رمية طويلة

2٬100

قصة قصيرة / دونالد رايان

ترجمة: لؤي عبد الإله[1]

عند قدومي  في أول أربعاء لي هنا تقدم القس الأرثودكسي ذو اللحية الطويلة والعينين السوداوين بخطى واسعة صوبي ثم احتضنني وقبلني على خديَّ، هو في ردائه الكهنوتي وأنا في صدريتي. ناداني بكلمة أخ. لذلك فإني بسبب انعدام الخبرة بهذا الوسط وعدم معرفتي بالتقاليد السائدة فيه بقيتُ واقفاً أمامه، راسماً ابتسامة في وجهه، ما جعله يبتسم هو الآخر لي، بينما كانت يداه مستقرتين على كتفيّ. قال آنذاك: “سنكون أصدقاء”.

مضى القسّ عائدا بخطى ثابتة صوب كنيسته المبنية بالحجر، عابراً خلال ذلك الشارع الترابي. أخبرني أكبر التابعين للأبرشية، أن الجو هنا هادئ بشكل عام. هناك حادث وقع مرة واحدة، حادث فظيع، لكنه لم يكن إلا بسبب غليان الدم، شيء مفاجئ، وسخيف، شباب…  ثم خفتَ صوته ولم يُضِف أي شيء حول الحادث، ومن جانبي فإني لم أفكر بتلميحاته أبعد مما سمعته منه، وعملت كل يوم بهدوء داخل كنيستي ورحبتُ بكل من دخل فيها.

جاءني ذات يوم فتى في أواخر سن المراهقة أو بداية العشرين، وقال إن اسمه حليم وسألني إن كنت أعرف مكانا اسمه  تيبراري. “إنه المكان الذي أنا منه”، قلت له. فضحك وعلى عينيه تراقصت شرارة ضوء. أضاف أن أحد أبناء عمه يسكن هناك. بادر بالسؤال: “كيف هو المكان”؟ فأخبرته عن الحقول الخضراء والهضاب الواطئة والغابات والوديان والقرى والبلدات وكلام الناس السريع المتشدق. قال معلقا: “لا بد أنهم يحبون رقائق البطاطس المقلية”.  ثم أضاف: “ابن عمي غني، وهو يسوق سيارة مرسيدس، ويبيع رقائق البطاطس المقليّة خلال مباريات “الكرلينغ”. صححتُ له الكلمة الأخيرة: “الهرلينغ”. أريتُ صديقي الجديد الهرلي (المضرب) والسليوتار(الكرة) الخاصتين بي، ثم قذفت الكرة بالمضرب على جدار جناح الكنيسة، وهذا ما جعل عيناه تتسعان اندهاشاً. اتصلت بعائلتي هاتفياً وطلبت مضرب هرلي آخر. وقد وصل ضمن شحنة تحتوى على أردية كهنوتية ونبيذ. وكان حليم يأتي إلى الكنيسة في الأماسي  حين تعتدل درجة الحرارة فيقول: “لنلعب بضعة رميات ، أبونا”، وفي كل مرة كنت أضحك عند سماعي هذه الكلمات وهو بدوره يضحك معي ثم نقوم برمي كرة السليوتار فوق الشارع وعليه.

أصبح لعبنا موضوع اهتمام أهالي البلدة، فترة راحة قصيرة وسط ارض رمادية مغسولة بضوء الشمس: مضارب الهرلي وكرة السليوتار والقس. السليتر والشليتر والرميات ومضارب الهرلي ولعبات الهرلينغ المصحوبة بالضحك الصاخب. تقدم ذات يوم إمام مسجد نحونا بخطوة بطيئة، وراقبنا بصمت ونحن نلعب، ثم ابتسم وسأل إن كان بإمكانه أن يجرب اللعب. وإذ أخذ كرة السليوتار بيده ثم رماها في الهواء وحرك مضربه بعنف لغرض قذفها فإنها أفلتت منه، مما دفعت صديقي الفتى حليم للضحك لكنه أمسك نفسه بسرعة. ثم راح يتحدث بلطف وعناية مع الرجل المسن، ومن خلال حركاته فهمت أنه كان يشرح له كيف يجب عليه رمي الكرة أعلى قليلا من السابق وأبعد عن جسده، كي يبقي عينيه عليها دائما، وليبقي يده اليسرى في مستوى أوطأ. تمكن إمام الجامع من تنفيذ التعليمات في المحاولة الثالثة، ثم ابتسم تعبيراً عن الرضا عن الذات. عند ذلك رفع يده وانحنى قليلا ثم عاد إلى مسجده.

