دوستويفسكي عرافاً: شخصيات عابرة للقرون
دوستويفسكي عرافاً:
شخصيات عابرة للقرون
ليس هناك روائي نجح في استخدام أبطاله كتجسيدات حية للأفكار مثل دوستويفسكي. ويعود هذا النجاح إلى قدرته على تحرير رواياته من الوقوع في مطبّ النمذجة التي تحول الأبطال إلى أبواق محضة لأفكار متعددة. بالعكس من ذلك بنى دوستويفسكي شخصياته على أساس الأسئلة التي تدور في أذهانهم والتي تحدد في الأخير مصائرهم. هذه الأسئلة التي يختبرها أبطال دوستويفسكي هي أسئلة العصر نفسها، وكأنه بهذه الطريقة نجح في جلب كل القضايا والمحاججات السائدة في القرن التاسع عشر داخل الغرب وما كانت تتركه من أصداء داخل المجتمع الإقطاعي الروسي.
في روايته “الجريمة والعقاب” يتماهى البطل الشاب راسكولينكوف مع تيار فكري كان سائدا في منتصف القرن التاسع عشر، يبرر ممارسة القتل لتلك الشخصيات التاريخية التي تلعب دورا في تغيير الواقع تغييرا ثوريا تحت يافطات متعددة مثل “الضرورة التاريخية” أو “حتمية التاريخ”. وعلى هذا الأساس أصبح مبررا لنابليون بونابرت كل ما قام به من أعمال قتل قد تُعتبر لغيره جرائم بحتة. من هذا المنطلق يجد راسكولينكوف مبرره “العقلي” لمشروع قتل المرابية العجوز على الرغم من طبيعة شخصيته المرهفة الإحساس وميله الفطري لمساعدة الآخرين. بعد ارتكابه لجريمة القتل ووقوعه في شراك المحقق العدلي بورفير بتروفتش نكتشف بعض الحقائق الصغيرة الأخرى التي تبين مدى اهتمامه بالإنسانية. فهو قد رمى ذات مرة بنفسه في أتون النيران المنبعثة من بيت ما لإنقاذ ساكنيه.
ما يثير الدهشة أنه على الرغم من الطبيعة الأوتوقراطية المتزمتة للنظام القيصري لكن دوستويفسكي اختبر بجرأة كل الأسئلة الفلسفية المطروحة آنذاك، والتي كانت على الأغلب تصب باتجاه اشتراكي أو فوضوي. في روايته “الشياطين” يطرح البطل كيريلوف سؤالا حول الايمان والالحاد، إذ بالرغم من معاداة دوستويفسكي العميقة للتيارات الإلحادية بكل أشكالها لكن هذه الشخصية جسدت ميتافيزيقا الإلحاد بأفضل تجلياتها: فهذا البطل الذي انتهى من وجود الإله يكتشف أن الخوف من الموت هو الحاجز أمام الإنسان لإحلال نفسه محل الإله وأن التحرر من هذا الخوف لا يأتي إلا عبر ممارسة الحرية بأقصى تمثلاتها، أي الانتحار: الانتحار الناجم عن عبء القوة كما يقول كيريلوف أكثر من أن يكون تحت وطأة الضعف أو اليأس أو مشاعر الفشل.
في رواية “الأخوة كرامازوف” التي صدرت سنة 1880، يواصل دوستويفسكي تناول موضوعة الإلحاد التي كانت عنصرا أساسيا من عناصر تيارات فكرية قوية مثل “المادية الميكانيكية” و”المادية التاريخية”. فعبر شخصية إيفان كرامازوف ينطرح السؤال على لسانه: إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح. مع ذلك يفشل إيفان في الاختبار بعد تواطئه في قتل الأب ليدخل تحت وطأة مشاعر الذنب إلى عالم الجنون.
