دمشق تحت درجة الصفر

2٬450

الشرق الأوسط، العدد 4843- الاثنين 2/2/1992

(1)

لا بد أن حارة الشيخ محيي الدين ما زالت، كما تركتها آخر مرة، محافظة على إيقاع حياتها الرخيم، ولا بد أن خادم الشيخ ما زال يعيش لحظات سباته اليقظ، وهو جالس فوق تخته الأثري، يتابع من دوامة نصف غيبوبته، وقائع واحداث عصر آخر، مندثر بين طيات غبار متطاير فوق شعاع شمس عابر، مرددا مع نفسه أبيات شيخنا الخالدة تلك:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة           فمرعى لغزلان ودير لرهبان

أدين بدين الحب أنى تناءت               ركائبه فالحب ديني وإيماني

من المؤكد أن رقائق الخبز المنمنم بحبات السمسم الذهبي مازالت متوفرة في حارة الشيخ الاندلسي، وأن رائحتها الأليفة مازالت تتذرى بين جدران أزقتها السادرة دوما في نشوة تأمل خدر، علامة على ذلك العشق الذي خلفه الشيخ محيي الدين وراءه لأبناء حارته. لنسمعه يفسر ما ليس قابلا للتفسير: “الهوى عندنا عبارة عن سقوط الحب في القلب في أول نشأته في قلب المحب لا غير. فإذا ثبت سُمّي ودا، فإذا عانق القلب والأحشاء والخواطر لم يبق فيه شيء إلا تعلق القلب به سمي عشقا، من العشق، وهي اللبلابة المشوكة”.

كان ذلك أول لقاء لي بدمشق..تحت حمى الحنين التي عصفت بي، ولأشهر متلاحقة، للأهل البعيدين، ولبغداد القديمة، للأصدقاء والأقارب، الأحياء منهم والأموات، حملت حقيبة سفر صغيرة ذات صباح، وذهبت إلى مطار “هيثرو” مؤملا النفس بإيجاد طائرة متوجهة إلى أي بلد من بلدان اشرق المتوسطي، وكم كنت محظوظا أن تقلب لي لوحة إقلاع الطائرات، ورقة مكتوبا فوقها: دمشق.

يندفع الطائر المعدني بنا، مخلفا وراءه طبقات حالكة من الغيوم الرمادية والبنية اللون، ليتسلق تدريجيا جبال الضباب والعتمة.

فجأة، يضعنا فوق بحر من القطن يمور دون توقف، ووراءه، بعيدا عنا أضاء الأفق وهج أحمر كعقيق متهشم فوق سطح خزف صيني ناصع البياض.

“نحن متحركون صوب الشمس”، قالت جارتي لطفلها المنهمك في مشاهدة نور الشمس الباهر، عبر نافذة الطائرة الصغيرة، لكنه لم يبذل أي جهد للإصغاء إليها. آنذاك تسرب خوف إلى أنفاسي، إذ مالذي سيحدث لو أن هذا الحنين ليس إلا وهما تصنعه الذاكرة، بتنقية الماضي من منغصاته وجعله فردوسا مضيعا. قالت جارتي بعد أن رأت الصحيفة العربية التي أقرأ بها، وسمعت حديثي المتقطع مع بعض المضيفين من وقت إلى آخر: “لابد أن الجو دافئ الآن في دمشق” ، وحينما أوضحت لها خطأ ظنونها، قالت باستغراب شديد: “لكنها تقع في الصحراء”. سألتها إلى أين هي ذاهبة؟ “إلى الهند”، إذ إن زوجها ينتظرها في “نيودلهي”، حيث سيذهبان من هناك إلى مدينتي “غاوا” و”كلكتا” للبقاء فيهما أربعة أسابيع. هنالك تبدل طائرة ينتظرها في دمشق بعد وصولها مباشرة. سألتني: كم الوقت متقدم هناك؟ قلت ضاحكا، مخاطبا الهواء: “ساعتان فقط”.