تشكل مع مرور الوقت فريق من المشاهدين الصاخبين. بالمقابل، اعتدنا على القيام برمياتنا كل مساء بعد أداء المسلمين لصلاة العشاء وأدائنا للعبادة المسائية. كان مضربا الهرلي يتنقلان من يد إلى أخرى؛ إذ تمكن بعضهم من تعلم اللعبة، لكن آخرين ظلوا يضربون الكرة بطريقة طائشة ونادرا ما يمسون كرة السلويتار، وحين تكون الضربة صائبة تماماً وترتفع كرتي في الفضاء، يرتفع هدير الأصوات عاليا مع تصاعد الغبار الناجم عن دوس أقدام الرجال والشباب وهم يركضون سعيا للإمساك بالكرة المستاقطة. جلب رجل، ذات يوم، قفازا خاصا لمسك كرة البيسبول فما كان من الآخرين إلا أن قابلوه بصرخات الاستخفاف والسخرية، وهذا ما جعله يسلمني القفاز، وعلى وجهه علائم الخجل، مدعياً أنه قد جلبه هدية لي. اتصلت بعائلتي هاتفياً طالباً أكبر عدد ممكن من مضارب الهرلي يمكنهم إرسالها لي. وجاءني إشعار، ذات يوم، من محطة القطار يُعلمني فيها أن هناك شحنة تنتظرني. رسم مساعدي الخوري ابتسامة خفيفة، ثم مشينا معا عبر السوق،  حيث مررنا بالحي التجاري وقصور التجار القدماء ثم سرنا على امتداد سكة الحديد المكشوفة  المحاذية لمزرعة زيتون والى بقعة مبلطة ومتسعة من شارع يعلوه الغبار والحجر. وذلك المكان كان يُستخدَم كمحطة قطار. ومن هناك عدنا إلى البيت مُحمّلَين بدزينة من مضارب الهَرلي. على الطريق ظل مساعدي الخوري ينزّ عرقا تحت وطأة حمل أعواد الخشب الثقيلة، وظل يتأفف ويولول ويدمدم ضدي وضد مضارب الهرلي اللعينة.  لكننا حين وضعنا حِملنا في الخزانة تنفس بعمق وعلى وجهه طفحت ابتسامة تعبّر عن الرضى بالنفس الذي يتبع عادة بذل جهد كبيرمُجدٍ. وكان بإمكاني سماعه ،لاحقا بينما كنت واقفاً في مكان لا يستطيع أن يراني منه عند باب المذبح، وهو يبارك كومة مضارب الهرلي ومن سيلعب بها.

