الذي في جيبه. تسارعت خطى البائع، تاركة وراءها كركرات متقطعة. انعطف يميناً إلى زقاق قصير لا منفذ له فتبعه جابر فيه، لكن الآخر قد ذاب وسطه. جذبه رأس غزال معلق فوق باب كبير، فراح يحدق فيه طويلاً. اهتز الرأس، وأخرج له لسانه. “انهم الجن يعبثون بي”. سحب اقدامه، تلاحقه ضحكات مجلجلة.
عاد إلى السوق مترصداً عابريه، ترقبه الأعين، تطل الوجوه من الدكاكين مشدودة إليه، تعلوها الدهشة لحالته. قاطعه ثلاثة صبية يتطلعون إليه منذهلين. تذكر أنهم الذين أيقظوه من غفوته يوم حضور البائع إلى دكانه. قد يعرف أحدهم بيته. اقترب منهم خطوة، فهربوا راكضين، تتبعهم خفقات اقدامهم العارية على الدرب الترابي،يصله رنين ضحكاتهم، فيهتز لها جسده المبلل بالعرق.
ارتسمت على شفتي بائع الدبس ابتسامة غامضة. “هل تواطأ مع بائع اليانصيب ضدي؟” اقترب من البائع الذي ما فتئ يضحك. “مضيّعْ لَكْ شيء اليوم عمْي؟” نظر جابر إلى الدكان من خلف كتفي صاحبه، فالتفت الآخر معه، كانت العتمة لا تظهر منه إلاّ أجساماً مختلفة في دجنتها. أتاه صوت، ضحكة، هزات صفائح فارغة. تنشر قرقعة قوية. قال البائع: “تريدْ تشتري تمرْ لو دبسْ؟” ثم اشعل مصباح دكانه. واجهته الأشياء المبعثرة على أرضيته، التي ظهرت أصغر بكثير مما ظنها. غمغم بصوت مختنق: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم…”.
عبر دكانه ومقلتاه تلتهمان المارة باحثاً بينهم عن عدوه. وصل إلى مؤخرة السوق، أفزعه ضوء النهار خارجه، فانقلب إليه ثانية. تحلق حوله حشد من الصبية والمراهقين. صرخ دون كلمات: “ما الذي تودون سرقته مني؟”.
كانت هنالك حلقة من العيون المتوثبة عليه، تضيق وتتسع حول خطواته المتعثرة يبحث بينها تارة عن غريمه، وتارة ينكمش على نفسه هلعاً منها.
حضر فجأة رجل بعمامة بيضاء، فشق تلك الغمامة البشرية بذراعيه، ليتركها تتلاشى وسط السوق. رفع جابر رأسه، فرأى رافي أمامه، يتلألأ وجهه جذلاً. صاح به: ” لقد انقذتني”. فهزّ رافي له رأسه موافقاً:
ــ سأظل صديقك إلى الأبد. أين تريد الذهاب؟
ــ لا أدري. ما الذي تقترحه؟
ــ اترك جسدك العتيق اتبعني.
ــ إلى أين؟
ــ ستحل في جسد مولود آخر، ألا تريد البدء من جديد؟ تحمل كل ما تعلمته، وتتقدم روحك خطوة أعلى نحو الرب.
ــ لكنني أريد جسدي هذا. ألا تعلم أننا سنُبعَث فتيانا بأجسادنا في الآخرة ثانية؟
ــ أرواحنا ليست إلاّ شرراً منبجساً من النار الكبرى. أعظم ما يحققه المرء أن يبلغ المصدر، فينطفئ فيه. أن يعود المسافر بعد اغتراب طويل إلى وطنه، هناك حيث لا ولادة، لا موت، لا بعث اخر.
ــ اسكت أيّها الكافر.
ــ سأنتظرك في الدكان.
اختفى رافي، فظهر الحشد لجابر ثانية، تنطلق منه أصوات عنيفة وضحكات حادة، يتطاير الشرر من أحداقه وأسنانه، فيغمره الرعب مما حوله. اندفع مسلوب الارادة صوب دكانه، الذي بدا له كآخر قلعة بقيت لديه. فتح عارضته قليلاً، انسلّ إلى الداخل، ثم انزلها وراءه.
سمع الناس أصوات رجال يتحدثون بلغات عديدة، تلاها تكسر أشياء، وقرقعة، فاصطفاق حاد، كأنه انغلاق قوي لباب خشبي. اندلق، بعد سكون غامض، طويل، سائل أحمر على هيئة خط رفيع من تحت عارضة الدكان، ثم راح يتجمع في حفرة صغيرة وسط الشارع. كان المساء، آنذاك، قد حلّ في تلك المدينة الصغيرة.
وهران 1983
- من كتاب “العبور إلى الضفة الأخرى”، دار الجندي، دمشق، 1992