كان الجميع منهكا، عند اقترابنا من دمشق، ولكأنهم قد فقدوا الأمل بمغادرة تلك الطائرة الصغيرة المكتظة بالركاب والحقائب، ثانية، مما جعلهم غير آبهين بما ردده أحد المضيفين بثلاث لغات مختلفة عبر مكبر الصوت: “…يتمنى قائد الطائرة ومساعدوه أن تكونوا قد قضيتم رحلة ممتعة على متن خطوطنا الجوية ونتمنى أن نلتقي بكم ثانية…درجة الحرارة في المطار الآن…”

من النافذة الصغيرة، كان ممكنا متابعة الوفر المتساقط بغزارة، كوريقات أزهار الياسمين البيضاء، لكنه ما إن يبلغ الأرض الكونكريتية حتى يذوب كليا، مما يجعل المرء يشك بحقيقة مايراه. كان كل شيء في المطار أصغر مما اعتادت عيناي عليه خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، وأقل كثافة ..البناءات، الأضواء، حركة وسائط النقل الداخلية…ورغم وفرة المنافذ وتعددها، وكثرة العاملين، لكن الإجراءات بطيئة وحذرة، تجعل المرء ينسى آنذاك أن الحرارة قد هبطت تحت الصفر، وتجعله يلعن أمراض الحنين وويلاته.

حينما خلفتُ ورائي بوابة المطار الرئيسية تنفست الصعداء، إذ في تلك اللحظة، فتحت لي كل جنابذ الورد الدمشقي عنابر رحيقها السرية، دفعة واحدة، لتشدني إلى نسغها المتشعب فوق المدينة منذ ثلاثة آلاف سنة أو أكثر.

 

دمشق القديمة: التسكع عبر القرون

ظل الثلج يتساقط فوق الجبال المحيطة بدمشق، غير مكترث بالشمس المشرقة دون انقطاع أو بصحو السماء المتألقة بزرقتها الكثيفة، مما أدى إلى انقطاع الطرق حول المدينة، لكن دمشق، رغم كل شيء، تظل محتفظة بحيويتها، أمام الجزء المتبقي من سورها، والمعاد إصلاحه مؤخرا، فتحت لي يدها اليمنى كي أقرأ الخطوط فوقها. خلفي تمتد الشوارع العريضة المزدحمة بالسيارات والدراجات القادمة من كل صوب، وعلى حواف أرصفتها تطل العمارات المتوسطة الارتفاع، متزاحمة مع بعضها بعضا، إنه الجزء الحديث الذي نما مع الاحتلال الفرنسي، وقام بوضع بنائه المعماري الفرنسي “ايكو شار” في منتصف العشرينات. كان حلم المحتل الفرنسي الاحتفاظ بهيمنته دوما، فسعى إلى بناء دمشق الجديدة على طراز مشابه لباريس. كان البعض يسميها باريس الشرق. لكن هذا الاتساع كان على حساب المدينة الأم التي مضى على ولادتها أكثر من ثلاثة آلاف عام، إذ كما هو معروف فإن الآراميين قاموا ببناء دمشق على نهر العبانة، وجلبوا المياه إليها عبر مجاري محفورة في حجر الكلس وأرسوا قنوات الري حولها. وعندما احتلها “الإسكندر المقدوني” في عام 333 قبل الميلاد، وجد فيها نظاما مدينيا وزراعيا متطورا. كانت بساتينها كثيفة بأشجارها وثمارها، كذلك فإن الآراميين قاموا، عاما بعد عام، بمد المياه أميالا أخرى إلى الصحراء. لكن المدينة عانت الكثير بعد موت “الإسكندر” وتأجج الصراع بين خلفائه لفترة طويلة، حتى احتلال الرومان لها في عام 64 قبل الميلاد. كان العرب النبطيون قد قاموا آنذاك بإرساء دولتهم في “تدمر” قرب نهر الفرات.

