ترويض الغيوم (فصل من رواية كوميديا الحب الإلهي)
ترويض الغيوم
(فصل من رواية كوميديا الحب الإلهي)
منذ سنوات كفت شهرزاد عن استخدام كاميرتها، وكفت عن تصفح البوم صورها. وحينما زارتها بيداء لأول مرة في لندن مع عبدل، اعطتها علبة خشبية مصقولة بالوارنيش ومنقوش فوق غطائها اسد بابل. “إنها هدية بابا لك” قالت ابنة خالها.
ولم تكن الهدية داخل الصندوق سوى حفنة صور قديمة التقطها الخال لها مع أفراد من عائلته في فترات مختلفة من طفولتها وصباها. تستطيع أن تقرأ الآن، على حافة بعضها، تواريخ تعود إلى الخمسينات. أكثر ما أدهشها تلك الصور الملتقطة في مدرستها. وحينما حاولت تذكر الشخص الذي أخذها انكمشت ذاكرتها اقصى ما تستطيع لتتركها أمام لغز عصي على الحل.
لا إراديا، أخذت شهرزاد تلك الصور ودفعتها بين صفحات الألبوم الضخم ثم أعادته إلى مكانه داخل خزانه الملابس، بعيدا عن عينيها، ومخفيا وراء أكداس من وثائق وأوراق قديمة.
إضافة إلى الصور، بعث الخال إليها بدفتر صغير ذي غلاف من المقوى الأسود. أدهشها أن تكون أوراقه عرضية. ولم تدرك سبب وجوده مع الصور داخل العلبة الخشبية. هل يكون الخال قد كتب رسالة إليها فيه؟ ما أثار استغرابها قدم ذلك الدفتر. فكثافة سواد الغلاف تضاءلت لتحول لونه في بعض المواقع إلى رمادي باهت، بينما كانت تنبعث منه رائحة اليفة لها وغريبة في آن : رائحة تلك الكتب القديمة الصفراء في بيت جدها. فحتى مع انطفاء ملامح ذلك الماضي عن ذاكرتها ظلت تلك الرائحة تهب أحيانا من وقت إلى آخر من نقطة مجهولة في روحها لتتركها في حالة دوار خفيف.
وضعت الدفتر، من دون فتحه، وسط الاسطوانات المصفوفة فوق رف في غرفة الجلوس. ستقرأه في وقت آخر. لكن هاجسا أيقظها عند منتصف الليل. ها هي تجد خطواتها تمضي بها صوبه، كأنها مُسرنَمة. ولم تدرك ما كانت تطالعه الا بعد استرجاع صحوها كاملا. انها أمام دفتر اوتوغرافات، وفي الكثير من صفحاته لصقت صور مراهقات يحيطها قلب بحافات مزهرة، وتحتها كتبت سطور بخط اليد.
جذبتها إحدى الصفحات:” صديقتي الأعز. اذكريني كلما دق الزمان أوتار قلبك وسأذكرك كلما تردد صداها في قلبي…” في صفحة أخرى واجهتها فتاة جميلة بشعر طويل يهبط على جانبي وجهها الدائري: “إلى اللقاء في المستقبل البعيد. متأكدة أنني سأتذكرك دائما”.
قلبت صفحات دفتر الاوتوغرافات مرارا، سعيا لاستفزاز ذاكرتها. لكنها لم تحصد سوى فراغ مدهش. توقفت عند عبارة مكتوبة بخط انيق: “ما الذكرى إلا صوت عذب يتردد صداه في مغاور كهوف الحياة”. وفي اسفل الصفحة كتب التاريخ: 15 نيسان 1957. هل تكون هذه الصور لزميلاتها في مدرسة الراهبات؟ وهل يعود هذا الدفتر ذو الإطار المذهَّب لها؟ لعل الخال هو الذي اشتراه لها آنذاك هدية، تماشيا مع تقليد كان سائدا في بغداد: بدلا من الركض وراء المشاهير (على قلتهم آنذاك) كان الكثير من الطلبة يلاحقون رفاق دراستهم واساتذتهم كي يتركوا آثارهم فوق دفاتر الاوتوغرافات المستوردة من انجلترا. “ما الذكرى إلا ناقوس يدق فوق ظلمات النسيان…”
من أين كانت تلك العبارات الطنانة تستورد؟ لا بد أن هناك كتابا خاصا بها تتبادله زميلاتها لتجميل اسلوبهن، فما كن يكتبنه فوق تلك الصفحات سيبقى خالدا حسب ظنهن.
تتعرف الآن على اسماء صديقاتها وملامحهن من الدفتر الذي نسيت تماما وجوده، من دون أن تسترجع أي لحظة عيش معهن.
كيف وصل إلى يد خالها؟ لا بد أنه ذهب إلى بيتهم قبل استيلاء الانقلابيين عليه والتقطه مع أشياء ثمينة. سمعت من أمها آنذاك أنهم مدينون لاخيها بالكثير، فبفضله استرجعوا مصوغات ذهبية ونقودا، مكنتهم من البقاء في لندن حتى عثور الأب على عمل.
كان دفتر الاوتوغرافات الشيء الوحيد الذي نسي الخال إيصاله إليهم، لكنه، بعد عبور مياه كثيرة تحت الجسر، تذكره.
ها هو مستلق على الطاولة أمامها. فتمضي في تقليب صفحاته. تتوقف عند تلك العيون المبتسمة التي ما فتأت تحثها على عدم النسيان، فينتابها شعور بالذنب لخذلهم. تلمست بأناملها تلك الخدود الناعمة والشعور المصففة بعناية، لعل حاسة اللمس تساعدها على إيقاظ لحظة واحدة من ذلك الماضي الذي بدا قريبا جدا إليها، لكنه ظل منغلقا بإصرار مطلق على نفسه.
* * *
تذكّرني حالة شهرزاد بكتاب «رسالة الغفران» الذي سبق «الكوميديا الإلهية» بثلاثة قرون. وفيه يوصل المؤلف أبو العلاء المعري صديقه اللغوي “ابن القارح” إلى الجنة.
لكن الأخير على خلاف سكانها، يستمر في حرفته القديمة: التحقق من صحة هذا البيت الشعري أو ذاك، والتثبت من معنى هذه الكلمة أو تلك، من المبدعين أنفسهم.
يكتشف ابن القارح أن أولئك الشعراء الكبار الذين كرس حياته الأرضية لاستجلاء قصائدهم وتحليلها وحفظها من النسيان، نسوا هم أنفسهم ابداعاتهم. بدلا من ذلك استغرقوا كليا في ملذاتهم. فالفردوس وفق المعري هو المكان الذي تشبع فيه الرغبات الحسية مباشرة حال بروزها في الذهن.
برر كل منهم سبب النسيان بطريقة مختلفة عن غيره، فشاعر عظيم مثل الشماخ بن ضرار الذي اعتبر الاصمعي قصيدته الزائية أجود ما كتبه العرب على الزاي يجيبه غير مبال حينما يذكّره ابن القارح بها وبقصيدة مشهورة أخرى له على الجيم : “لقد شغلني عنهما النعيم الدائم فما اذكر منهما بيتا واحدا.”
تتعمق خيبة ابن القارح حينما يلتقي بمبدع نظام العروض الخليل بن أحمد ويسأله عن أربعة أبيات راقصة كان اللغويون في الدار العاجلة يعتبرونها له. يجيبه الأخير: “لا أذكر شيئا من ذلك. ويجوز أن يكون ما قيل حقا”. “افنسيت وأنت أذكر العرب في عصرك؟” يسأله ابن القارح يائسا، فيقول الخليل بصوت مرتعش:”إن عبور الصراط ينفض الخَلَد مما استودع”.
حينما يواجه بطل المعري آدم يكتشف أن أبا البشر هو الآخر تعرض إلى النسيان عند وصوله إلى الجنة. لكنه نسيان من نوع آخر. فحينما يسأله عن بيتين من الشعر المكتوب بالعربية نسبا إليه ينكر ذلك بشدة . «كنت أتكلم بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض نقل لساني إلى السريانية» قال آدم ،«فلما ردني الله سبحانه وتعالى إلى الجنة عادت علي العربية.» على ضوء ذلك لم يكن ممكنا أن يكتب شعرا بالعربية بعد فقدانه لها على الأرض.
