حافة الوهم
لم تتسلل “فريدة”، يوما، الى احلامه، ومن ملامح وجهها لم يبق اي اثر في ذاكرته، عدا خطوط واهنة تبرز، من وقت الى اخر، كومضات خاطفة في خاطره، شيء وحيد خاص بها، ظل مرافقا اياه دائما: صوتها المتحشرج، لحظة انفجاره بضحكة صاخبة او بفكرة غريبة، وكم تحولت آلة الساكسفون الى وسيط ينقله صوبها، فعبر نشيج هذه الآلة النحاسية تحضر فريدة اليه، كذبذبات موجية، اكثر منها صورة بصرية، افتراضاٌ اكثر منه حقيقة، لذلك جاءت رسالتها اليه حدثا خارجا عن سياق حياته، وعسيراٌ على التصديق.
لم تكن على ظرف الرسالة القادمة من الاردن، اية اشارة للمرسل، ولم يكن لديه اي صديق مقيم هناك، لكن حدسا قويا راوده بان كاتب الرسالة امرأة.
اعتاد “رمزي” على الرجوع الى دفاتر العناوين القديمة، من وقت الى اخر، ليبادر بالكتابة الى من انقطعت آصرته به دون اختياره؛ سيكتب الى اولئك الذين التقى بهم في رحلاته، اوالذين درسوا او عملوا معه، بالمقابل لن يستلم الا القليل من الردود، وبعض رسائله ستعود اليه، لتبدل عناوين المرسل اليهم. هذا الشغف بمتابعة مصائر الاخرين، يصب غالبا في معرفة اوضاع النساء اللواتي التقى بهن، لكأنه، وبشكل لاشعوري، يتعرف على مضي الزمن عبرهن، لكن هذا الشغف، نفسه، يمنح للمستقبل رونقا خاصا؛ فتحت امكانية الانغمار بعلاقة عاطفية عابرة، مع احدى مراسلاته، يصبح الغد حافلا بالمفاجأة، وتصبح الرسائل القادمة اليه وعودا غامضة بحد ذاتها.
سيظل، مع ذلك، يتجنب الكتابة اليها، او الاستفسار عنها في رسائله الى اخته، لكأنها منذ ان قررت تركه، كفت عن الوجود في الحاضر؛ بل هي اصبحت، بالنسبة اليه، نقطة ارتكاز وهمية، منتمية الى الماضي. هكذا، ودون اي سبب، ستلتفت اليه وسط الطريق، لتخبره بقرارها: “هل تعلم انني سأتزوج؟” ولم يراوده اي شك بانها كانت تمزح، لم يكن قد مضى على خروجهما من قاعة السينما اكثر من ساعة، وهناك ظلت يدها مستقرة، طيلة عرض الفيلم، فوق يده. “هل تريد ان تعرف شيئا عن تعيس الحظ الذي خطبني؟” وهذا ما جعله على يقين، بانها تحت احدى نوبات الكذب، الهادف الى اختبار مشاعره ، “متى تعرّفتِ عليه؟” فاجابته ضاحكة : “اول البارحة.” وحينما لمحت شحوبا على وجهه قالت مطمْئِنة: “الزواج والحب شيئان مختلفان.. لا اتذكر اين قرأت هذه العبارة او لعلك قلتها لي يوما”.
ستبعث فريدة اليه ببطاقتي دعوة، لحضور حفلة خطبتها؛ واحدة له، وواحدة لاخته
وزوجها، ولن تجعله الملاحظة الخاصة التي اضافتها له فوق البطاقة، يغير من موقفه، فيرافق اخته وصهره: “الى من ادخلني عالم الضوء”. بل هو اندفع مسرعا لاكمال اوراق السفر، متذرعا بنيته في اكمال دراسته، ولن يحل موعد زواج فريدة حتى يكون قد غادر الوطن.
وكعادته، لم يبادر بفض الرسالة الا بعد انقضاء يوم كامل، وبعد بلوغ حمى الفضول ذروتها. كم فاجأته لغتها المحايدة، الخالية من الانفعالات: “منذ فترة طويلة وانا افكر بالكتابة اليك، لكنني لم احصل على عنوانك الا مؤخرا، سانهي اقامتي في عمّان عند نهاية الشهر..” وفي زاوية الورقة كان اسمها مكتوبا بخط ناعم، عسير على القراءة.
