دروس لؤي عبد الإله

حيدر المحسن

إن البيئات في جميع المناطق التي استعمرها العثمانيون صارت متشابهة وكأنها من نسيج واحد، مع ترقيعات قليلة وألوان متباينة، فالناس يعيشون ويموتون على دين ملوكهم، وكان السلطان واحدا لأربعة قرون، والإنسان يكون نفسه في أيّ بقعة من الإمبراطوريّة.

784

القدس العربي 1 يونيو 2023

حيدر المحسن

قرأتُ هذه القصّة قبل بضع سنين، وحكيتُها لأصدقائي مرّات، وأجّلتُ الكتابةَ عنها، لأن البحث فيها صار بالنسبة إليّ بمرور السنين مثل حلوى يكون الوعد بها أبلغ من تناولها، لكن وجود مؤلّفها بيننا في هذه الأيام، بمناسبة توقيع كتبه في القصة والرّواية والمقالة، استعجلني على المضيّ في قطف هذه الفاكهة النادرة.
غادر لؤي عبد الإله العراق منذ السبعينيات، لكن النأيَ بالمسافة وبالزمان شدّ من أزرِ وشيجته مع وطنه، ذلك أن الرؤية عن طريق عين القلب أصوب من تلك التي ترى ومسكنها الذهن، وهكذا جاءت أعمال الكاتب مثل نهر من الحنين لا ينقطع، إلى جواره يمتدّ نهرٌ ثانٍ من اللامبالاة ومن محاولات التصبّر والنسيان، وتمتدّ بين الرافدين جداول تأخذ من هنا وهنا، ونتيجة لذلك صار السلوان لدى الكاتب لا يختلف كثيرا عن التذكّر، فلا يدري والحال هذه إن كان يعيش يومه في الماضي، أم الحاضر، وهل يأتي الغد من الأمام أم الخلف، من الشرق الذي عاش فيه شبابه أم أن مصدره الغرب الذي تتصرّم عليه السنين فيه مسرعة فلا يستطيع أن يمسك من أيّامه إلا القليل، وفي الوقت نفسه يفرش الماضي زمنه مالئا كلّ شاشة الرؤية، فتتشابه هذه مع الرؤيا، ومن يكون هذا قدره فإن حياته تصير لغزا عليه أن يقضّيها باحثا عن حلّ.
عنوان القصة هو «دروس قديمة» منشورة ضمن مجموعة الكاتب «رمية زهر» الصادرة طبعتها الأولى عام 1998، وتحكي عن ببّغاء اشتراه الأب من السوق دون أن يعرف المكان الذي تربّى فيه، وأمضى الطائر – واسمه سنبل- أيامه الأولى في مكانه الجديد «بصمت مهيب» ولم يقرأ الأب في «صمته وكبريائه الأرستقراطيين سوى البراءة والتهذيب العاليين» ثم حلّ مساء أخذ الببّغاء يسرد فيه للأولاد والبنات في البيت نكتا وحكايات بذيئة «لا أول ولا آخر لها» وعندما تقدّم الليل كان الطائر يشرح كيف يتطارح الرجل والمرأة الغرام في الفراش، ويقدّم دروسا في أنواع البغاء، وما يخدع به الرجال النساء من معسول الكلام، بصوتٍ سارحٍ وطاغٍ يصل جميع من في البيت، وساعة بعد ساعة والليل يتقدّم كانت أعين الأولاد تتفتح «على أسرار الكبار وحقائق الأشياء المختفية وراء المظاهر». عندما حلّ الصباح كان كلّ شيء في البيت مختلفا، حتى الجدران والنوافذ والستائر، والأب لا يستطيع مجابهة أحد من أهل بيته من شدّة حرجه.