لا استبعد أن يكون ابن القارح قد تساءل في أعماقه: هل تذكر آدم شيئا من حياته في الجنة بعد اقصائه عنها وحلول السريانية محل العربية على لسانه ؟ وبعد عودته إليها من الأرض، واسترجاعه العربية، هل يتذكر الآن شيئا من حياته في دار الفناء؟
تخيل اللغوي ابن القارح، وهو يتأمل حال أبيه آدم ، الذاكرة وعاء ضخما مملوءا بالكلمات. ما الذي سيحدث لها لو تلبست عناصرها الأولية لغة أخرى؟ هل ستختفي تماما أم تصبح ذبذبات صوتية تغافلنا عبر الأحلام لتذكرنا بكينونتها الجديدة؟
بعكس أهل اللغة في الفردوس، يتمتع شعراء الجحيم في رسالة الغفران، بذاكرة حادة تمكنهم من مناقشة كل كلمة جاءت في شعرهم وما كانوا يعنون بها. ها هو يلتقي بمن يعتبره البعض أعظم شاعر للعربية: امرؤ القيس. فيسأله عما كان يعنيه بكلمة “البكر” في هذا المقطع: “كبكر المقاناة البياض بصفرة”. وهل يجب رفع أو نصب أو جر كلمة البياض؟ فيمضي الشاعر الجاهلي مجيبا بذاكرة مثيرة للدهشة عن اسئلة اللغوي الشهير.
وهنا يأتي سؤال لم يقدم المعري جوابا له: هل كان إدخال ابن القارح إلى الجنة بذاكرة مملوءة عقابا له؟ أن يكون ما بينه وبين الغفران فترة اختبار عليه أن يقطعها قبل أن يتمتع بفردوس النسيان؟
* * *
اشترت شهرزاد قبل اسبوع آخر البوم لفرقة “بِينْك فْلويْد”، “أتمنى لو كنت هنا.” لكنها لم تجد الوقت الكافي للاستماع إليه إلا اليوم.
منذ سنوات توصلت إلى هذا الاستنتاج: هناك اختلاف جوهري بين الراحة والسعادة. فهي تضع كل الامتيازات التي تتمتع بها ضمن خانة الراحة مثل البيت الانيق المجاور لغابة هايغيت، السيارة الجديدة، والراتب الضخم. أما خانة السعادة فمخصصة لتلك اللحظات القليلة التي يذوب المرء فيها كليا بمحيطهحينما يشمله النسيان.
انصتت مرارا إلى أول اغنية في الاسطوانة: الماس المجنون. قال لها ريتشارد أقرب أصدقاء ستيفن إليها، عبر الهاتف: إنها أعذب رثاء لصديق.
لكن صوت الموسيقى الفضائية ايقظ في ذاكرتها كبرق عابر ذلك المشهد: ها هي تتسكع مع ستيفن في حي سوهو. مطر خفيف ينث برقة عليهما، من سماء رمادية قريبة من اليد، تصلهما من احد البارات اغنية البيتلز الجديدة: كل ما تحتاج إليه هو الحب، فيزداد اقتراب جسديهما إلى بعضهما البعض. وفي مقهى البارتيزان انضما إلى حشد من المعارف والأصدقاء. كانت هناك نشارة خشب فوق الأرضية، وعلى أحد الجدران علقت لوحة ملاحظات مغطاة بمختلف النشرات. انتهزت فرصة انشغال ستيفن في الحديث مع شخصين للتوجه إليها، كانت هناك إعلانات عن مظاهرتين قادمتين. إحداهما للاحتجاج على الحرب الفيتنامية والأخرى للمطالبة بإجازة الماريوانا، بينما انتشرت فوق سطح اللوحة اعلانات عن امسيات موسيقية وشعرية؛ عن محاضرات في شتى المواضيع الغريبة. تتذكر ذلك الإعلان عن محاضرة مخصصة لاثبات وجود الصحون الطائرة.
هل تذكر حينما كنت شابا، كنت تشرق مثل الشمس
استمر في الإشراق أيها الماس المجنون
والآن هناك نظرة في عينيك، تجعلهما شبيهتين بثقبين اسودين في السماء
الالتصاق: هذه الصفة النسائية المحض. حتى حينما كانت يداهما تنفصلان عن بعضهما البعض، تظل قادرة على تلمس تلك الجسور اللامرئية المتخارجة عن جسدها مثل أذرع الاخطبوط لتتشبث بستيفن: تغمرها رائحة جسده فتشتهيه في تلك اللحظة. تتبع عيناها بشغف متصاعد تقاطيع وجهه المتبدلة في كل لحظة، بينما تظل اناملها تستطعم بشرة راحته الوردية. وحينما تغمض عينيها كانت تراه بالعين الثالثة بشكل أوضح وأجمل. ولعله شعر ذات مرة بما كان يعتمل في مكنون روحها حينما استعار جملة ميلورز بطل عشيق الليدي تشاترلي مع تحوير قليل لها: بعد كل النكاح المكثف الذي خضناه، حبيبتي، يجب أن نكون قد دخلنا الآن أرض العفة. فما كان منها إلا نكزته بكوعها، في وقت رمته بنظرة تفتعل الغضب وهي تقاوم ضحكة انفجرت في أعماقها.
فاجأتها كلمات الاغنية التي تحمل عنوان الألبوم: “اتمنى لو كنت هنا” فأعادت المقطع مرارا:
كم اتمنى، كم اتمنى لو كنت هنا
نحن لسنا سوى روحين ضائعين، يعومان
في وعاء سمك زجاجي، عاما بعد عام
راكضين فوق الأرضية القديمة نفسها، وماذا وجدنا؟
المخاوف القديمة نفسها
لكن ستيفن فضل الخروج من الوعاء الخاص بهما، حتى قبل رحيله النهائي. “احتاج إلى كمية هواء أكبر. أنا لا استحقك”، ردد جملته متجنبا النظر في عينيها.
* * *
يحكي لها ريتشارد عن امه المصابة بالزهايمر، كيف أنها غافلت الممرضين في دار العجزة وخرجت إلى الشارع. وبدلا من العودة إلى بيتها الذي سكنته خلال الأربعين سنة الأخيرة من حياتها، حيث يقيم ابنها الأصغر ريتشارد الآن، ذهبت إلى بيت آخر، وحينما فتح صاحبه الباب، واجهته امرأة مسنة صارمة الملامح. “أي خدمة مدام؟” سألها بلطف، فلم يكن من أمه إلا أن تجيبه بنبرة متهكمة: “أي خدمة؟ ماذا تفعل هنا في بيتي؟”
قال ريتشارد بعد أن لمح استغرابا على وجهها. “هل تعرفين إلى أين ذهبت أمي؟ إلى بيت طفولتها. كانت على قناعة مطلقة بأنها غادرته قبل ساعة واحدة فقط.” وفي دار العجزة ظلت تبكي بجزع على فقدان بيتها حتى غمرها النسيان الرحيم مرة أخرى.
اكتشفت، وهي تستمع إلى ريتشارد، تشابها غريبا بينها وبين امه: في الكثير من أحلامها عن الماضي، تشاهد نفسها في بيت الطفولة العريق، قبل انتقال اسرتها إلى مسكن حديث يقع خارج أسوار بغداد القديمة.
كانت في سن السابعة حينما غادرت ذلك البيت إلى الأبد. مع ذلك ظلت تشاهده، في هيئة متاهة تتغير تفاصيلها مع كل حلم، لكن اصول لعبتها ثابتة. ها هي تقطع “المجاز” الطويل الفاصل بين الباب الخشبي العتيد والحوش الفسيح المغطى بالطابوق الأصفر، فتشعر بالانفراج لانتقالها بسلام من عتمة النفق المطبقة إلى الفناء المشرق بضوء النهار، المتسرب من مربع السماء المكشوفة فوقه. تمضي في التجول داخل حجراتها. تفاجئها تلك التحفيات القادمة من شتى أنحاء العالم: كنبات وطاولات من خشب الأبنوس مطعمة بالعاج، تماثيل من الرخام الأبيض، تخوم من الخزف الصيني النادر، مجوهرات ومصوغات ذهبية… لكنها تبدو غير معنية بها. هناك شيء خاص بها تبحث عنه: هل هو محفظة، حقيبة، أم ثوب محدد؟
في كل مرة يقودها البحث إلى الطابق الأول وهناك يحل الليل حينما تكون وسط إحدى حجراته، فتغرق في عتمة الليل المفاجئة. أحيانا كانت تخرج من الغرفة وتقف عند حافة الدرابزون المطل على الحوش، لكنها تواجه ظلاما كثيفا. يتسرب القلق في أنفاسها: كيف سأخرج من هنا؟ بالمقابل تبدأ أصوات هامسة بالتصاعد حولها فيغمرها ذعر شديد.
كانت على وشك السفر إلى بغداد، حينما وصلتها برقية مفاجئة من أبيها، أجبرتها على الغاء الفكرة: نحن قادمون جميعا لقضاء الصيف معك. ولم يكن حضور الأب إلا جزءا من عمله. سيصل الملك إلى لندن في منتصف تموز، وعليه تنظيم برنامج استقباله واقامته مسبقا.