أجريتُ أول منافسة للرميات الطويلة خلال نفس اليوم التي ولدت الفكرة فيه.  وعند الموقع الذي تسقط فيه كل كرة يؤشَّر عليه فوق التراب، وكل شخص يقف عند خطه. وكاد الجدل حول من هو صاحب أطول رمية أن يُنهي المباراة، حتى عرض القس الأوثودوكسي التحكيم في الأمر. وكانت كل 100 ياردة تقاس بجهاز يدور في اليد، استعاره من البلدية ابن عم صديق أحد المشاركين في المباراة اسمه احمد. وقيست الرميات إما من خط المائة ياردة أو بالعكس. “ياشباب، نداء للتوقف!” (call a howlt  ( . كنت أصيح بلكنة آيرلندية مبالغ بها إذا وقع شجار ما، وهم كانوا يقلدونني، ضاحكين.  “يا شباب، نداء للتوقف (call a howlt!). سترن هذه العبارة على طول الطريق المفخور بالشمس إلى حد السوق. كذلك فإني قد حققت رمية جيدة، لا غبار عليها وعالية، وتتجاوز ما حققه أفضلهم بما لا يقل عن خمس عشرة ياردة. ومن موقع السوق راحت أصداء التصفيق تتموج كأنها قبضة من الحصى تسقط في الماء. ثم جاء دور حليم بعدي فابتسم لي قبل أن يقذف بكرة السليوتار صوب السماء . قال لي: “إنها ستهبط مع ثلج عليها، مِش هَيك أبونا؟” وعندها ضحكنا بينما راح القس الاورثودكسي يصرخ: “تعادُل! تعادل تماماً” وهذا ما دفع أنصار صديقي حليم إلى الاحتجاج عبر أصابعهم وأقدامهم وأعينهم المزوَرّة، ثم أعلنوا أن حليم هو البطل، وأن نتيجة المسابقة  مقرَّرة مسبقاً. وكان قرار أن يكون لكل مشارك رمية واحدة كي يتحدد الفائز من خلالها قد قوبلت بالصمت، ثم راحوا يرددون بايقاع منتظم: “حَـ.. ليم، حَـ.. ليم، ويتصاعد في السرعة وقوة الصوت، في الوقت نفسه، مس صديقي الخط الذي رسمناه في التراب وقذف الكرة على شكل قوس أنيق حيث انطلقت تطن في ارتفاع منخفض سريعة عبر الهواء الهادئ والثقيل. صافحتُ حليم قبل أن أضرب الكرة، فابتسم لي وهو يهز رأسه، وإذا بمساعدي الخوري يتحرر من هدوئه المعتاد ليهدر عالياً: “هيا أبونا انتوني، ارمِها بقوة، اهجم !” لكن كرتي سقطت أمام العلامة التي خُطت على تراب الشارع قبل لحظات، وهذا ما جعل أنصار حليم يرفعونه من كتفيه  ليتوَّج بطلا للمسابقة.

“اذكر لي كلمات تقال في تيبراري”، كان حليم يقول لي من وقت إلى آخر: “كلمات يرددها الناس عند شرائهم رقائق البطاطا المقلية من ابن عمي”.

كان حليم يتصل هاتفياً بابن عمه أحياناً من جواله الضخم قبل قيامنا بتمارين رمي كرة السليوتار، فيبادره قائلا باللهجة الآيرلندية: “مرحباً، سيدي، أنت قريب مني، هنا بادي Paddy، من مكان قريب، هل يمكنك تحضير وجبة جاهزة حتى أصل وآخذها؟ أنا سآكل مؤخرة بطة تطير على ارتفاع منخفض، لذلك فأنا أريد البطاطا”. ثم يمضي في الضحك حتى يكاد يعجز عن التنفس، بينما ينفجر ابن عمه في الضحك من بلدة تيبراري النائية فيتحول صوته إلى فرقعة عبر جهاز نوكيا العتيق، وعند ذلك يعلن حليم أنه سيرى ذات يوم ذلك المكان الذي يدعى تيبراري، ويسمع كل هذه الكلمات على ألسنة الناس بشكل حقيقي، ويرى رجال لعبة “الهرلينغ” العظام. فهو سيصافح برندان كيومنز، صاحب أطول رمية في تيبراري. “هل هي أطول رمية في آيرلندا؟”

– نعم.

– في العالم؟

– ربما، محتمل.

وصل الأسقف ذات يوم من العاصمة في سيارة مرسيدس قديمة تعود للدولة، ويسوقها رجل حنى جسده على شكل نصف دائرة فوق المقود. بدا الاسقف مجهداً، واهناً، وعبوساً. أدينا قداسا معاً خاصا برجال الدين، ثم كان هناك عشاء دعي إليه وجهاء البلدة الكاثوليك، وقُدِّمت له هدايا وبشكل خاص الكونياك المستورد والنبيذ المحلي وزيت الزيتون. وبينما كان السائق المتلبس شكل هلال ينتظر في السيارة لاخذه في اليوم اللاحق إلى قصره ، عرض الأسقف خاتمه بشكل قاسٍ وقال: “كفاكم لعِباً”.  ثم مضى.