في تلك الليلة، استرجع “رمزي” قراءة الرسالة، مرارا، اذ حالما كان يتركها فوق طاولته ويقترب من حدود الكرى، حتى ينبجس في رأسه ضوء شديد السطوع، يدفعه بشكل قسري صوب الرسالة، ليلامس، بانامله، قطرات الحبر الجاف فيها. جاهدَ لاسترجاع صورتها، عبْر تقليد نبرات صوتها، عبر دفع ذاكرته الى ذلك الزمن البعيد، لكن صور الحاضر الغزيرة ظلت ترتد اليه، لتملأ الحجرة المظلمة بشباكها، وحينما تسلل النوم اليه، شاهد نفسه وسط غابة كثيفة، وعلى وجهه استقرت الحيرة : اي طريق عليه ان يتبع؟ لكأنه فقد الحس بالاتجاهات، وما عاد يعرف طريق الخروج منها.
استغرق تهيؤه للسفر يومين فقط: من عمله حصل على اجازة بدون راتب، وبدفع اجر عال لبطاقة الطائرة، استطاع ان يضمن حجزا سريعا. كم بدت الاشياء حوله مضطرمة بالالوان الناصعة. وفي اعماقه استيقظ الماضي من سباته، لا كأحداث، بل كتيار جارف من اصوات وروائح وصور خاطفة، مختلطة بتفاصيل حاضره المتقلبة.
استيقظ الفزع، في نفسه، اخيرا، بعد اقلاع الطائرة. عبر النافذة بدت له السماء الداكنة الزرقة، خلفية محايدة، وتحته راحت الغيوم المعتمة تتلبس اشكالا متقلبة، وحينما اطبقت العتمة على المشهد الخارجي، انتابه شعور بالخواء، كأن رحلته تتجه صوب الماضي، كأن حكما رهيبا ينتظره.
في مطار عمّان، اعادته المصابيح وحركة المسافرين الى الواقع، للحظات قليلة، اثار استغرابه، وجوده في ذلك المكان، كان واقفا في طابور من الاجانب، المتحدثين بلغات مختلفة كثيرة، وحينما تجاوز اخر بوابة مؤدية الى قاعة الانتظار، التقى بها وجها لوجه، ولم ينتابه اي تردد للتعرف عليها، كأنه لم يبتعد عنها سوى بضعة ايام ، بالمقابل، كان رد فعلها خاليا من المبالغة، لم يتجاوز المصافحة وطبع قبلة على خده، لكن تألق عينيها وترقرق نبرات صوتها اوشيا بما كان يعتمل في اعماقها.
قبل ان تنطلق في سيارتها، قالت له، مع ابتسامة واعدة: “لن يستغرق وصولنا الى البيت اكثر من نصف ساعة”. وفي الطريق راحت عيناه تتابعان الشريط الارجواني المتطامن فوق الافق، حيث يتدرج متصاعدا في كثافته اللونية، حتى يختفي في عتمة السماء العارية، بدت له البيوت الحجرية، المعتمة، المنتشرة على جانبي الطريق، مسمّرة في اللازمن. من وقت الى آخر، يأتيه صوتها المرح، بكلمات لارابط بينها، لتضيع وسط ضحكاتها الطفولية، يلتفت اليها، يراقب بروفيلها، بامعان، غمازتها المشرقة، اهدابها الطويلة المبتلة بدموع الاثارة، ترميه بنظرة ساهمة، تنحرف السيارة عن الطريق، لترتج بعنف فوق الحفر، قبل رجوعها الى شارع السيارات.
عصف لقاؤه الاخير، بها، بكل كيانه، متسللا الى كل شرايين ذاكرته. فجأة اختفت فاصلة الزمن العازل بين الحاضر والماضي عن احاسيسه، قال مواصلا حديثه الذي انقطع منذ ذلك اللقاء: “لم تقولي لي ما اسم الشخص الذي ستتزوجينه”. ظهرت تقاطيع الدهشة فوق وجهها، لكنه اوّلها، كشيء من المكر المسرحي الذي تعشق القيام به. اندفع يعيد تفاصيل ذلك اللقاء، جملة جملة، حدثها عن “لوزي” مخرج فيلم “الوسيط” الذي شاهداه قبل قليل، اقترح عليها الذهاب لرؤيته ثانية في الاسبوع المقبل.