إن ما سمعه من الطائر في أول الليل، وما حكته له زوجته من فظائع على لسانه عندما غلبه النوم، يكفي أن يعطيه مبرّرا لسلخ جلده وهو حيّ، لكن طبيعة الأب الهادئة جعلته بعيدا عن أيّ فعل يدلّ على الانفعال والغضب، ثم تبيّن له بعد السّؤال أن ببّغاءه قضى صباه في مواخير البصرة القديمة، ويطلب الأب المكلوم بكبريائه أمام عائلته من أحد أبنائه التخلّص من الطائر بأيّ طريقة: «إذا عدتُ هذا اليوم ووجدته فسأقطّعه أمامكم» يقول الأب مهدّدا، لكن الابن يعزّ عليه الأمر، فيُخفي سنبل في حقيبته المدرسيّة، ويأخذه معه إلى الصفّ. تمضي الحصتان الأُولى والثانية بسلام، ولم يكتشف أمر الطائر أحد، لكن الدرس الثالث هو التاريخ، والمعلّم زياد «كان مثلا أعلى يحتذيه المعلمون الآخرون في فرض النظام داخل غرفة الدرس، وبالنسبة إلينا نحن التلاميذ، كان ممثلا للرعب النّقي، الذي لا يحضر إلا في كوابيسنا».

دخل المعلّم زياد، وقال بنبرةٍ ناريّة: «سكوت!». وأخذ يشرح الدرسَ ويسأل، والتلميذ الذي لا يعرف الجواب أو يخطئ يُعاقب بعصا التوت أو الخيزران أو الرمان، ويقرّر نوعَ العصا نوعُ العقاب. ثم وجّه الأستاذ إلى طلاّب الصفّ سؤالا عن بعض خفايا الثورة الفرنسيّة، وأخطأ الطلاّب في الجواب، وعليه كُتِبَ القِصاصُ على الجميع: «فجأة ارتفع صوته باردا، محشرجا: «سكوت» وحينما التفتنا إليه طالعنا ذلك الغضب الموشّى بابتسامة مَرَضيّة، وكانت يده تحرّك العصا في الهواء، وتراقبان من وقت لآخر نهايتها الحرّة». يقبض الخوف على صدور التلاميذ، ويحلّ صمت قاتل داخل الصفّ، فليس سوى المعجزة تنقذهم من بطش الأستاذ الرهيب. وفجأة يسمع الطلاب: «سكوت!». لكن مصدر الصوت هذه المرّة الطائر المختبئ في الحقيبة. راح سنبل يقلّد صوت أستاذ التاريخ، يطلقه وهو مختنق من أنفه، يسأل ويشرح بطريقة هزليّة، والمعلّم زياد ينظر بعينيه غير مصدّقٍ أن هذا صوته، ثم انطلق الطائر من الحقيبة بعد ذلك محلّقا في فراغ حُجرة الدّرس، وصار هو المعلّم، وقدّم الدرس نفسه والتلاميذ منشرحون وهم يكتمون ضحكهم. ثم أخذ يقرأ عليهم الدروس البذيئة التي أتقنها في المواخير، الشّتائم وطرق اتّصال المرأة مع الرجل في الفراش وفي غرفة العمل والشّارع. انفتح خِطاب الببّغاء في سماء المدرسة لأن قلبه في ما يبدو تفتّح وهو يرى قسوة أستاذ زياد مع طلابه. «وحال إكمال سنبل خطابه، تسلّل من النافذة ليندفع بالطيران الجذل، مختفيا تدريجيا في فضاء ذلك النهار المشعشع بالضوء».

إن طرح السؤال ليس بأقلّ أهميّة عن اكتشاف الحلّ، وكلما ازدادت الأسئلة صار الوجود أكثر غموضا وسحرا، وبالتالي الحياة تكون أكثر إمتاعا. وعندما نستعير أسئلة الكاتب وحلولها المضمرة غالبا، نحسّ كأننا وهبنا حيوات متعدّدة، ذلك أن الإنسان يعيش حياة واحدة، ويعوّض عن جهله بتجارب الآخرين الذين كانوا صادقين إزاء اللحظة النابضة، الأكثر انتماء لا إلى الواقع، وإنما إلى الحدس والغريزة. إن السياسة ليست جزءا من الأدب فحسب، بل هي عماد الحياة كلّها منذ القِدم، والأديب إذن هو رجل السياسة المُراقب أو الحكم، وإليه يعود الجميع في معرفة خفايا اللّعبة، كما إنه لأمر ممكن تماما أن يكون السؤال الذي يطرحه النصّ الأدبيّ منفتحا على حلول عديدة، كلّ واحد منها – السؤال والحلّ – نتعلّم منه درسا في الحياة والحُبّ، يتساوق تماما مع الأحداث والظروف التي عاشها الجيل الذي ينتمي إليه الكاتب.