كان دوستويفسكي في رواية “الشياطين” التي صدرت قبل “الأخوة كرامازوف” بتسع سنوات قد قدم إجابة ضمنية لهذا السؤال من دون أن يتوصل إلى صياغة السؤال نفسه. فإضافة إلى شخصية كيريلوف التي اختبرت قوتها غير المحدودة عبر الانتحار هناك شخصيات أخرى اختبرت “ما هو مباح” عبر الآخرين. ستافروجين وبطرس ستيفانوفتش هما النموذجان. الأول الذي تكمن نقطة ضعفه حسب تعريفه الشخصي لها في عجزه عن التمييز بين الخير والشر. إذن كل شيء قابل للاختبار حتى لو أدى سلوكه إلى تعذيب طفلة إلى حد دفعها كي تنتحر. أما شخصية الثاني فهي تجسيد حي لنموذج القائد الثوري الانتهازي غير المحكوم بأي سؤال وجودي محيِّر، والذي ظل أشباهه يتناسخون على أرض الواقع أثناء القرن العشرين وما وراءه. عاد بطرس ستيفانوفتش من أوروبا محملا بتعليمات التنظيم الأممي الثوري، وعند وصوله إلى مدينة “كاف”، يتمكن من إعطاء الانطباع بأن روسيا تغص بالخلايا الثورية وأن لحظة التغيير قريبة جدا. ولعل ذلك كان السبب وراء رضوخ انتلجنسيا تلك المدينة له. في لقاء موسع يجري داخل بيت أحد اليساريين يتعامل بطرس ستيفانوفتش مع الحاضرين بغطرسة عالية تبلغ ذروتها حينما يطلب من مضيفته أن تعطيه مقصا لقطع أظافره. وأثناء انغماره في هذه المهمة نستمع إلى بعض الأفكار السائدة آنذاك بين الحلقات الثورية. يقول المُنظِّر الأعرج شيجالوف إن الخلاص لن يتحقق إلا عبر تحقيق التحرر المطلق لعشرة بالمائة من المجتمع واستعباد ما تبقى منه استعبادا مطلقا، لكن آخر يردد أن من الأفضل قطع رقاب مائة مليون روسي لتحقيق التغيير الثوري. يتمكن بطرس ستيفانوفتش في الأخير من أن يفرض هيمنته على الجالسين حينما يعطيهم الانطباع أنه فعلا مرسل من منظمة ثورية قيادتها في الخارج وجذورها تمتد في كل مكان داخل روسيا: “إنه الحزب”!
لن يتوانى بطرس ستيفانوفتش المسؤول الحزبي عن حلقة واحدة في تلك المدينة الافتراضية عن دفع أعضائها الأربعة للقيام بـ “اغتيال سياسي” للعضو الخامس الذي انسحب من التنظيم الثوري لتغير قناعاته وتحوله نحو أفكار دينية قريبة من أفكار دوستويفسكي الذي مر هو الآخر بتحولات من الفكر الإشتراكي الثوري في أوائل شبابه إلى الإيمان الديني الذي يجد أن روسيا لها رسالة روحية تقدمها للبشر. لكن سعي بطرس ستيفانوفتش لقتل شاتوف لم يكن مدفوعا إلا بحافز الحقد، إذ سبق للآخر أن وجه إهانة له في الماضي. بعد تنفيذ عملية القتل على يد أعضاء الخلية الواحدة تبدأ الشكوك تسود بين بعض منهم. وقبل أن يتم اعتقالهم وهروب بطرس ستيفانوفتش إلى الخارج يسأله أحدهم: هل حقا أن الحزب له آلاف الخلايا المنتشرة داخل روسيا ونحن لا نقوم بشيء سوى تنفيذ إرادته أم أنه ليس سوى خليتنا لوحدها؟ كم ستكون لهذا السؤال أصداء في القرن اللاحق: القرن العشرين، إذ سيظل الرفاق يتساءلون عن “الحزب السري”؛ عن ذلك الطوطم الخفي الذي تنتشر خلاياه كالفطر في كل بقاع المعمورة. وإذا كان الكثير منهم قد ضحوا بحياتهم من أجله فهناك أيضا الكثير من أحفاد “بطرس ستيفانوفتش” الذين استفادوا من مواقعهم داخله: في التخلص من أشباه “شاتوف” أو في التمتع بامتيازات السفر والتمتع بمباهج الحياة على نفقات “الحزب”.