كتبتُ رسالة لجيمي رايان في نيوبورت طالباً فيها مضرب هرلي لشاب طوله خمسة أقدام وأحد عشر بوصة، مع رأس جيد، والاّ يكون بحجم المضرب الخاص بحامي الهدف، مع مقبض فاخر وخفيف. وطلبتُ منه أيضاً بذل أقصى جهوده لجعل المضرب باللونين الأزرق والذهبي الخاصين بتيبراري، وإرسالها إلى الأخ جون دالي في بلدة “نيناغ” كي يكتب رسالة على طول المضرب. كانت الحماسة تغمرني كلما تخيلت نفسي أقدم لحليم هذه الهدية  المصنوعة على يد جيمي رايان  نيوبورت، صانع مضارب الهرلي الأسطوري.

راحت الغيوم تتجمع في ذلك الوقت، في بداية الشتاء. فورات من العنف في العاصمة البعيدة، احتجاجات حادة تم اخمادها بسرعة. وميليشيات بدأت تتشكل في المحافظات، قوات عسكرية حكومية بدأت تتجمع عند نقاط الاشتعال والأماكن الساخنة والمعاقل المناهضة. وصل مضرب حليم الخاص بلعبة الهرلينغ إلى البلدة في نفس القطار الذي جاءت به دزينة من الرجال المتجهمين ذوي العيون المعتمة وهم يحملون بنادق من معدن كابي اللون.

بدأت النساء المسلمات بالتحجب كليا وفي الشوارع أصبح مشيهن وحديثهن مع الآخرين أكثر تحفظا من السابق، وما عادت أي منهن تغادر عتبة بيتها من دون رجل قريب لها يسير خطوة أو خطوتين أمامها.

بدأ المسيحيون الاورثودوكس والكاثوليك يقضون معظم وقتهم في بيوتهم. كذلك تباطأ قطف المحصول في مزرعة الزيتون، إذ أن ثلاثة من شاحناتها تمت مصادرتها. وما عاد بالإمكان رؤية رجال الشرطة في أي مكان من البلدة.

أما بالنسبة إلى مضرب الهرلي الذي وصل للتو فإنني لم أحمل من قبل واحدا مثله متقنا بهذه الدرجة. كان حليم يقف على طرف الشارع الآخر من كنيستي، ووجهه مصوب نحو الشرق بدلا من تصويبه نحوي. كان يحرك وزن جسده من قدم إلى آخر، ويمسد لحيته الجديدة بحدة. مصوبا نظراته في كل الاتجاهات إلا في اتجاهي. عند ذلك عبرتُ الشارع وذهبتُ إليه، من دون أن آخذ معي هديته التي ظلت في مكانها ملقاة بجانب جرن المعمودية. كان واقفا في زاوية قائمة مني وهو يتكلم.  أخبرني عن كل الاتهامات التي وجِّهت ضده من قبل أحد أبناء عم امه. وأن عبارة الارتداد عن دينه أصبح الآخرون يتهامسون بها.

وقد جرى استجوابه من قبل مجموعة من القادمين الجدد. لمَ هو يصادق قساً كاثوليكياً؟ وما هي هذه الألعاب التي يمارسها؟ ومن هو المتورط في هذه المجموعة التي تضرب الكرة بالعصي على طول الطريق؟ كانوا متمردين، وهم يقومون بتجميع الرجال كي يحاربوا. والشريعة يجب الالتزام بها كلياً، ويجب قتل المرتدين، وإخراج الكفار من البلدة. قال حليم: “غادِر، يا صديقي، اليوم”، بينما رمت الشمس شعاعا من ضوء على دمعة سالت فوق حافة عينه. حين مشى رأيته يعرج بشدة في خطواته، بينما كانت يده اليسرى تضغط على أضلاع صدره.