دلفتُ إلى سوق الحميدية المسقف، فواجهتني تلك العتمة الخفيفة المختلطة بأشعة الشمس المتفرقة، مخترقة سقفها الحالك، وعلى امتداده ازدهرت آلاف المصابيح. وحالما توقفت قرب أحد المحلات حتى ناداني صاحبه بكياسة ورقة: “تفضل عزيزي، كل شيء تحت أمرك، أي شيء تحبه تلقاه، ولن أبيعك أي شيء إلا بسعر الكلفة، تكرم عينك…”

كان أحد الوجهاء الإغريق ينبه مواطنيه في عصر الرومان من الدمشقيين الذين انتشروا في شتى ربوع الامبراطورية، مدعيا أن بوابا من دمشق له القدرة على احتلال أعلى المناصب وأشرفها، بفضل لسانه. بعد الانتهاء من السوق واجهتني الأعمدة الإغريقية وأقواسها الصخرية، بقايا أثرية لتلك الأروقة المعمدة والسات العريضة.

في عصر الرومان كانت تلك الساحات مكانا يلتقي فيه التجار من شتى أنحاء العالم: العرب القادمون من مكة واليمن وتدمر حاملين معهم الأحجار الكريمةوالتمر والصندل والبخور. الصينيون والفرس والهنود مثقلين بالحرير والبهار وطيور الببغاء الصاخبة، ومن الغرب كان المصريون يأتون إليها لبيع ما في حوزتهم من خشب ولبان معطر وقردة أفريقية.من سوريا يستخرج زيت الزعفران وبلسم فلسطين وجوري دمشق الذي كانت نفحاته الزكية تتبع النساء في كل أرجاء الامبراطورية.

أمشي مسافة قصيرة، فيظهر أمامي المسجد الأموي ممتدا على أرض فسيحة، ومحاطا بسور تختلط في صخوره جميع العصور السابقة. كان قرار الخليفة الأموي “الوليد بن عبد الملك” ببناء الجامع الأموي قد جاء بعد أن بلغ عدد المسلمين، في دمشق، مائتي ألف نسمة، وبعد اتساع الدولة العربية الإسلامية الذي بلغ أوجه بفتح الهند والأندلس وأجزاء واسعة من الامبراطورية البيزنطية، فكان ضروريا أن يكون للعاصمة دمشق مسجدها الكبير.

في عام 634 ميلادية، دخل أبو عبيدة الجراح دمشق من باب الجابية بعد استسلام الروم لجيش العرب المسلمين. ومنذ ذلك الوقت أخذ أبناؤها هويتهم العربية رغم كثرة الغزاة الأجانب الذين مروا، من بعد، بمدينتهم. في ظروف مريرة مرت بها دمشق، هبط عدد سكانها بسبب الأوبئة والحروب والمجازر من ثلاثمائة ألف نسمة إلى ثلاثة آلاف فرد فقط. بين القلعة والمسجد تكثر الورش الصغيرة، ومنها تنبعث روائح الدهون والأصباغ الحريفة، مختلطة بضجيج المكائن الصغيرة، وأحاديث العمال والزبائن والباعة المتجولين. كانت تلك البقعة خندقا مائيا يحيط بالقلعة، لكن المصلح العثماني “مدحت باشا” قام بردمه أثناء فترة ولايته لدمشق التي بدأت في عام 1878، فأعطى مساحة أكبر للحرفيين وأصحاب الحوانيت للتوسع والانتشار. أدور حول الجامع مرتين، تتقاطع معي تلك الأزقة الضيقة تمضي كخطوط مرسومة بمادة أثيرية خضراء ورمادية.

مالذي بقي من مجد دولة الأمويين؟ في مايو من عام 750 وقعت دمشق بيد جيش العباسيين البالغ تعداده 80 ألف جندي. تلاها قتل متواصل للأمويين وتمثيل بشع في جثثهم في كل أنحاء مدن الشرق، على يد خصومهم، بل حتى الموتى لم يسلموا من انتقام المنتصرين. لم ينج من هذه المجزرة سوى حفيد هشام بن عبد الملك، عبد الرحمن الداخل، الذي تمكن من الهرب إلى شمال أفريقيا. خلال خمسة أعوام من التنقل متخفيا عبر دروب شاقة، بين أقوام غرباء عنه، استطاع الوصول إلى الأندلس، وهناك أعاد مجد أجداده ثانية، فانتصبت دمشق، المدينة المفقودة، مرة أخرى أمامه، متقمصة مدنا أخرى: الحمراء، غرناطة، الوادي الكبير…….