مضت تسعة أشهر عليها آنذاك منذ مغادرة أسرتها. كم افتقدت أبويها واخويها خلال أول أسابيع الفراق. إنها المرة الأولى التي تبتعد عنهم لأكثر من يوم. وفي مدرستها الداخلية ظلت عيناها تتعقبان حركة الزمن البطيئة فوق تقويم عام 1958 الملون. هناك طريق طويل ينتظرها قبل أداء امتحانات التأهل إلى الجامعة. تتذكر الآن ذلك الطقس الذي ما فتأت تكرره كل ليلة قبل النوم: إخراج الصورة المؤطرة التي تجمعها بأفراد اسرتها الصغيرة من الكومودينو المجاور لها لتمضي في التحديق بتقاطيعهم واحدا واحدا.
مع ذلك لم تتمكن من الالتقاء بهم عند وصولهم سوى مرة واحدة. كانت الامتحانات على الأبواب، وإن هي فشلت فيها ستلغى منحتها الدراسية الحكومية. قال الأب مًطَمْئنا: إنهما اسبوعان فقط وتنتهين منها. وعلى صفحة شهر تموز في تقويمها رسمت دائرة باللون الأحمر حول الرقم 18 آخر أيام امتحاناتها. كتبت تحته : يوم الانعتاق.
لذلك لم تعلم بوقوع ما حدث في يوم الرابع عشر إلا بعد أربعة أيام.
في طريقها إلى لندن، ظلت أفكارها مشتتة. كانت عيناها تتابعان المروج الخضراء وأعمدة الكهرباء المتحركة خارج القطار، بينما ظلت سحب بيضاء تغطي السماء، باستثناء فراغات زرقاء تتغير مساحتها باستمرار. من وقت إلى آخر كانت تلتقط التماعا مفاجئا للخضرة حينما تتمكن حزمة أشعة شمسية من الإفلات للحظة، فتنير المشهد أمامها. هل انتهت حقا من الامتحانات اليوم؟ أخبرها الأب أنها سترافق الأميرة فاضلة في أثناء زيارة خطيبها الملك فيصل الثاني. ولا بد أن الأخير وصل الآن إلى لندن. فموعد مغادرته بغداد: الثامن من تموز.
في جناح الفندق المخصص لأسرتها، واجهها صمت غريب؛ بدلا من الاحتفاء بقدومها، ظهرت الأم بثوب أسود وعينين حمراوين، بينما راح أخوها الأصغر يتحرك من مكان إلى آخر باضطراب واضح، غير مدرك لما كان يحدث أمامه.
تحدثت الأم أخيرا وهي تنهنه دموعها:” وقع انقلاب عسكري ببغداد.”
“لكن الملك هنا؟” سألت بنبرة واثقة من تسلمها جوابا واحدا: نعم. بدلا من ذلك، راحت أمها تهز رأسها بالنفي.
* * *
لم يكن ذهابها مع ستيفن إلى مؤتمر “ديالكتيك التحرر” إلا تحت دافع الفضول. المكان: راوند هاوس ثانية. لكنه بدا أنظف وأكثر ترتيبا من المرة السابقة. وأمام المدخل امتدت الأيدي اليهما عارضة منشورات بالوان مختلفة. اعجبها إعلان أصفر عن تأسيس جامعة لندن المضادة. وتحت قائمة أسماء المشرفين عليها، كتب بخط كبير: لا متطلبات رسمية.
تتذكر أنها وضعت في حقيبة كتفها آخر رواية صدرت لاغاثا كريستي: “ليلة لا نهاية لها”. ومن وقت إلى آخر، كانت أصابعها تتسلل إليها بحذر، فتعيدها إلى مسار الحكاية، بعيدا عن صوت المحاضر.
كان ستيفن يناكدها كلما رآها تقرأ كتابا لكريستي: “أنت مدمنة عليها… لا بد أن هناك شيئا مشتركا ما بين الأطباء والقتلة.”
لكن محاضرا واحدا جذبها إليه بقوة: ستوكلي كارمايكل. ولعل ذلك بسبب الاستياء الذي راح يطغى على وجوه المستمعين، مع تصاعد حدة نبرته الزاجرة. اعجبتها وسامته. بدا لها ممثلا يؤدي دورا: انتم ونحن. السود مقابل البيض؛ العالم الثالث مقابل الغرب؛ فيتاغورس لم يبتكر الهندسة: إنهم المصريون؛ والاسكندر المقدوني بكى في سن السادسة والعشرين لعدم وجود شعوب أخرى يقتلها. “لا شيء يستطيع الأبيض الليبرالي أن يعلمني إياه. وإذا أراد أن يعلّم شخصا آخر فليذهب ويعلّم أولئك البيض الذين هم بحاجة إلى التحضر.”
ظلت افتتاحية “ليلة لا نهاية لها” تتردد فوق لسانها آنذاك: “في بدايتي نهايتي”، حتى حينما بدأ البعض بالخروج احتجاجا، بينما راح آخرون يدمدمون سعيا لإيقافه. كانت ثيمة المؤتمر تحرير الذات من الداخل. وها هم يجدون أنفسهم متهمين أمام وكيل نيابة شديد الصرامة.
لا بد أن كارمايكل استشهد بزعيم ثوري معاصر حينما تحدث عن أهمية الكراهية في النضال ضد الأعداء. هل يمكن أن يكون تشي غيفارا؟ وكيف علقَت كلماته في ذاكرتها حتى بعد تسع سنوات؟
«الكراهية كعنصر من النضال، كراهية العدو المتواصلة التي تقسرنا على تجاوز الحدود الطبيعية للإنسان، وتحولنا إلى مكائن قتل فعالة وعنيفة وباردة.»
هل كان هذا النوع من الكراهية وراء ما فعله العباسيون بالأمويين عند استيلائهم على الحكم ؟ فهم لم يكتفوا بإبادة الأحياء منهم بل انقضّوا على رفات أمواتهم. تحضرها تلك الصورة المشوشة التي تسربت من بغداد لبقايا جثة معلقة بحبل إلى سقف، وتحيطها وجوه مبتهجة. رددت الأم بفزع: يقولون إنه الوصي عبد الإله.
عند وصولها إلى الفندق كان الأب معتكفا في حجرة النوم. اندفعت للدخول عليه، فارتفع صوت الأم محذرا: “لا تفتحي الباب. سيغضب علي كثيرا.”
ظلت خلال اليومين اللاحقين تصغي إلى حديث أمها المتواصل عما جرى في صباح ذلك اليوم المشؤوم، بينما كان صوت الأب يصلها أحيانا، عند ترتيله آيات معزية من القرآن: “قل لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”.
“إنها الطواويس التي جلبوها إلى قصر الرحاب قبل شهرين،” قالت الأم، “أصواتها القبيحة كانت نذير شؤم”.
بدا لها الأب عند خروجه أخيرا أصغر حجما، بينما تضاعفت الغضون فوق جبهته. كانت عيناه الحمراوان تزوغان عن الالتقاء بعينيها. هل شعر آنذاك بالخجل منها؟ الخجل مما حدث، أو الخجل من وضعه أمامها بالبيجاما، مجردا تماما من عزته. أو لعله الخجل من انهيار تلك الأحلام الوردية التي ما انفك يكررها على مسامعها: “سنستعيد قريبا كل الأراضي البور التي نجمت عن تحطيم المغول لنظام الري.” او “سيصبح العراق فردوس الشرق الأوسط بعد انتهاء شبكة السدود. ستستيقظ بابل واور ونينوى من سباتها، ويعود بهاء الماضي لبغداد.”
بدلا من ذلك راح يكرر عبارة نشرها قادة النظام الجديد: العهد البائد.
التفت إليها فجأة: “نحن أصبحنا جزءا من العصر الحجري. بلا أي أثر أو ذكر. مجرد وهم.”
* * *
أخرجت ألبوم صورها المنتفخ تحت هاجس ملح. على غلافه الأحمر المقوى تجمعت طبقة غبار خفيف تمكن من التسرب عبر باب الخزانة بفضل ركون الدفتر طويلا هناك. كيف كان الناس، قبل عصر التصوير الفوتوغرافي، يتوثقون من حقيقة ماضيهم؟ تستطيع التمييز داخل الألبوم بين نوعين من الصور: تلك المثبتة فوق ورقة سميكة وترتبط فيما بينها بتسلسل زمني، وأخرى طارئة اقحمت نفسها خارج السياق. هناك أربع صفحات مخصصة لصور هيلين، تخترقها صورة جانبية باهتة بحجم أكبر للملك فيصل الثاني وعند حافتها اليسرى يسكن توقيعه بحبر اسود وتحته التاريخ: 2 مايس 53. قرأت على ظهر الصورة بخط أبيها: عيد التتويج.