يمثّل أستاذ زياد الطبقة المتوسّطة التي فتح المؤلّف عينيه عليها، عندما كانت ترفع الراية في المجتمع طوال الثلث الثاني من القرن الماضي، وهي الحقبة الزمنيّة التي سوف تقرّر بواسطة رجالها شكل الحياة في شرقنا الأوسط ووطننا العربي، وسوف يرسم خيار هؤلاء السياسي مستقبل هذه الأرض لقرن كامل منظور، وأمد بعيد لا يعرف أحد كيف ينتهي ومتى. إن البيئات في جميع المناطق التي استعمرها العثمانيون صارت متشابهة وكأنها من نسيج واحد، مع ترقيعات قليلة وألوان متباينة، فالناس يعيشون ويموتون على دين ملوكهم، وكان السلطان واحدا لأربعة قرون، والإنسان يكون نفسه في أيّ بقعة من الإمبراطوريّة. ولغرض دراسة شخصيّة الأستاذ زياد وموقعها في المجتمع، علينا تتبّع جذور الفئة التي يمثّلها، وكانت أصول «الإنتلجنسيا» العربيّة والعثمانيّة هي طبقة (الأفندية) التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبواكير العشرين، في نوع من التقليد الأعمى لأصحاب الدعوة إلى (المشروطية) وكتابة الدستور في الإمبراطورية العثمانية المليئة بالعلل في ذلك الزمان. حاول الأفندية فتح الأبواب واسعة لرياح التغيير المقبلة من الغرب، دون الأخذ بالفارق بين الظلام الذي كان يعيش فيه الشرق، والمدنيّة التي تتأسس بخطى حثيثة في الغرب، ثم تسربل الأفندية وحدهم، دون بقيّة فئات المجتمع، بثياب فيها رائحة الغرب وألوانه، وعاشوا في برج من الأفكار شاهق عن عامة النّاس، فكانوا ينظرون إليهم من وراء حاجز يحجبهم، ويدعونهم (مقروبات) أي ميكروبات – جراثيم ينبغي عدم الاتصال بها أو الاقتراب منها، خاصّة في ما يتعلّق بما يدور في الرأس من أفكار. كان الأفنديّة ينظرون إلى أمور ناسهم الجديّة – الفولكلور والدين- على أنها من سفاسف الأمور، ويتطلّعون إلى قلب نظُم المعيشة بأيّ طريقة، تسوقهم في أفعالهم نظرة تمجيديّة لمعتقدات يقرؤونها على الورق ومستوردة من بقاع قصيّة. هل يمثّل هؤلاء الآباء الروحيّون ما سوف يحمله الأبناء من أفكار يساريّة تدعو إلى القطيعة مع الماضي القديم والجديد والمتوسّط؟ لا يمكن نفي هذا الأمر بالطّبع، كما أن إثباته يحتاج إلى دراسة العزلة الشّديدة التي كانت تعيشها طبقة «الأنتلجنسيا» مخترقةً التاريخ المعاصر في جهاد غريب وعجيب، والذي نتج عنه تنافر تامّ بينها وبين عامّة النّاس، فإذا علمنا أن نسبة العامّة هي الغالبة، استطعنا تقدير نوع الفصام الذي أصبحت تعيشه المجتمعات العربيّة والشرقيّة حتى نهاية القرن الماضي، ويفسّر هذا الأمر الخراب الذي صارت إليه البلدان في هذه السنين لأنها أسلمتْ زمام القيادة إلى أستاذ زياد ورهطه.

هذا الموضوع شائك ومعقّد لأن فيه شرحا لحياة أجيال من ناسنا تعذّبت في حياتها وفي مماتها بلا سبب، ويحتاج إلى مجموعة من الباحثين لغرض تقييمه. أخيرا، لا بدّ أن تفتُر شفتا قارئ قصة «دروس قديمة» عن ابتسامة فيها تهكّم لؤي عبد الإله من مقاربة ما أملاه سنبل على تلاميذه، مع ما في دروس أستاذ زياد من نصب ورعب، فالأولى (القديمة، وهي التي حملت عنوان العمل) تقوّي لديهم غريزة سليمة في إمكانها تحذيرهم من الخطر، بينما ترميهم عصا أستاذ زياد وأسئلته في أتون المحرقة، وتجلدهم في الوقت نفسه إن حاولوا الفرار والنفاذ بجلدهم.

كاتب عراقي

 

 

 

 

 

اقرأ ايضاً