رمية زهر

2٬527

حين تحضر صور الطفولة الى خاطري، تحضر معها كلمة “التردد”، كصفة اكتسبتها منذ سن جد مبكرة، بل وبصيغة ادق، كملمح جوهري لشخصيتي، تَحدّد، وفقه، مسار حياتي. مع ذلك ينتابني، احيانا، الشك بصحة هذا الافتراض، مما يجعلني مقتنعا بان “التردد”، بصفة عامة، ناجم عن وجود اكثر من خيار، مطروح امام الفرد، وحينما يمتلك كل خيار قوة جارفة تقلب حياته رأسا على عقب، يصبح “التردد” لازمة معذبة يسكن في ثنايا يقظته ونومه.

لم اكن تجاوزت السادسة بعد، حينما وُضعت امام خيارين لا ثالث بينهما؛ بعد وفاة امي ومضي فترة حداد طويلة عليها، سألني ابي ان كنت افضّل العيش معه او البقاء مع جدتي واخوالي. مع ذلك، وعلى الرغم من انحيازي للبقاء مع اهل امي، ظل ذلك الفضول والرغبة باختبار الخيار الاخر يوسوس في صدري، وحينما كنت اذهب لقضاء العطلة المدرسية، في بيت ابي، ينتابني شعور بعدم وجود مكان لي، داخل اسرته الجديدة، الا كزائر محبوب، بعد ان فقدت زوجة ابي الامل بتبديل رأيي مبكرا. بين الفوضى والفقر في بيت جدتي وبين النظام والرفاهية في بيت ابي، كانت احاسيسي الطفولية موزعة، وبشكل بدائي: في بيت جدتي كنت اتنفس الحرية، وكنت موضع اهتمام الجميع، دون ان اطالَب باي شيء، وفي بيت ابي، كان ذلك التعلق الغامض بزوجته الرقيقة، الشغف برسومها وتطريزها واناقة ملابسها، مصدرا لاحلام يقظتي، التي ظلت تدور، حول عالم اخر، مجاور لعالمي المتحقق: بين الواقع المتحقق في بيت جدتي، وبين الواقع المتخيل القائم في بيت ابي، كان ينمو الشعور بالندم ‎‎، كبرعم عسير على الفهم، من ضياع الخيار الاخر الى الابد.

هل بالامكان تقسيم الناس الى مجموعتين؟ اولئك الذين لا تضع الحياة في طريقهم، سوى خيار واحد، واولئك الذين ترمي اليهم، في كل منعطف، بورقتي لعب، سوداء وحمراء، عليهم اختيار واحدة منهما؛ اولئك الذين يعيشون حياتهم المتحققة، منغمرين كليا بجزئياتها، واولئك المشدودين جزئيا الى واقعهم المنتقى، وجزئيا الى الحياة الاخرى المتخلى عنها، كأمكانية مضمرة؛ كلوحة جرداء موضوعة امام رسّام.

بعد اكمالي للدراسة الثانوية، اكتشفت فجأة ان علي الاختيار بين شغفين ظلا يشدانني اليهما طويلا: الفيزياء والتاريخ البشري، وما كان ممكنا اختبار احدهما، وفق النظام الجامعي السائد، انذاك، لاتخاذ قرار الانتقال الى الموضوع الاخر؛ هناك فرصة واحدة امامي، للقبول في الجامعة، وخلال اسبوع واحد كان علي اتخاذ القرار. سأظل طيلة سنوات دراستي الجامعية مشدودا الى الموضوع الذي تخليت عنه، وخلال تلك الفترة، سأتخلى، عن فكرة الاحتراف المهني الذي يتطلب تكريس كل القدرات لموضوع التخصص، مقابل البقاء في مساحة احلام اليقظة الدائرة حول هذا السؤال: ماذا كان بالامكان تحقيقه لو انني اخترت الطريق الاخر؟

يمكن تقسيم  اولئك  الذين يوضعون غالبا امام خيارين، الى مجموعتين: المترددين، المستغرقين  بالحاضر، والمعصوبة اعينهم عن المستقبل،  والحاسمين، الذين لا ترى اعينهم سوى المستقبل، ولا يعيشون  الحاضر الا كمنصة للقفز  الى المستقبل. الفئة الاولى شبيهة بالعث المشدود، للّحظة، المعبّر عنها بالضياء الحارق، الذي يندفع متهورا اليه، بينما تتماهى الفئة الثانية، مع النمل، في حاضره المحدد، بفعل الخزن الرتيب للمستقبل.