 

الصليبيون والمغول

بالقرب من المسجد الأموي تزدحم الإشارات التي تمنحها المدينة بصمت لزوارها، على امتداد سور القلعة، يمكن العابرين أن يمسكوا بأيديهم تلك الكلابات الحديدية المغروزة بالصخر، مرابط للخيول، وإذا أرهف المرء سمعه سيصله لغط الحرس المملوكي ممتزجا بقرقعة حوافر خيولهم وصهيلها المتواصل، فيضطر إلى الالتصاق بالجدار خوفا من سياطهم إن هم اندفعوا زمرا متلاحقة، إلى الطريق العمومي، وكم سيشعر بالراحة حينما يكتشف أن ليس خلفه إلا سيارة أوبل موديل 58. وإذا كان ضغط الحاضر يجعلنا نشك بحقيقة الماضي فإن المكتبة الظاهرية توقظ فينا إحساسا معاكسا، فكما هو معلوم أن ابن “الظاهر بيبرس” قد اشتراها بنقوده بعد مرور سنوات عديدة على وفاة أبيه، ووضعها وقفا للمسلمين، منها ينهلون العلم والمعرفة. وإلى يومنا هذا تضج المكتبة بمخطوطات كثيرة، تنتظر التحقيق والتصحيح، قيل أن ترى النور.

في القرن الثالث عشر، بيع صبي مملوك من الشركس، في أحد أسواق دمشق بثمن 800 درهم، لكن المشتري لم يلبث أن أعاد البضاعة إلى أصحابها لاكتشافه عيبا فيها ، إذ إن شائبة كانت قد أصابت إحدى عيني الغلام المباع. لكن لم يمض وقت طويل حتى تم شراؤه من قيل السلطان المملوكي في مصر الذي منحه اسم “بيبرس”، وبتدرج هذا المملوك في المناصب، وصل إلى مرتبة قائد للجيش. في عام 1260 احتل المغول دمشق بعد هدمهم قلعتها وقبضهم على آخر الأمراء الأيوبيين، لكن السلطان المملوكي “قطز” جمع جيشا كبيرا وواجههم قرب الناصرة، وكانت واحدة من المعارك الحاسمة في التاريخ، إذ لو أن التتار انتصروا، لاستطاعوا احتلال أفريقيا وأوروبا، وربما كانوا قد غيروا مجرى التاريخ جذريا، مثلما حدث حينما احتل هولاكو عاصمة الدولة العباسية بغداد، حيث لم يكتف بتدمير كل المعالم الثقافية فيها وإزالة الدولة العباسية من الوجود، بل أمر بتدمير السدود وقنوات الري في سائر أنحاء العراق التي كان السومريون والآكاديون قد بنوها قبل آلاف السنين.

بانهزام فلول المغول راح المماليك يطاردونهم شرقا حتى نهر الفرات، وقد كان لقيادة “بيبرس” دور مؤثر في الانتصار، مما جعله يطلب من السلطان ولاية حلب، لكن الأخير رفض طلبه، فلم يمض وقت طويل حتى طعن “الظاهر بيبرس” السلطان بخنجر مسموم واحتل مكانه.

على عكس غدره بسيده، قام “الظاهر بيبرس” بأعمال جليلة أثناء فترة حكمه، ففي عصره اغتنت أوقاف الإحسان، كذلك فإنه أمر بحفر القنوات، وتنظيم الموانئ، وترميم الأسوار والقلاع. ثم قام بربط عاصمتيه، القاهرة ودمشق، بطريق بري مما مكنه من لعب البولو من على ظهر حصانه في القاهرة يوم السبت، والصلاة أمام المسلمين يوم الجمعة اللاحق في مسجد أمية، وعلى يده راحت قلاع الصليبيين تتساقط كأوراق الخريف واحدة تلو الأخرى، حتى تم له الاستيلاء على قلعة “الحصن” القريبة من حمص، و كان السلطان السلجوقي نور الدين من قبله قد قاتل خارج أسوارها ، أما صلاح الدين الأيوبي فقد تمكن من رؤية أبراجها من بعيد، لكنه مضى متأسفا على عدم اختراقها، ولم تفتح أبواب هذه القلعة المنيعة إلا للظاهر بيبرس، وأعقب ذلك انكسار شامل للصليبيين في ربوع الشرق. بعد أربعين عاما من بيعه في دمشق، عاد “المملوك” إليها سلطانا ليضمها إلى حكمه الذي استمر مدة سبعة عشر عاما حتى موته المفاجئ. في المكتبة الظاهرية يقبع قبر “بيبرس” المتواضع، شاهدا صامتا على عصره.