سقطت زخات من القنابل على ضواحي البلدة لكن القوات الحكومية في البداية تجنبتنا. قال مساعدي الخوري: “يجب أن نرحل”. أخبرته أن بإمكانه الرحيل إذا أراد. بالمقابل،  أعلنتُ أن كنيستي ستكون ملاذاً للجميع. وسيقام القداس فيها كل يوم والعبادات ستكون في أوقاتها كما في السابق كل مساء. كذلك بقيتُ مواظباً على ضرب كرة السليوتار على الجدار الجانبي للكنيسة مدة ثلاثين دقيقة بعد كل صلاة مساء. آنذاك أفاقت القوات الحكومية بالكامل لبلدتنا، مدركة أننا أصبحنا معقلا، مرتعا، مقاطعة للمتمردين. أعطيَ تحذيرقصير، حينما أطلق عدد من المتهورين النار على طائرة استطلاع سمتية اثناء تحويمها فوق رؤوسنا وهذا كل ما كنا بحاجة إليه. تبعت الهليكوبتر طريقها السابق، بارتفاع أوطأ، بينما أمالت ببوزها بزاوية أكثر حدة نحو الأرض، وكأن الطائرة نفسها تحدق بنفسها باحثة عمن قام بذلك. لكن المتمردين أطلقوا النار مرة أخرى عليها، وهذا ما جعلها في دورانها الثالث تنفث الموت. كانت شاحنات مزرعة الزيتون، التي عادت قبل يومين، قد وضعت في ساحة البلدة، ومن تحت أغطية مشمع موضوعة فوق سطوحها المكشوفة أخرِجت مدافع هاون قديمة ثم نصبت على الأرض الصلبة. تم تجميع فرق تتكون من ثلاثة أشخاص لتشغيل كل مدفع، ثم أعطيت على عجل الإحداثيات  وبدأ المتمردون بإطلاق القنابل بشكل شبه عشوائي على مواقع القوات الحكومية.

توسل مساعدي الخوري بي كي أبقى في الداخل وألتحق به حيث كان جالسا مع مسبحته جوار العمود الأمتن  في الصحن، تحت القنطرة المركزية الأقوى. صحتُ مزمجراً: “ليأتوا”، ثم أرجحتُ مضرب الهرلي بأقصى ما يمكن أن تسمح به عضلاتي، فراح العرق ينز من جبهتي بقوة وسط حرارة الطقس المستقرة، الجافة. كان الناس الحاملون أطفالهم وممتلكاتهم يدخلون من خلال باب كنيستي ويتكدسون تحت الشراشف بين المصاطب الموضوعة واحدة جنب الأخرى، ولم أطلب أي شيء من أي شخص. كانت القوات الحكومية قد فرضت في البدء حصاراً خفيفاً، لكنها بدأت تشدده ببطء صوب داخل البلدة  يوماً بعد يوم، بينما كان المتمردون يسيطرون على مركزها.

كانوا قد جاءوا قبل ثلاثة أيام بملابس قتال رثة ودخلوا الكنيسة عبر بوابتها، وشكَّل ستة منهم صفين. كان حليم في النصف الأمامي الأول. وكان هناك مسيحيون ومسلمون ويهود ولا أدريون في الملجأ اللطيف الجو داخل كنيستي هرباً من عاصفة النار. قام الرجل الضخم الواقف أمامي بمد ذراعه إلى الخلف فأمسك حليم من مقدمة قميصه وسحبه بقوة إلى الأمام. نظر حليم إلى الأرض تحت عينيه قبل أن يرفع رأسه ويتطلع في وجهي وفي الحشد المتخاذل من جيرانه المتشردين، ثم أشار بأصبعه صوب تمثال السيد المسيح، اصبع طويلة مبسوطة من يد ترتعش.

كانت يده الأخرى تقبض على أخمص الرشاشة الخشبي. فجأة، صرخ عاليا: “اترك هذا المكان”. ولعل المفاجأة والنبرة العالية أفزعتني. ولم أكد متأكداً تحت وطأة الصدمة ما إذا كان يوجه كلامه لي أو للسيد المسيح.