كان مقررا أن يسافر الملك الشاب إلى لندن قبل وقوع الانقلاب بأسبوع. لكن وزير المالية التمس منه تأخير سفره لبضعة أيام فقط. فهناك قوانين مهمة، تخص الاتحاد الهاشمي الوليد، على وشك الصدور وتحتاج إلى توقيعه.
تحت صورة الملك القتيل رقدت صورة تجمع ستيفن وأعضاء فرقته، خالية من أي إشارة لتاريخها. لا بد أنها التقطت بعد فترة قصيرة على تعارفهما، فوق منصة مسرح جامعي بلندن. تنجذب عيناها إلى جزماتهم الجلدية وسترهم الشبيهة بسترة ماوتسي تونغ الشهيرة، لكن بألوان أكثر صخبا. كم ظل اسم الفرقة يتغير قبل استقراره على اسم واحد . عند لقائها الأول بستيفن كانت فرقتهم تدعى “الباحثون عن الطريق”، لكنهم اكتشفوا وجود فرقة أخرى تحمل الاسم نفسه، فحذفوا عبارة “الباحثون عن”، مكتفين بـ “الطريق”. ولم يمض سوى اسبوع حتى برزت أمامهم فرقتان بالاسم نفسه، فانتقلوا إلى الكلمة الأولى فقط: “الباحثون”. ومع تكرر الحالة انتقلوا إلى الاسم النقيض الذي أصبح علامتهم الفارقة المتبناة: “الضالون عن الطريق”.
من صفحة أخرى، ظهرت حافة صورة مختلفة . ها هي عائلتها تسترجع من جديد استقرارها في أبو ظبي. على ظهرها كتب الأب بخط رقعة أنيق: إلى ابنتنا العزيزة. بانتظار قدومك إلينا.
بعد فقدانه لكل شيء، بدأ الأب من الصفر في لندن، مترجما للعقود التجارية بين الشركات البريطانية والدول العربية، ثم جاء العرض عبر أحد زبائنه الأثرياء المتنفذين في الإمارة، للمشاركة في بناء مؤسساتها الوليدة. ما زالت تحفظ مقطعا من رسالته الحماسية الأولى التي بعثها من أبو ظبي: “يذكّرني الوضع هنا بأول خطوات الدولة العراقية في العشرينات، حينما كنت لم ازل شابا، لكن من دون مكائد أو ضغائن. هل تصدقين أنني ممتلئ اليوم بحيوية الشباب وثقتهم الجارفة بالمستقبل ؟ لا اخفي عنك أن هناك غصة دائمة على بلدي وأنا اتابع الانقلابات والمذابح الدورية فيه. هل هي لعنة أبدية ؟”
صورة أخرى لها محاطة بحشد من المتظاهرين. لا بد أنها اخذت في ساحة الطرف الأغر. بدت كأنها سائحة وسط الوجوه الصارمة. تستطيع قراءة بعض اللافتات المرفوعة: امنعوا القنبلة؛ اصنعوا الحب لا الحرب؛ النصر للفيتكونغ.
منذ اتفاق السلام، هبط هدوء غريب على أيام السبت. تتساءل أحيانا أثناء تنزهها في أماكن التجمع السابقة: اين ذهب آلاف المشاركين في الاحتجاجات ضد حرب فيتنام ؟ كم ظل منظموها دؤوبين على عملهم لسنوات ؟ ذهبت ذات مرة مع ستيفن للمشاركة في التحضير لاعتصام تعده “لجنة التضامن مع فيتنام”. لا بد أن المكان هو بيت أحد المنظمين الساكنين في منطقة هاكني. أدهشها التعاون بين الحاضرين الشباب. بدوا كأنهم خلية نحل في تقسيم المهام بينهم. علمت من بعد أنهم من تنظيمات يسارية متنازعة : فوضويون وتروتسكيون وموسكوفيون ونقابيون وغرامشيون.
كان أحدهم يعد اللافتات الكرتونية المثبتة فوق عصي خشبية رقيقة. التقطت عيناها أحد الشعارات الغريبة ضد النابالم: “اسكب غالون بترول فوق طفلك. دعه يحترق.” كان صوت بوب ديلان يأتي واهيا من غرفة أخرى ممزوجا بضحكات نسائية مسترخية.
في طريق عودتهما إلى البيت ابدت دهشتها لعمل الفوضويين المنظم. قال ستيفن بنبرة محايدة ظاهريا : إنها الفوضى الخلاقة حبيبتي.
* * *
لم يأت لقاؤها الاول بستيفن إلا بفضل تعاضد جملة مصادفات غريبة، جعلتها تتشبث بالتواصل معه، كأن هناك قوى شاركت في صياغتها. قوى غامضة، رؤوم، كرست نفسها لإخراجها عن سياق مستقبلها المرسوم لها بدقة، وما عليها إلا أن تغمض عينيها، وتسلمها القياد.
كان فصح 1964 رماديا وباردا بشكل استثنائي، وفي الخارج ظل المطر دؤوبا وغزيرا، تعمق نقراته الرتيبة فوق زجاج النوافذ شعورا بأزليته. كم تكشف هذه الصورة الملتقطة لها مع طبيب آخر وممرضتين نوعا من الكآبة الخاصة بالطقس البريطاني: حالة تجمع ما بين الاستسلام الكامل له واليأس من مشاهدة الشمس ثانية. تستطيع تلمس تلك المشاعر المشتركة فوق الأعين، حتى مع اضواء النيون الساطعة وحلول قيامة الأحد والابتسامات المصطنعة أمام الكاميرا.
لعلها ندمت قليلا آنذاك لموافقتها على طلب زميلتها الأيرلندية. قبل حلول الجمعة الحزينة بيومين فقط، التمست ماري منها تغطية فترة نوبتها المجدوَلة لعطلة الفصح. فصديقها وافق أخيرا على زيارة أسرتها في يوم القيامة. قالت ضاحكة: إنها فرصة ذهبية قبل أن يبدل رأيه. وكان عليها السفر إلى دبلن مساء الخميس لتهيئة الجو المناسب في بيت أهلها.
لكن ندمها الحقيقي كان ضياع فرصة سفرها إلى أبو ظبي. تخيلت نفسها مرارا جالسة هناك في شرفة تطل على الخليج، تحت سماء صافية وشمس مشرقة تماما.
كان مقررا أن تتم خطبتها في تلك الرحلة إلى طبيب أكمل هو الآخر دراسته في إنجلترا، ثم حصل على عقد عمل مغرٍ في أبو ظبي.
حينما أخبرها الأب في رسالته الأخيرة عن طلب سمير ليدها منه، لم تجد سببا في داخلها لرفضه. فعلى قلة لقاءاتها به خلال زياراتها لأهلها، ظلت مشاعرها تجاهه محايدة. كان الحديث بينهما يدور دائما بحضور أفراد من أسرتها، ودائما يدور حول دراستها أو حول عمله. أخبرها ذات مرة أنه يطمح للاستقرار في انجلترا بعد تكوين ثروة مناسبة في أبو ظبي. لعل ذلك يقتضي عشرة أعوام عمل أخرى هناك.
بعد ترتيب نوبات عملها مع زميلين وحصولها على إجازة من إدارة المستشفى وصلتها برقية عاجلة من الأب، جعلتها تلغي فكرة السفر: الخطبة تأجلت. توفي جدّ سمير أمس.
بدلا من ذلك، اتفقت الأسرتان على قضاء العطلة الصيفية في لندن، بعد انتهاء فترة الحداد. هنا ستتم الخطبة وعقد القران معا، وحال انتهاء فترة تطبيقها الطبي في منتصف أيلول، ستسافر نهائيا إلى أبو ظبي.
تنتقل أصابعها إلى إحدى الصور التي جلبتها بيداء لها: ها هي جالسة على سلم قصير يربط ما بين مبنى المدرسة والحديقة، وإلى جوارها جلست أربع فتيات. لا بدّ أنهن كن الأقرب إليها. أدهشتها استدارة رؤوسهن المتماثلة قليلا لمواجهة الكاميرا. كم بدت تلك النظرة الحالمة الحزينة متماثلة أيضا فوق اعينهن. بمَ كن يفكرن؟ وأي حديث دار بينهن قبل الجلوس على السلالم والاستسلام كليا إلى عدسة الكاميرا؟ راودتها فكرة غامضة: إنها على متن قطار سريع في رحلة ذهاب فقط، وكل لحظة هي صورة فوتوغرافية تبتعد عنها أكثر فأكثر.