إذا كان القرن التاسع عشر البوتقة الحقيقية لتشكل الأفكار التي عكستها مرآة دوستويفسكي الروائية فإن القرن العشرين هو الساحة الحقيقية لاختبارها، ولعل فكرة مَن يمتلك الحق في القتل هي التي حددت أهم ملامحه، فثورة أكتوبر جاءت إجابة عن سؤال يتعلق بـ “الحتمية التاريخية” وهذا يتحدد بالسؤال التالي: إذا كانت حركة المجتمعات تسير صوب مجتمع الشيوعية (حيث تختفي الدولة والطبقات تماما) فلماذا نمنح الطبقة البورجوازية الروسية فرصة تسلم السلطة وبناء النظام الرأسمالي؟ أليس بإمكان الطبقة العاملة( التي ما زالت جنينية) عبر حزبها الثوري تحقيق مهام الطبقة البورجوازية، من تصنيع إلى تعليم للدخول فورا إلى المهام الاشتراكية… كأن حب البشرية في هذه الرؤية يتجسد بتلك الأجيال التي لم تولد والتي سيكون عمل الأجيال الحاضرة وتضحياتها و”جرائمها” طريقا لها للوصول إلى الفردوس الأرضي.
بنفس هذه الحماسة “الدينية” التي عرفتها الأفكار المادية الثورية في القرن العشرين خاضت الأحزاب الفاشية حروبها لتنقية عرق بشري ما من آثار “العروق الفاسدة” الأخرى أو بالسعي لتذويب كيانات اجتماعية مختلفة الجذور والطبائع تحت شعارات غامضة تعبِّر عن وجود رسالة خاصة لهذه الأمة أو تلك.
من جانب آخر، عرف العالم العربي أيضا أصداء ما جرى في أوروبا إذ صعدت حركات اليسار الطبقي والقومي في العديد من بلدانه بنسخ تتماثل إلى هذه الدرجة أو تلك مع الحزب البلشفي الروسي أو الحزب النازي الألماني، وعلى أنقاض هاتين الحركتين اللتين تطاحنتا ضد بعضهما البعض ستصعد الموجة الثالثة في العالم العربي حينما يصبح السعي متجها لا إلى دفع المجتمع صوب صورة مستقبلية متخيلة بل بإعادته إلى شكله البريء الأول قبل تسرب “الجشع” و”الفساد” في عروقه، أي قبل أكثر من ألف سنة. ما يميز التيارات السلفية السياسية عن غيرها أنها تريد أن تحقق هدفين معا: قسر الجميع على العودة إلى البدايات “الطاهرة” وإلغاء الحوار العميق الذي ساد لعدة قرون بعد انتهاء فترة “الخلفاء الراشدين” والذي حدد ملامح الثقافة العربية الإسلامية كثقافة توحيد نجحت في ضم الحضارات المحيطة بها آنذاك. في الوقت نفسه قسر الجميع على القيام بما تحدده هذه الأقليات من مسار حياتي “صحيح” للوصول إلى الفردوس السماوي. وفي حالة الرفض سيكون العقاب القتل.
قسر الآخرين على الدخول في الطريق المؤدي إلى الفردوس تحت سطوة الفئات السلفية معارض تماما للآية الكريمة “لا إكراه في الدين”، وقسر الناس للوصول إلى الفردوس الأرضي يعارض مبدأ موجودا في ثنايا كتاب “رأس المال” لماركس والقائل إن الاشتراكية لا تظهر إلا حينما يستنفد النظام الرأسمالي الحالي إمكاناته. وحينما ننظر إلى التحولات الجذرية التي مرّت بها الرأسمالية من شكلها التنافسي المبسط في القرن التاسع عشر إلى أشكالها المموهة السائدة حاليا نتلمس مدى الإصلاحات العميقة التي مرت بها خلال مسارها الطويل وكم هناك إصلاحات تنتظرها مستقبلا قبل أن تستنفد نفسها تماما، ولا بدّ أن ذلك لم يتحقق إلا عبر مبدأ الصراع نفسه.
بإعادة النظر في روايات دوستويفسكي الكبرى: “الشياطين” و “الجريمة والعقاب” والأخوة كرامازوف” التي كتبت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ومقارنتها بعصرنا نكتشف أن الاستعداد لممارسة الشرور لا يتحدد ضمن أرضية الإلحاد أو الشك فقط بل هو بالإمكان أن يحدث حتى تحت ساحة “الإيمان المطلق”؛ الإيمان بأن الرب أو التاريخ معي وأنني مخول لارتكاب الفظائع.
لؤي عبد الإله