لا بد انه نام قليلا في السيارة، اذ حال استيقاظه، كان ضوء النهار ساطعا. خلف مقود السيارة جلست امرأة انيقة، ممتلئة، تراقبه بحنو. قالت له بعد عبارات السلام، بنبرة وقورة، مرحة: “تركناك تنام بسلام، هل رأيت كم تشبهني حذام؟” كان بامكانه ان يشاهد فوق وجهها وبين طيات رقبتها فاصلة الزمن القائمة بينهما.
لم تظهر فريدة اي حرج للقائهما، بل كأنه فرد من اسرتها، التقت به بعد عودته من رحلة طويلة. بين فترات الصمت الطويلة، كانت تمسك بخيط الحديث، لتواصل ما ابتدأته. اخبرته عن موت زوجها، الناجم عن تلف الكبد، عن زواج ابنها الاكبر وهجرته الى كندا، ثم ارته صور الابن وزوجته وطفلهما، ابنها الثاني يفكر باللحاق باخيه حال انتهاء خدمته العسكرية، ومن المطبخ جاء صوت حذام مرحا: لا تقلقي سابقى معك دائما، وعندما احضرت اليهما القهوة كانت قد غيرت ملابسها: من تنورة قصيرة، الى اخرى طويلة، تنتهي عند كاحلي قدميها. قالت فريدة متشكية: هذه هي حالها، كل خمس دقائق تبدل رأيها. قالت حذام: انا مثلك، كلانا من برج الجوزاء، ثم التفتت الى رمزي، سائلة بنبرة متحايلة: اليس كذلك ياعمي؟
عند خروج ابنتها من البيت، انتابه شعور غريب بالارتباك، وحينما التفت اليها، صعقته صورتها الحالية: التسليم الواضح في نبرة صوتها، بدلا من ذلك الفضول الطافح بالفرح والدهشة، الحركة الثقيلة بدلا من الاندفاع المتوثب، انكسار النظرات بدلا من تألقها الدائمي. بين وقت واخر، كان يلمح فوق عينيها، شرارة انفعال تعيدها الى الصورة القائمة عنها في ذاكرته، لكنها لا تلبث ان تختفي، لتحضر امامه المرأة الغريبة نفسها. سألته ان كان قد تزوج، وحينما اجابها بالنفي، سكتت قليلا، لتواصل بنبرة امومية: “عليك ان تفكر بتكوين اسرة قبل فوات الاوان”.
بعد تثاقل الصمت بينهما، فتحت فريدة التلفزيون، ثم راحت تحوك بدون تركيز. من وقت الى اخر، كانت تلقي نظرة على الشاشة المضاءة، معلقة على هذا المشهد او ذاك، فيضيف هو تعليقا مكملا، لافتعال التواصل بينهما، وعند وصول حذام الى البيت، وسماعه صرير الباب الخارجي، شعر كأن طيرا يخفق في كيانه.
في تلك الليلة نفسها حضرت امه المتوفاة اليه عبر الحلم؛ شاهدها وهي تقدم له الماء بكأس ازرق، لم تتبادل معه الكلام، بل خرجت فورا من باب خلفي الى ظلال عريشة العنب. فتح عينيه وسط الظلمة المطبقة. للحظة، نسي اين هو انذاك. اشعل سيجارة، ثم راح يراقب، حركة الجمرة القرمزية.
فجأة، قفز من فراشه، ملسوعا بالجمرة، بعد شروده عن السيجارة، اشعل مصباح الغرفة، فبرزت حقيبته المفتوحة، واشياؤه القليلة المعلقة خلف الباب. التصقت عيناه بصورة حذام الموضوعة فوق الطاولة، وقريبا منها قبعت صورة امها وابيها. قالت له فريدة: “ستنام في غرفة حذام”، وحينما عبّر عن رغبته بالذهاب الى الفندق، احتجت معاتبة: “هذا بيتك”.
تحت وطأة الشعور بالضيق، اندفع لا اراديا صوب اشيائه، ليضعها، بدون ترتيب، في حقيبته. تسلل بحذر خارج البيت، تاركا وراءه رسالة وداع قصيرة. وكم فاجأته النجوم الغزيرة بلمعانها، وخفقاتها المنتظمة، دافعة بخلايا روحه كي تتوافق معها في النبض.
من كتاب “رمية زهر” 1999، دار المدى، دمشق