رواية ( كوميديا الحب ألإلهي ) والذاكرة المعطوبة

2٬996

رحمن خضير عباس

كوميديا الحب الألهي اول عمل روائي للكاتب العراقي المغترب لؤي عبد الأله . بعد ان نشرمجموعتين قصصيتين وترجم رواية عن الأنجليزية . ويبدو أنّ روايته هذه قد كتبت على نار هادئة . فقد استغرق في كتابتها عقدا من السنين . وهذا ما جعل حروفها وافعالها تعانق جروحا عميقة في الذات العراقية التي تشظت في المنافي البعيدة . فمنذ الوهلة الأولى , تشعر بان الأحداث تمسك بك وتدعوك ان تبحث في متاهتها عن أزمنة بادت ولكن مذاقها ما زال طريا في الحلق , وعن امكنة إندثرت ولكنها مازالت شاخصة في الذاكرة . وعن ابطال يتصارعون بصمت بينما يسفحون ذواتهم وانسانيتهم على مائدة االعمر والأنتظار . تشابكٌ في الفعل ونقيضه . وكثافة في المشاعر , حتى تتحول الرواية الى لوحة موغلة بالتفاصيل, غارقة بالصور والمواقف والتأملات والأفعال , تؤطرها أزمنة مختلفة . تزدحم وتشتبك متأرجحة بين سمو اللحظات التأريخية وبين قاعها . اسئلة تتقافز بين صفحات الرواية . تصمت احيانا وتتفجر أحيانا اخرى .لتتصدى لماهية الفعل الأنساني وجوهر الخلق والحساب والثواب . اشياء كثيرة منها فقدان المنجز البشري . حيث تتعمق خيبة ابن القارح في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري , وهو يستجدي الذاكرة . يستصرخ أدباء العصور واعلامه فلا يجد فيهم من يتذكر المجهود الذي زرعه .وهاهم في فردوسهم ينساقون وراء ملذاتهم الحسية على حساب ثرواتهم الفكرية . اي علاقة بين تهويمات ابي العلاء في رسالة الغفران وبين ابطال الرواية ؟ أهي الذاكرة التي اريد لها ان تُجتَث وتُستَأصل من جذورها . تلك الذاكرة المعطوبة التي طاردت ابطال الرواية وهم في فردوس مهجرهم بلعناتها . اصبحت عبئا يلاحقهم . لذالك حاولوا ان يحصنوا انفسهم باستنزافها واغراقها بجزئيات المهجر .