“اترك هذا المكان، أبونا”، ردد كلماته دون أن ينظر في وجهي. أما رفاقه فوقفوا أمامي وخلفي، وراحوا يدفعونني من أمام ومن وراء حتى ضعفت ركبتاي فوجدت نفسي أركع فجأة.  ضرب أحدهم أخمص بندقية الأرضية أمامي. جاءني صوت آخر غير حليم: “منقذك على الصليب لن يساعدك إذا بقيت حتى الغد”. ثم أخِذ تمثال سيدنا المسيح وصليبه من فوق المذبح وضرِب بقوة على الأرضية ليتشظى فوق بلاطاتها. عند مغادرتهم شاهدت حليم يقف بجانب جرن المعمودية. شاهدته وهو يتطلع في هديته والكلمات المكتوبة على طولها ثم التفت إلى الوراء صوبي وكان لوجهه ظل ممتد فوقها دون تدخل الشمس في تشكيله، ثم غادر الكنيسة.

في اليوم اللاحق جاءوا ثانية، وفي هذه المرة لم تكن هناك كلمات تقال لي. كان أربعة منهم يعلقون بنادقهم على ظهورهم بينما أحاطني إثنان منهم، ووجهوا فوهات بنادقهم المتأرجحة ببطء صوبي. عرفتُ واحداً منهم لأنه كان أحد لاعبي الهرلينغ، وهو صديق حليم، شاب سعيد، متبسم، يلبس دائما قميص نادي أرسنال. سألني ذات مرة عن أفضل طريقة تمكِّنه من أن يصبح طبيباً. كم سريعاً يُسرق النور من الناس. راقب الأربعة الآخرون اللاجئين الجالسين على أرضية كنيستي،  ثم قبض كل منهم رجلاً ومضوا  يجرون أسراهم، الذين راحوا يبكون، صوب الخارج. وقفتُ آنذاك عند مدخل الكنيسة، وإلى يميني وقف مساعدي الخوري الشجاع، الذي اخترقت صدره رصاصة. كان بإمكاني أن أرى للحظة من خلال الثقب النازف في جسده صورة “مرحلة الصليب السادسة” على الجدار البعيد وكلمة الطيبة محفورةً تحتها، بينما كان أخمص البندقية يطلق نجوما وسماء تدور حول رأسي وتحته.

نهضت من الأرضية بعد فترة قصيرة، ورأيتُ كنيستي فارغة من أناس أحياء، والممتلكات الفردية مبعثرة فيها، تخبطتُ في خطواتي، مشيتُ ببطء عبر الفناء صوب البوابة ونظرتُ عبر عينيّ نصف المفتوحتين إلى الشارع.  ها أنذا أرى القس الارثودوكسي الذي قبلني واحتضنني قبل فترة قصيرة وناداني بـ “الأخ” وقام بتحكيم مسابقة الرمية الطويلة مرة أو مرتين، متمددا على الممشى القصير الموصل إلى كنيسته، وتحته سحابة من دخان أسود، وهالة من دم حول وجهه، بينما كانت نقاط من لهب تتراقص فوق عينيه المفتوحتين الجامدتين. كانت هناك حوله أيقونات رُتِّبت على شكل دائرة ثم أوقِدت النار فيها، وكان من باب الصدفة أن تكون على شكل قلب، ومن باب الصدفة أنني أفكر بهذه الطريقة.

من الصعب معرفة الحقيقة الآن. من المحتمل أن الأمور كانت دائما هكذا. أنا فقط لم أكن أعرف كم هو قاس حقاً معرفة أي شيء على حقيقته.

الآن أنا مستقر في الصحن، جالس على المقعد الخالي من مساعدي الخوري، الذي ما زال مستلقيا بلا حراك حيث وقع، وأرى من خلال الرواق والباب المفتوح أنهم عادوا، وكل ما لدي من سلاح ضدهم هو مضرب الهرلي هذا، مع كلمات، “حليم قسام، بطل سوريا في مسابقة  الرمية الطويلة لعام 2012” محفورة بخط جميل على امتداد دعامته المتقنة الصنع.

[1] Luay Abdulilah, Iraqi novelist and translator, residing in London since 1985

اقرأ ايضاً