يظهر ستيفن أمامها في صورة أخرى. أين التقطتها له؟ على الأكثر في حديقة “ريجنت بارك”، ومن ملابسه تستطيع تحديد الموسم: إنه الصيف. قميص من حرير اصطناعي بياقة قصيرة وسروال تشارلستون عريض النهايتين.
عند دخولها القاعة، لم تنتبه إليه مباشرة. انشغلت تماما في فحص المرضى الأربعة المقابلين له، ولا بد أنه وجد الوقت الكافي آنذاك لحفظ تقاطيع وجهها.
ظلت عيناها منشغلتين بقراءة سجل ستيفن الطبي، حتى عند توقفها جنب سريره، بينما انشغلت ممرضتها بحديث ودي معه. “عيد فصح سعيد… تبدو اليوم أحسن بكثير.”
كيف تستطيع الآن العثور على الكلمات لوصف ما عصف بها لحظة رفع رأسها صوبه. وصلها صوته أولا كنفحة هواء دافئ، لا صلة له بذلك الصباح الكابي الساكن وراء زجاج النافذة المغلقة، لا صلة له بآهات المرضى العجائز وراءها. شعرت بارتعاش في جسدها، لحظة تصادم بصريهما، دفعها إلى شد اللوحة أكثر إلى صدرها، سعيا لإخفاء ما اعتراها.
سأل ستيفن في أثناء قياسها لضغط دمه: “متى سأخرج من المستشفى؟” قالت وهي تتجنب النظر إليه بينما أمسكت يدها اليمنى بكوع ذراعه اليسرى: “غدا إذا احببت.”
قبل مغادرة سريره وقعت عيناها عرَضا على الكومودينو المجاور له. حيث استقر دفتر للتخطيطات وكتاب ذو غلاف من المقوى. شدها فضول لمعرفة عنوانه، ولم تصدق عيناها أولا حينما التقطت “الليالي العربية”. حضرتها للحظة سلسلة المصادفات التي آلت إلى ذلك اللقاء. “الليالي العربية”: هل هي خاتمة لها أم بداية لسلسلة أخرى؟
“في بدايتي نهايتي”.
سألته بطريقة كأنها لا تنتظر إجابة منه: “أين وصلت مع كتابك؟” “أنا في بداية حكاية علاء الدين، لحظة عثوره على المصباح السحري”. قال بعد صمت قصير.
استدرك، مذكرا إياها بأنه لم ينس اسمها الذي أعلنت الممرضة عنه، عند وصولهما إليه: “ما الذي سيجري لعلاء الدين على يد المغربي الساحر؟”
* * *
حتى بعد انجلاء الغموض عما حدث في بغداد، ظلت الأم حريصة على إعداد وجبات الطعام في أوقاتها، وظلت شديدة الحرص على العناية بالزوار المعزين.
هل كانت جاهلة بحقيقة انقطاع سبل العودة إلى العراق أمامهم؛ بحقيقة ضياع كل ممتلكاتهم هناك؟ أم لعله ذلك الاستسلام القدري الذي تشربت به منذ طفولتها؟ في كل خطوات حياتها كانت هناك أيد رؤوم تنقلها من حال إلى حال أحسن، ولا بد أن هذه الأيدي لن تتخلى عنها فجأة الآن.
“قل لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.” كم أصبحت تلك الآية ملازمة فوق لسانها آنذاك، بعد أن كررها الزوار كثيرا. لا تتذكر متى انفجر الأب في وجهها. لا بد أن أمها كانت تحمل صينية طعام صغيرة، وواقفة بجانب باب غرفة النوم المغلقة، حيث راحت تطرقه بإصرار. ومن غرفة الطعام سمعت شهرزاد، اصوات ارتطام صحون وملاعق بعضها ببعض. ارتفع صوت أبيها بطريقة لم تسمعها من قبل. كان غاضبا، متحشرجا ومهزوما تماما: “هل فهمت من هم رجال العهد البائد؟ إنهم نحن الاشرار الذين يجب إزالة أي أثر لهم، ومحوهم من ذاكرة الأحياء…”
حاول الأب تنظيم حفل تأبيني لضحايا الانقلاب في مسجد ريجنت بارك، لكن إدارته رفضت، وحينما تمكن أخيرا من حجز قاعة متواضعة في أطراف لندن، فوجئ بعدد الحاضرين الضئيل.
قال الأب بعد عودته إلى الفندق بنبرة هازئة: “أين ذهب مئات الطلبة المبعوثين الذين كانوا يحضرون بانتظام حفلات السفارة ؟”
لكنها ذهبت معه إلى حفل تأبيني آخر جرى في كنيسة.
وفي هذه المرة، كانت القاعة المتواضعة مملوءة بالمعزين، بل احتشد آخرون وقوفا بالقرب من الباب. ما أدهشها كثرة عصي المشي التي حملها عدد كبير من الحاضرين، في أثناء تقدمهم الثقيل صوب مقاعدهم. بدوا لها في كبريائهم وثيابهم العريقة جزءا من عالم أوشك على الاختفاء: امبراطورية لم تكن الشمس لتغيب عنها.
لم يحضر إلا عدد قليل من العراقيين ضاعوا وسط ذلك الحشد الكبير من المسؤولين البريطانيين السابقين. تمكن أبوها أن يميز بعضا من أولئك الذين عملوا في العراق بعد تأسيس النظام الملكي، حتى بعد انقضاء عقود على عودتهم إلى بريطانيا. هل قرأت فوق عينيه توقا لزمن منطفئ آخر، وهو يشير إلى شيخ نحيل وشاحب لكنه ما زال يحتفظ بقامة مستقيمة؟ “إنه الكولونيل بِيرْس جويس،” قال أبوها، “هل حدثتك عنه؟ كان من الذين قاتلوا مع لورنس إلى جانب الملك فيصل الأول ونوري السعيد ضد العثمانيين، وشارك في تدريب الجيش العراقي.”
بدا الجو على رصانته خفيفا. ولعل ذلك بفضل خاصية يتميز بها الانجليز: القدرة على جعل الحقائق البشعة تختفي بطريقة سحرية، عن طريق التظاهر بعدم وجودها.
كانت للخطباء علاقة ما على الأقل بواحد من المغدورين الثلاثة، الذين كان الانقلابيون حريصين جدا على قتلهم معا. وبدلا من التحدث عن هول اليوم الأخير من حياتهم، استرجعوا لحظات جمعتهم بهم في أوقات هانئة أخرى. لعلهم كانوا حريصين على رسم صورة مشتركة لهم تتسم بأهم صفة انسانية يظن الكثير من الانجليز أنها امتياز خاص بهم: روح الدعابة.
تشكل في نفسها، للحظة، انطباع غامض: كأن الضحايا بريطانيون لا صلة لهم بالعراق.
بدت الخطب لها نوعا من الامتاع. أو ربما نوعا من العزاء. وسيلة لامتصاص ذلك الحزن المشترك في نفوس الحاضرين. وها هي اللغة تعيد الموتى إلى الحياة بطريقة ما: كائنات أثيرية شاركت ذات يوم في تجميل حياتهم، وما زالت حاضرة معهم.
هل جاءتها هذه الفكرة وهي تتطلع في الوجوه المحيطة بها عند الخروج إلى الباحة الخلفية؟ خلال سنوات قليلة لن يبقى الكثير من الحاضرين على قيد الحياة.
تقدمت امرأة أنيقة صوبهما برفقة أحد منظمي الحفل. بدت لها بعصاها وقبعتها العريقتين جزءا من ماض لا وجود له إلا في روايات جين أوستن. بدا جسدها شديد الهشاشة تعتوره رعشة العمرالمتقدم. “الليدي ريتشموند،” قال المرافق وهو يقدمها إلى أبيها، “إنها اخت جيرترود بيل”.
* * *
شعرت عند وصولها إلى المستشفى صباحا برغبة عارمة في زيارة المرضى الداخليين، لكنها ظلت تؤجل جولتها بينهم. شيء ما اخترق مسار حياتها وعليها أن تتخلص منه قبل استفحاله. لم تنم ليلتها السابقة، أو لعلها نامت بشكل متقطع، على ايقاع نقرات المطر.
كيف تستطيع تبرير التحول الذي طرأ عليها آنذاك؟ كم مرة قلَّبت ملف ستيفن الطبي؟ سبب البقاء فى المستشفى: آلام شديدة في البطن؛ العارض: التهاب حاد في الزائدة الدودية؛ العلاج: تدخل جراحي طارئ ؛ العمر: 21 سنة. أصغر منها بعامين؛ المهنة: موسيقي.