أدخل إلى فناء المسجد الأموي، فيواجهني فضاء متوهج بزرقة بلورية، تقابلها بركة المياه الوهمية، التي يعكسها المرمر الزبرجدي المضي للأرضية الممتدة دون حواجز، لتلتقي بالأروقة المعمدة ذات الأقواس المتعاقبة بنسق واحد حول الفناء. كان الصمت يغلف هذا العالم القادم من زمن موغل في القدم، ولا كائنات حية تبرز في المكان عدا سرب من الحمام متقاربة أفراده بعضها من بعض للتخفيف من قسوة الطقس الصقيعي، وتحت هبات ريح الشمال المثلجة. يندفع الحمام الزاجل في الطيران بكسل ولامبالاة، ليمنح لنفسه الدفء قليلا ثم يعود، بعد قليل، إلى بحيرة الزمرد: فناء المسجد الأموي . ومع الشعور بالصفاء الروحي والطمأنينة الذي يمنحه المكان، يخالط المرء الشك بما حدث هنا عام 1400، حينما اكتسح القائد المغولي “تيمور لنك” دمشق، بعد أن أعطى الناس وعدا بالأمان إن هم فتحوا الأبواب له.

وسعيا للتخلص من جور ونزوات السادة الحاكمين آنذاك: المماليك وجحافلهم، راود أهل دمشق الظن بأن الفاتح القادم من صحارى وهضاب آسيا الوسطى سيكون أقل قسوة من سابقيه، لكن مقاومة المماليك من القلعة لـ”تيمور لنك” جعلته يعاقب الجميع بنفس الدرجة من البربرية، لمدة ثلاثة أيام، ظلت المدينة تحترق بلا هوادة. وفي المسجد الأموي، مات حرقا ثلاثون ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال، بعد التجائهم إليه، ولم يكتف “تيمور لنك” بذلك بل أمر بأسر كل ذكر مسلم يزيد عمره عن خمسة أعوام، وأخذه إلى سمرقند، ولم يبق في المدينة سوى النساء الثواكل والأطفال الرضع. قام “تيمور لنك” وسط كل هذا التخريب والقتل والدمار الذي ألحقه بالمدينة وأهلها، بعمل نافع واحد، حينما أمر ببناء برجين جديدين، مستعملا رؤوس ضحاياه المحروقة بدلا عن الطابوق في تشييدهما.

لكن المدينة تعلمت أن تلعق جراحها بسرعة وتنهض مرة أخرى، لتمنح عطاياها لجيل آخر خلفه ضحايا الأمس. هاهي الأزقة تدعوني بلطف يضاهي لطف الشاميين ودهائهم، للتيهان في حناياها، وها هي عرائش اللبلاب تتسلق أسلاك الكهرباء ناثرة زهورها البيضاء الصغيرة فوق رؤوس العابرين، ووسط تلك الدرابين المكتظة بالشناشيل والجدران السميكة، تنتصب أشجار الكينا في الفضاء كمعجزة حلمية خضراء تتعارض مع محيطها الفارق بألوانه البنية والرمادية الداكنة، ثم تمضي الدرابين ملتوية صوب ممرات رومانية، معتمة، ذات أقواس صخرية صامتة، لتنفرج فجأة على فسحة غارقة في ضوء النهار المبهج، حيث يلتقي هناك أبناء الزقاق الواحد، لكن ما يلبث الطريق أن يضيق فيغوص المرء، في متاهة غامضة، لا بداية لها ولا نهاية.