ستتكرر كثيرا لعبة الورقتين  الحمراء والسوداء القدرية معي؛ في الحصول على العمل، في السكن، في علاقات الحب، بل وحتى في اختيار طفلي: كانت زوجتي حاملا في الشهر الرابع، حينما اصيبت بنزيف دموي اجبرني على  نقلها الى المستشفى، وبعد اجراء فحوصات  عديدة، اتضح انها حامل بتوأمين، لكن الحجم المتاح لنموهما، داخل رحم زوجتي،  غير كاف لبقائهما معا. كان من الضروري اسقاط احدهما انقاذا للام، ولم تكن زوجتي في حال يسمح لها باختيار احد الجنينين ونبذ الاخر، فكان علي ان اقرر. ( سيظل يرافقني شعور بالندم من وقت الى اخر، لاسقاط الاكبر حجما، كلما اصيب ابني بالمرض، او كلما راودتني فكرة عما سيكون عليه ذلك الجنين الذي راح ضحية لعبة الاختيار العمياء).

وفق نظرية الكم، يتمتع الالكترون الدائر حول نواة الذرة، بقدرته على التنقل بين شكليه: ان يكون في هيئة جسيم  له، وزن، وموقع واحد، او ان يتحول الى غيم موجي  موجود في كل المدارات. كم سيكون رائعا لو ان الانسان امتلك هذه الخاصية وتحرر من قوانين الواقع الثقيلة: ان يكون هنا وهناك في آن، ان يعيش في حاضرين متزامنين؛ ان يكون قادرا في وقت واحد، على اختبار الخيارين، بدلا من اضطراره للتخلي عن احدهما. بعد سنوات كثيرة من العيش المنفرد، الهامشي، ها انذا التقي بامرأة مغلفة بشرنقة الحلم، مندفعة كغزال ضال، بحثا عن فضاءات جديدة. كانت واقفة في ركن منعزل ساهمة، حزينة، وامامها كان احد الحاضرين، مندفعا في خطاب طويل حول ايجابيات البنيوية وسلبياتها، ولم يكن تشابك نظراتنا الاول ،انذاك، سوى لحظة تواطؤ، ضد الاخر، ولحظة انبثاق الهوى. ودّعتُ صاحب البيت وزوجته، اما هي فانسلت بصمت، اذ لم تأت الى الحفلة الا لمرافقة صديقتها المدعوة.

في الاسبوع اللاحق، رن التلفون ذات مساء، ولم يكن على الخط سوى تلك الصديقة التي التقيت بها، مرة واحدة، على ظهر طائرة، ولم يجمعنا في تلك الرحلة سوى تلك الغيوم البيضاء، التي بدت تحتنا كفراش، وحينما نطقت بهذا الوصف، قالت ضاحكة: “بل كالعهن المنفوش”. لم يمض وقت طويل حتى اخترقت الطائرة ذلك الغيم الكثيف، فراح متنها ينبض بعنف، مما دفع مرافقتي ودون ارادة منها بالتشبث بي: كانت اعيننا تتابع ذلك الضباب الشفيف، الذي تلبس بثياب الحلم. بعد تبادل العناوين، فرقتنا مجاميع المسافرين، سريعا،

وها هي بعد خمسة اعوام، تظهر في هذه المدينة، بمهمة عمل قصيرة، لا تستغرق اكثر من خمسة ايام.

الورقتان الحمراء والسوداء ترميان، بكل قسوة، امامي، مرة اخرى.

اضغط على كابس الوقود، فتندفع السيارة برشاقة متسلقة الطريق المرتفع تدريجيا، ها انذا بين هاويتين: الى يساري، يسكن البحر، والى يميني قرى تتناثر في الوادي. على المرآتين الامامية والجانبية تتألق اضواء البواخر، كأنها مجرات راسية على درب التبانة، اندفع اكثر فاكثر، سعيا لتجاوز شاحنة حمل. في تلك اللحظة تنبثق امامي سيارة من فراغ العتمة الفسيح. لم تكن في اليد اية لحظة لاتخاذ قرار، هذه المرة، تُرمى امامي ثلاث ورقات، بدلا من اثنتين،  وهذه المرة سالعب بطريقة مختلفة كليا: ها انذا اغمض عيني واترك المقود طليقا، ليختار، بالنيابة عني  ورقتي الاخيرة.


من كتاب “رمية زهر”، 1999، دار المدى، دمشق

اقرأ ايضاً