مثلما توقعت، لم تجده في القاعة. كان سريره فارغا ومرتبا بانتظار قدوم مريض آخر. مع ذلك، وعلى عكس ما توقعته، غمرها شعور بخيبة من نوع خاص. خيبة تحقق ما توقعت حدوثه.
كيف سيكون رد فعلها لو أنه انتظر قدومها؟ على الأكثر، سينطفئ ذلك التوق المجنون الذي لم تعرف له مثيلا من قبل.
حينما عادت إلى العيادة وجدت فوق مكتبها مظروفا كبيرا. وعلى واجهته قرأت اسمها الكامل بخط يد مرتبك.
كانت صورة غريبة لها بقلم الفحم. بدت بملابسها وحليها المنتقاة من عصور قديمة أشبه بشهرزاد الأصلية، ولعل ذلك الرجل الخالي من الملامح والجالس فوق سرير عال كان شهريار. بين يديها وضِع مصباح علاء الدين الشهير، بحجم أكبر مما هو عليه في الحكاية، وأمامها وقف المارد مغلفا بالضباب. ومثلما هو الحال في القصص المصورة نُقشت كلماته داخل إطار صغير قريب منه: شبَّيك لُبَّيْك…عبدك بين يديك.
على ظهر الصورة كتب ستيفن كلمات قليلة مرفقة برقم هاتف: سيكون رائعا لو التقينا لتناول القهوة معا.
لكن لقاءهما لم ينته بالقهوة.
ها هي لندن أخرى تنفتح أمامها معه. فتستجيب لها روح أخرى ظلت جاثمة بين ضلوعها، تنتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على مسار حياتها المستقيم.
يقودها ستيفن إلى أماكن لم تظن يوما أنها موجودة على أرض الواقع.
نادي “الأجسام الطائرة المجهولة”.
تتبعه إلى ذلك السرداب المعتم في توتنهام كورت رود. وحينما تتردد قدماها في الهبوط أكثر صوبه، تسحبها يد ستيفن برفق مُطَمْئنةً.
اندفعت نبضات قلبها بعنف لحظة عبورها الباب على موسيقى صاخبة. انتابها شعور أن ما يفصلها عن الشارع العام لا مجرد عشر سلالم قصيرة بل أميال تحت الأرض.
تستطيع حتى الآن في لحظات صفاء نادرة أن تشم رائحة هواء الصالة المشبع بدخان الحشيش، رائحة نفاذة ظلت تلازمها أينما ذهبت مع ستيفن.
فاجأها عدد الحاضرين. كانوا في كل مكان. جلس بعضهم على الأرضية الخشبية. وبعضهم حول الطاولات، بينما انشغل آخرون بالرقص في حلبة صغيرة. تتذكر تلك المرآة الكروية فوق رؤوسهم، حيث انعكست فوقها أشعة ضوئية ملونة، في هيئة بقع مشعة تنتشر، بين لحظة وأخرى، فوق ملابسهم ووجوههم وأذرعهم المتحركة.
بعد فاصل الاستراحة، اعلن عريف الحفل بحماس عن العرض اللاحق: “عالم آرثر براون المجنون”.
دب نشاط مفاجئ في عروق الحاضرين.
بل حتى أولئك الذين كانوا جالسين على السلالم الموصلة إلى الشارع، التماسا لهواء نقي، عادوا مسرعين على صراخ المغني: “أنا إله نار الجحيم، وأنا أجلبك اليها”. ليمضي في الغناء بإيقاع رتيب، شبيه بنبضات القلب، بينما راح وجهه المكسو بالأصباغ يتحرك كروبوت بانتظام سريع يمينا ويسارا، ومعه راحت ذراعاه تتحركان باتجاه معاكس.
سكنها خوف على المغني وهي تراقب النار الحقيقية المنبعثة من قمة خوذته المعدنية. كانت في هيئة تاج مزود بقرنين، فجعلته شبيها بصور الشياطين التي تخيلها رسامو االقرون الوسطى، حيث النيران تحيط بها. لكنها الآن نيران وهمية صنعها مهندس إضاءة بارع، جنبا إلى جنب، مع دخان وهمي عائم فوق المنصة الخشبية.
اندفع المحيطون بها يرددون لازمة الاغنية بصوت عال كلما عاد آرثر براون لها: “النار، سآخذك إليها لتحترق .. النار، سآخذك إليها لتتعلم … سأراك وأنت تحترق”، بالمقابل حل الانخطاف ببعضهم إلى درجة مضت أجسادهم عندها تتلوى في تلك المنطقة المعتمة المجاورة للمنصة، صعودا ونزولا بحركة إيقاعية لا إرادية. ومن موقعها بدوا لها صورا مظللة، ذات خلفية منذرة بحلول الساعة.
حينما سألها ستيفن عن رأيها بذلك العرض اكتفت بهز رأسها:”كان حسنا”. لا بد أنه قرأ انطباعا سلبيا على وجهها جعله يدافع عن الأغنية من دون سعي لقسر قناعته عليها: “يعتبرها البعض هجاء ساخرا للرأسمالية، ولإنسانها ذي البعد الواحد المحكوم بعبودية العمل والاستهلاك.” أضاف متداركا: “إنها في نهاية المطاف امتاع فقط.”
لكن استهلاكا من نوع آخر فتح ستيفن بابه لها.
فبدلا من محلات شارع اكسفورد الفاخرة، كانت ترافقه في جولات السبت بين أسواق السلع المستعملة.
تتلمس فوق صورتين ملصقتين في صفحة واحدة من ألبومها، التحول الكبير في موضات الشعر والملابس والحلي والأحذية والماكياج.
يجب أن يوحي كل شيء بعاديته ووقتيته، على عكس ما توحي به المنتجات الصناعية من فخامة وديمومة.
بدلا من الشعر القصير الذي يتطلب شده بـ “الرولات” كل ليلة للحفاظ على تموجاته، ساد الشعر المتروك على طبيعته إلى مستوى الكتف؛ وبدلا من التنورات الطويلة المصنوعة من أقمشة ناعمة وغالية، حلت محلها تنورات ضيقة وشديدة القصر من قماش الدنيم الخشن.
لعل سروال الجينز الذي ظهر في إحدى الصورتين هو الأول الذي ارتدته في حياتها.
علّمها ستيفن كيف تجعله ضيقا: الجلوس به وسط حوض مملوء بالماء. وللتخلص من قيمة الكمال السطحي الذي توهم الرأسمالية بوجوده في سلعها، علّمها كيف تشرطه في أماكن بارزة ثم تعيد شد خيوطه.
الهدف من كل ذلك إزالة التميز. أو بالأحرى التميز عبر التظاهر بعكسه.
لكن ستيفن ورفاقه لم يعتبروا عقار “أل أس دي” سلعة رأسمالية تلبي حاجة مصطنعة، بل وسيلة لرحلة تؤول إلى فردوس من نوع خاص: فردوس موت الأنا المؤقت، كما يسميها اندرو، عازف الجيتار الأول في فرقة ستيفن، حينما تزول الحواجز ما بين الذات والعالم الخارجي. أو كما قال ستيفن إنه حفار قبر النظام الرأسمالي، فبفضله سيصحو البشر على قيودهم.
ذهبت معه لزيارة صديق، سافر والداه الثريان لقضاء عطلة كريسماس في إيطاليا، وتركا له شقتهما الفاخرة في تشيلسي.
وهناك شاهدت عددا من اصدقاء ستيفن.
في صالة الاستقبال الفسيحة انقسم الحاضرون إلى ثلاث مجموعات. ضمت إحداها عددا من الذكور الذين جلسوا في زاوية منعزلة. بدوا لها كأنهم تحت سلطان منوم مغناطيسي، وهم يتابعون باندهاش شديد ذبابة كبيرة تتحرك فوق السقف من دون أن تسقط.
تتذكر تلك الاغنية التي ظلت تتكرر عبر سماعات مخفية داخل الجدران. أثار صراخ النوارس فيها شعورين متعارضين: اضطرابا خفيا منها وانشدادا قويا لها. تمكنت من تمييز صوت جون لينن على الرغم من غرابته: بدا كأنه قادم عبر جدار، وهو يخاطب أولئك الذين نزلوا للتو إلى قاع اللاشعور بفضل عقار أل أس دي: .اغلق عقلك، استرخ وعُم فوق التيار، إنه ليس احتضارا، إنه ليس احتضارا.”