يقول منقبو الآثار أن هناك مدينة رومانية مازالت قائمة، على عمق خمسة عشر قدما، تحت دمشق القديمة، وليس مستبعدا أن تكون هنالك مدينة آرامية تربض تحت المدينة الرومانية، كأن دمشق جبلا جليديا قائما فوق بحر عميق، وما نراه ليس إلا جزءا صغيرا.

أدخل إلى سوق البزورية، دون قصد، فتتوغل في أنفاسي روائح الأزهار والأعشاب العذبة. لابد أن عطور السمسق وبلسم فلسطين ودهن المسك قد استقطرت قبل ألف عام، ووضعها أصحابها في قماقم مختومة بطلاسم حافظة لحظة سماعهم أخبار غزو جديد يقترب من مدينتهم. وها هم الأحفاد قد تعلموا أسرار المهنة وأعادوا تلك العطور إلى رفوفها السابقة. سألت أحد الباعة إن كان يعرف أغراض استعمال كل مالديه من نباتات عشبية، قال لي باهتمام: “نعم ..أنا بالخدمة، إذا احتجت لشيء”. لكأن سوق البزورية قد أسر كل أزهار الأرض بين سقفه وجدرانه المضاءة بالمصابيح والعطور، مما يجعل المرء يشك بأن كل ما هو معروض في هذا السوق قابل للبيع، وله زبائنه.

حينما تركتُ السوق ورائي، دخلت مدينة أخرى وعصرا آخر، إنه الحاضر، الشوارع تزدحم بالسيارات التي كانت تندفع بسرع مختلفة توشك أن يصطدم بعضها ببعض، بالدراجات القادمة باتجاهات معاكسة، وبالعابرين المتداخلين مع الأجسام الحديدية المنفلتة، لكن معرفة قواعد الفوضى، ومرونة الشاميين وروح صبرهم، تجعل نسبة الحوادث وحالات الخلاف فيما بينهم قليلة، وهذه هي إحدى غرائب المدينة السبعة! لكن أعدادا كبيرة من الناس، لايجدون لهم مكانا للالتقاء سوى الأرصفة الضيقة، المعلقة على جدران أبنية محاذية لها. أرقام الجوائز الفائزة بلعبة اليانصيب، وأمامها يحتشد خلق كبير، محملقا بالأرقام الصغيرة المطبوعة على أوراق صفراء اللون.

أهرب إلى ملجأ آخر، يقع قرب جامعة دمشق: إنه التكية السليمانية التي تحول جزء منها الى متحف حربي. يجذبني الفناء المحاط بالمسجد العثماني. كان المعماري الشهير “سنان” قد قام بتصميمه، بناء على أمر من السلطان “سليمان القانوني”، الذي كان مولعا بمشاهدة الدراويش، أثناء رقصهم المولوية، فخصص جزءا من التكية لنشاطاتهم. أجلس على حافة البركة التي تتوسط الفناء، أمامي تنتصب القبب الصغيرة والأروقة ذات الأقواس، المبنية من الصخر المائل للحمرة، تصلني وشوشة الماء المتدفق من نافورة قابعة في قلب تلك البركة، فتبعث في نفسي دفئا وبهجة غامضة. كانت أشجار البرتقال المبثوثة حول الفناء تستعر بالضوء المنبعث من ثمارها، إذ حولها الصقيع المتواصل إلى بلورات ثلجية مشعشعة ببريق أرجواني أخاذ. كان الغروب قد حل آنذاك، والهلال الشاحب قد توسط الأهلة العثمانية المرفوعة على ناصيتي المنارتين الأسطوانيتين وقمة القبة الزبرجدية الرحبة، فوق خلفية سماء غامقة الزرقة موشحة بجلال حمرة شمس منطفئة.

في طريق العودة إلى “مساكن برزة” القريبة من مشفى “ركن الدين”، كان ممكنا مشاهدة جبل قاسيون، من نافذة سيارة الأجرة الخلفية، بعد أن تحول إلى خيمة عملاقة، مظلمة، لكنها مرصعة بالمصابيح، التي بدت كأنها امتداد لنجوم السماء اللامتناهية.

اقرأ ايضاً