من مكان مجهول ظهرت لهم فتاة، يتبعها شاب. بدا كلاهما مسترخيين. أو لعل خجلا ما انتابهما عند عودتهما إلى الصالة. إذ كيف يمكن تبرير شد أذرعهما على صدريهما؟ سألت إحدى الجالسات الفتاة عند اقترابها من الكنبة الكبيرة: كيف كان مستوى الأورغازم؟ فما كان منها إلا أن مدت يدها اليمنى لتحركها يمينا ويسارا ، كطير محلق، قبل أن تطلق عبارتها بفرنسية ثقيلة : نُصْ نُصْ.
لا تستبعد أنها قرأت اسم ولهلم رايخ لأول مرة في تلك الشقة حينما وقعت عيناها على كتابه: وظيفة الأورغازم، ملقى فوق إحدى الطاولات. وفي مقهى بارتيزان شاهدت اسمه ثانية. كان هناك إعلان عن محاضرة حول طاقة الأورغون، بمناسبة مرور عشرة أعوام على وفاة مكتشفها.
كانت القاعة غاصة بالحاضرين. ولم تكتشف مباشرة أنها في الكنيسة نفسها التي احتضنت حفل تأبين ضحايا 14 تموز. بدا المكان أصغر من صورته في ذاكرتها، احدث، وأكثر إضاءة. لكن شعورها بقدم تلك المناسبة تعمق أكثر فأكثر وهي تتلفت حولها. ماذا سيحدث لأولئك المسنين لو أنهم شاهدوا آنذاك فتيات يرتدين سراويل أو تنورات “ميني جوب”؟ لا بد أن أكثر من نصفهم سيصاب بسكتة قلبية فورا.
مع ذلك فوجئت بالمحاضر مرتديا بذلة انيقة وربطة عنق زرقاء.
بدا لها ممثلا تجاريا لشركة أكثر منه أكاديميا.
أورغون: اشتقاق من أورغازم: لحظة الذروة. حينما يحرر الذكر المنتفخ، قدرا من اللبيدو، سبق لرايخ أن قاسه في الثلاثينات، فوجده مشحونا بالكهرباء، ثم اطلق عليه لاحقا اسم طاقة الأورغون.
تلفتوا حولكم. هناك في اقصى الكون، تولد مجرة ما بفضل تراكب تيارين عملاقين من هذه الطاقة. يكفيكم أن ترصدوا حركة المجرات اللولبية لتكتشفوا تفاعل تيارات الأورغون. كذلك هو الحال مع نشوء الأعاصير.
طاقة الأورغون وراء كل عمليات الخلق في الكون. فهي تبطن كل الظواهر الحية والجامدة.
لكن المحاضر ذهب خطوة أبعد: الجماع هو التعبير الأساس لوظيفة تراكب هذه الطاقة في الطبيعة الحية، تياران منفصلان من طاقة الاورغون يجريان معا ثم يتراكبان في لحظة الأورغازم، ليتحررا خارج الجسدين، مُطلقين معهما كمّا كثيفا من المشاعر.
كذلك يمكننا التحكم بكمية الغيوم حسب حاجتنا للأمطار بفضل هذه الطاقة.
صنع رايخ أجهزة لترويض الغيوم.
أظهر المحاضر صورا عبر بروجكتر. “انظروا إلى هذه الغيمة قبل تسليط الجهاز صوبها، ثم انظروا إلى الفراغ الذي تركته وراءها بعد ذلك.”
“لكن ما الذي يمكن فعله للأراضي العطشى؟” سأل أحد الحاضرين، “هل فكر رايخ بها؟” “بالتأكيد،” قال المحاضر، “نسيت أن أخبركم أنه صنع أجهزة ترويض أخرى للغيوم تنقلها من مكان إلى آخر.”
* * *
جذبتها صورة أخرى محشورة وسط الألبوم: هي وبيداء وعبدل، عند بوابة بلدية “كِنغز كروس”. لا بد أن صالح التقطها بعد مغادرتهم مكتب تسجيل الزواج مباشرة. قال عبدل بحماس وهو يسلمه كاميرته: “سأبعث بنسخة منها إلى اهل بيداء. إنها صورة عائلية.”
لازمها شعور غريب منذ لحظة دخولها المبنى. هل هو مزيج من ضيق وندم؟ لم تخبر العريسين أنها هي الأخرى حضرت إلى هنا مع ستيفن قبلهما بسنوات، وأن المكان لم يتغير عما كان عليه آنذاك: الكنبات الصفراء والورود الاصطناعية نفسها.
«كل شيء هنا يشبه مكاتب دفن الموتى باستثناء مصابيح النيون،» قال ستيفن متهكما، «هذا أقصى ما يستطيع الانجليز فعله في التعبير عن أفراحهم.»
لكن اصدقاءه جلبوا فرقة موسيقية نحاسية، لتعزف هنا أمام مبنى البلدية، بعد تسجيل زواجهما، بقرب البقعة التي التقطت فيها هذه الصورة.
تتذكر قدوم شرطيين صوبهم، ولا بد أن أكثر الحاضرين اعتادوا على غارات الشرطة، بين الحين والآخر، بحثا عن المخدرات عندهم. أما في هذه المرة، فاكتفى الزائران بتوزيع الابتسامات ومصافحة الأيدي مقابل تقليص وقت الموسيقى وانصراف الحشد المحتفل من الشارع بفترة أقصر.
ظل مشهد رجال الشرطة المرافقين لمظاهرات لندن مثيرا لاستغرابها. كأن هناك اتفاقا مشتركا بين الطرفين لتقديم عرض منظم وخال من العنف، ليعود الجميع في آخر النهار إلى حياتهم السابقة.
حدثت مواجهة وحيدة أمامها: حينما حاول المتظاهرون احتلال السفارة الأميركية تضامنا مع الفيتكونغ. كانت تقف في الصفوف الخلفية مع ستيفن وريتشارد. ومن موقعها شاهدت، لأول مرة، عددا هائلا من رجال الشرطة حول المبنى. لم تصدق عينيها حينما رأت بعضهم يندفعون بقوة على ظهور الخيول صوب الحشود، ولم يمض وقت طويل قبل قدوم سيارات الإسعاف.
في الليل سكنتها الهواجس. لا بد أنها شاهدت في منامها صورا قديمة من بغداد: شوارع مهجورة، مفروشة بأحجار صغيرة استخدمها المتظاهرون ضد الشرطة؛ واجهات زجاجية مهشمة؛ أسلاك كهرباء مقطوعة؛ سيارات محروقة.
لكن دهشتها تضاعفت في صباح اليوم اللاحق، حينما وجدت كل شيء على حاله في منطقتها، بينما لم تكرس صحف الأحد للمظاهرة أكثر من صفحة واحدة. لا تتذكر في أي صحيفة شاهدت تلك الصورة: فتاة تجاهد للإفلات من قبضة رجلي شرطة يحملانها في وقت ارتفعت تنورتها الأنيقة إلى أعلى، كاشفة عن جوربيها ورباطيهما وسروالها الداخلي.
لم تسقط الحكومة مثلما كان الحال عليه في العراق بعد كل مظاهرة، ولم تُعلن الأحكام العرفية، ولم يُقتل أحد.
بل إن جمهورا عريضا تعاطف مع الخيول التي أصيبت خلال المواجهات. قال ستيفن بعد أيام إن الشرطة تسلمت مئات الرسائل تستفسر عن صحتها.
ظل أبوها أسيرا لكآبة حادة أشهرا بعد الانقلاب. كانت تصلهم، من وقت إلى آخر، أخبار المحاكمات لموظفي الدولة الكبار. سمعوا أنهم اصبحوا أبطالا لمسلسل هزلي يتابعه الناس بشغف على شاشات التلفزيون.
قال الأب: “الهدف الحقيقي هو فرض النسيان لمرحلة بأكملها.”
لكنه فاجأها ذات مرة بفكرة غريبة: “مس بيل أخطأت في جلب فيصل الاول من الحجاز وفرضه على العراقيين.” قال متحسرا: “ستكون النتيجة مختلفة لو سمحت لعراقي قوي باعتلاء العرش: طالب النقيب مثلا… إنه حبها الأعمى له وراء مصائبنا اليوم.”
* * *
غمرها هاجس غريب حينما التفتت إلى ستيفن، حال إعلان عريف الحفل عن خبر مفاجئ: وفاة برايان ابستاين.
كانا يحضران حفلة لجيمي هيندريكس في مسرح سافيل. ولم تعرف اهمية المتوفى أو سبب الآهة المشتركة التي أطلقها الجمهور معا، قبل أن يهمس ستيفن في أذنها: إنه صانع ظاهرة البيتلز.
قرأت لاحقا عن سبب الوفاة، عبارة تجميلية، ظلت تتكرر آنذاك مرارا: «تناول جرعة عقار مفرطة.»
هل كان إفراطا في حبوب الامفيتامين؟ في الـ “ال أس دي”؟ في الحبوب المنومة؟
عزا الطبيب الجنائي أيضا، موت مس بيل إلى تناول جرعة مفرطة من عقار منوم اسمه دايَل.
«كان ذلك في صيف 1926، ببغداد،» قال الأب، «قبل يومين فقط من عيد ميلادها الثامن والخمسين.» لعل القرار جاء في ساعة متأخرة من الليل، إذ كيف يمكن تفسير طلبها من الخادمة ماري أن توقظها عند السادسة؟
قال ستيفن: «ابستاين حوّل البيتلز من نكرة إلى أشهر فرقة على سطح الأرض.»
أخرجت صورة أعطاها الأب: فيصل الأول لحظة تنصيبه ملكا، يحوطه ثلاثة ضباط بريطانيين كبار. أشار أبوها آنذاك إلى رجل ستيني طويل ونحيل بملابس تشريفات أنيقة: «إنه برسي كوكس رئيس المفوضية البريطانية للعراق»
لعل فيصل الأول كان يفكر في تلك اللحظة بها: ما الذي دفع السكرتيرة الشرقية إلى المحاججة بقوة بين مسؤولي الاحتلال البريطاني لصالح تنصيبه ملكا على بلد لم يره من قبل حتى في أحلامه؟
لعله كان يبحث بين الحاضرين عن عينيها لكسب قدر من الطمأنة، وسط عالم غريب عليه. ها هي ترمي له بابتسامة تضامن وهزة رأس: أنا هنا معك. لا تخش اي شيء. أنا عملت كل شيء من أجلك. هذا البلد الذي خِطتُ أجزاءه بعضا ببعض ورسمت حدوده وفرضت خارطته على العالم هو لك أمير أحلامي.
لكن الملك الجديد بدأ يبرم شيئا فشيئا من صانعه. مثلما هو الحال مع البيتلز.
بعد انتهائها من كتابة دستور لمملكته المتبناة وتشكيل مجلس نواب وحكومة وتصميم علم خاص، أصبح وجودها في العراق فائضا عن الحاجة.
كذلك هو الحال مع ابستاين، الذي أصبح مجرد موظف مالي لدى أعظم ما ابتكر: فرقة البيتلز.
يحضرها هذا السؤال باستمرار: لماذا لم تعد مس بيل بعد تتويج فيصل الأول إلى انجلترا؟ بدلا من ذلك، قبلت بمنصب أول أمينة متحف عراقي أنشأته بنفسها على ما عثرت عليه من تحفيات.
حارسة آثار بدلا من صانعة ملوك.
كتبت مس بيل إلى أبيها بعد التتويج بأشهر قليلة: «قد تثق بشيء واحد: لن اشترك في صنع الملوك ثانية، إنه عمل جد مجهد.»
حضرتها كلمة تمقتها كثيرا:التقاعد.
ما الذي سيفعله المرء بعد أن يصوغ أقدار أجيال لم تولد بعد؟ العناية بالزهور؟ الحياكة؟ سرد الحكايات الخرافية للأطفال؟
أن يرضى بقدره الجديد كإله متقاعد؟
تكتشف الآن لحظات سعادة أخرى ظلت تعيشها كل يوم من دون أن تدري: لحظات استغراقها الكلي في فحص مرضاها. إنها هنا من أجل هدف واحد: هزم الألم بانتزاعه من شخص مجهول تماما بالنسبة لها.
هل تستطيع القول إن مستشفاها هو العالم الوحيد الذي تجد نفسها جزءا حقيقيا منه؟
في وصيتها تبرعت مس بيل بكل ما تملكه لإنشاء معهد متخصص في الآثار العراقية؛ هل ستتبرع هي أيضا بثروتها المتواضعة للمستشفى؟
* * *
وقعت عيناها على صورة خارج الألبوم. لا بد أنها وضعتها فوق التلفزيون ثم نسيتها. برزت بيداء أمامها ببطن هائلة لا تتناسب مع هيئتها. قال عبدل ضاحكا: هذه هي الصورة الوحيدة التي تظهر حملها. هل تعرفين أنها ظلت تمانع قبل ذلك؟
حينما زاراها لأول مرة ظلت ذاكرتها عاجزة عن استرجاع أي صورة لطفولة ابنة خالها. لكنها اكتشفت فجأة شيئا غريبا شدها إليها: إنها تشبه أمها بشكل مثير للدهشة: العينان والشعر واستدارة الوجه ولون البشرة، بل حتى نبرة الصوت والتردد والرقة. كانت الأم تقول من وقت إلى آخر بفخر: انتم أخذتم كل شيء من ابيكم.
لكنها لم تخبر بيداء باكتشافها. ولم تخبرها بقوة انشدادها إليها.
كان ستيفن يقول متشكيا: أنت لا تعبّرين عن مشاعرك بالكلمات. كيف أعرف إذا كنت راضية أو غاضبة على تصرفاتي؟
لعلها اقتنعت منذ سنوات أن المشاعر عصية على اللغة. خصوصا حينما لا تكون عبر اللغة الأم، وحينما تذوي الأخيرة، يصبح الصمت أفضل حاوية لها.
أو ربما يعود ذلك إلى قناعة ترسخت في نفسها حتى قبل مغادرتها بغداد: اللغة مقبرة المشاعر. حالما تضعها في كلمات تتحول إلى جثة.
مع ذلك كانت أمها تكرر على مسامعها: أنت هكذا منذ طفولتك. لم تكوني تشكين من أي ألم، لكنك كنت عنيدة جدا أيضا، إذا قلتِ لا، يعني لا.
انشغلت امها منذ سنوات ما بين لوس أنجلس وأبو ظبي؛ بين الابن والأب. فأخوها استقر هناك بعد إكمال دراسته الجامعية، أما اختها فانتقلت مع زوجها الطبيب إلى فرانكفورت .
كم أصبحت لقاءاتهم أبعد فأبعد. حينما تتكلم اختها الآن تقول: نحن الألمان. وحينما تلتقي هيلين بطفليها لا تجد معهما لغة للتفاهم.
لكن الكل ظل ملتزما بالتواصل عبر بطاقات التهاني الخاصة بأعياد الميلاد وحلول السنة الجديدة، وملتزم باستخدام صياغات جاهزة مكررة : كل عام وانتم بخير؛ عيد ميلاد سعيد؛ بلقائكم يتم الفرح والسرور…
ايقظ ظهور بيداء المفاجئ فيها شعورا غريبا: الانتماء إلى بقعة ما من العالم. هناك في بغداد، ظل اقاربها يولدون ويكبرون؛ يتزاوجون وينجبون؛ يمرضون ويموتون. وعبر الصور التي جلبتها بيداء معها كانت تستطيع تتبع أقدار أولئك الذين تركتهم وراءها. في صورة ترى طفلا ما، فتسأل عن اسمه وصلته العائلية بها، وفي أخرى تراه رجلا.
اهداها عبدل كاسيتات مغنين لم تسمع عنهم من قبل. ولم تكن تفهم كلمات أغانيهم الريفية إلا بمساعدته أو بمساعدة بيداء أو صالح.
تلاقت أعينهم مندهشة حينما سألت عن مغن شاب صعد نجمه قبل مغادرتها بغداد: ناظم الغزالي. قال عبدل ضاحكا: لقد مات منذ قرن. وماذا حدث لذلك المغني الأنيق الذي شاهدته على شاشة التلفزيون آنذاك: حمدان الساحر؟ قال صالح: اختفى مع مغنين آخرين بعد ثورة 14 تموز.
لم يمض على لقائها الأول بصالح طويلا: قبل وصول بيداء إلى لندن بشهرين فقط.
حينما دعتها ماري إلى حفلة عشاء، لم تخبرها شيئا عن الضيوف، باستثناء قدوم قريبة لها تعمل مدرّسة في معهد تقني.
لكنها أخفت نصف الحقيقة عنها.
فهي كعادتها، تحب عمل المقالب الظريفة بالآخرين، لترى كيف ستكون ردود أفعالهم، بينما تظل تتظاهر بالبراءة، حتى حينما تراهم يسقطون في شراك مكيدتها.
من قريبتها، علمت بوجود شاب عراقي يعمل معها. “كيف هو؟” “لطيف.” “إذن ادعيه معك. تجنبي إخباره أي شيء عن شهرزاد.”
لا بدّ أن ماري ظلت تراقبهما عن كثب، بعد أن عرّفت أحدهما بالآخر.
ولعل فضولا راودها لمعرفة ما ستؤول إليه خدعتها من نتائج: أي مسار جديد ستتبعه ضحيتاها الآن؟