هاهم ابطال رواية الكوميديا الألهية يترعون كأسا طافحة بالألم وهم يتجرعون الغربة قطرة إثر أخرى . عبدل الذي احرز اسمه من سرقة ازرار معاطف ضيوف ابيه وحالما علم ابوه بالخبر حتى غير اسمه من عبد الوهاب الى عبد النهّاب . ولكن الخشية من نظرة الناس جعلت الأب يتنازل عن موقفه فيسميه عبدل . وتستمر شخصيته القائمة على الأبتزاز واستغلال الآخرين . فهو شخصية لاتتورع عن الحصول على المنفعة ولو بابخس الوسائل وادناها . هجرته الى لندن لم تكن الآ بذات الدوافع . فهو لم يهرب من الأنظمة السياسية في بلده , وانما علم بانّ انكلترا تدفع حتى لمن لايعمل في إطار الضمان الأجتماعي . وقد وجد ضالته في فتاة انجليزية , تزوجها لتكون جسرا لأقامته وحصوله على الجنسية وجواز السفر . ان عبدل بشخصيته السلبية يمثل شريحة من المهاجرين الذين تفننوا بالحصول على المنافع . ولكن عبدل فاقهم جميعا , فقد رسم الكاتب له صورة سيئة كانسان بلا مباديء ولاقيم , لايتورع عن اقتراف اي فعل غير منطقي او غير اخلاقي اذا تعلق الأمر بمصلحته . وفوق ذالك فهو رجل شبه امي يمارس كل المهن طالما يربح المال من ورائها . وحالما استطاع ان يمتلك جوازا للسفر حتى هجر زوجته الأنجليزية , وعاد الى العراق للأقتران بإمرأة عراقية اسمها بيداء . أمّا صالح فهو نقيض لعبدل. اتى الى انكلترا هربا من ارهاب الدولة وسلطتها البوليسية . من خلاله نستطيع أن نتلمس ملامح مرحلة ما بعد انقلاب تموز 1968 ومجيء البعثيين ومن ثم انقضاضهم على الحزب الشيوعي ومحاولة تصفية كوادره .ولعل رحيله عن العراق كان يتزامن مع اعتقال زميليه اللذين صُفيا في اقبية قصر النهاية . كما انه كان شاهدا على سياسة ارهاب المجتمع من قبل نفس الأنقلابيين , وذالك حينما تم اعدام مجموعة من المواطنين في اكبرساحات بغداد بحجة التجسس . مما جعله يعيش كوابيس الخوف حتى في احياء لندن . حيث تطارده الملامح الحجرية لشرطي الأمن . كما انه يمتلك ثقافة عالية جعلته يستفيد من الثراء الثقافي الذي يوفره الغرب . ومن خلاله استطاع القاريء ان يتلمس عمق اهتمامات( اللندنيين) بالفن والسينما والمسرح والموسيقى . وفي ظل المعترك الحياتي للرواية ذاتها فقد كان ( وهو الكاتب الروائي ), منهمكا في انجاز الفصول الأولى من روايته ولكنه ليس بملاك , بل تختفي تحت ملامحه الهادئة اقنعة مشاغبة تتعارض ومبادءه . . فهو يقيم علاقة صداقة غير متوازنة مع شهرزاد مع انه غير مقتنع بها . لفارق العمر . لكنه يستفيد من موقعها كطبيبة توفر له ما لم يستطع توفيره : المال والجنس والعلاقات االعامة بعينات من المجتمع الأنجليزي . ولكنه لايبادلها المودة والرغبة التي يتظاهر بها امامها . كما انه ارتكب هفوة مع بيداء تشي بانه غير قادر على كبح نزواته حتى إزاء تابوات اجتماعية محرمة .لقد رافقته عقدتان : عقدة الماضي المرعب حيث الخوف من سلطة لاتتوانى عن القتل لأقل الأسباب , وعقدة الجنس التي رافقته منذ طفولته , حيث النسوة الفاتنات اللواتي يجئن بيت امه لخياطة الملابس مما جعله يذوب في الجسد عشقا ولايتورع عن ارتكاب علاقة مشبوهة ببيداء بنت خالة زوجته شهرزاد وزوجة صديقه وابن بلده عبدل .

شهرزاد هي الشخصية الرئيسية الثالثة في الرواية . تنتمي الى عائلة عراقية موسرة . وقد نكبت نتيجة لثورة تموز 58 وهاجرت العائلة الى انكلترا وشهرزاد كانت صغيرة انذاك. مما جعلها تكمل دراستها في انجلترا ثم تتخرج من كلية الطب . واثناء ممارستها لمهنة الطب تتعرف على احد مرضاها والذي تزوجته , وانجبت ابنتها الوحيدة هيلين . من خلالها يطل ّكاتبنا على تلك المرحلة واصفا بشكل عرضي بعض ظروف نكبة وابادة العائلة المالكة .ولعله – اي الكاتب لؤي عبد الأله – من القلائل الذين اشاروا الى هذه المرحلة روائيا دون ان يتعصب لها او عليها .وبعد ان مات زوج شهرزاد تبقى وحيدة , وحالما تلتقي بصالح حتى تجد فيه عزاءا لبقية العمر.

اما بيداء فتأتي الى لندن مقترنة بزوجها عبدل وهي بنت خالة شهرزاد , لذالك فتكون لها معرفة بصالح . وحينما انجبت طفلها البكر سليم ظهر متخلفا ومشوها ,وعلى الأغلب منغوليا لذالك احدثت هذه الولادة فجوة عاطفية مع عبدل . وجعلتها تعيش في اسوء حالاتها . ومع انها ولدت توأمين ولكنهما لم يستطيعا كبح شبح الوهم الذي ظل يطاردها ويعذبها . وحينما مات سليم بلغت علاقتها بزوجها حد الكراهية .

هؤلاء هم ابطال الرواية وقد جعلهم الكاتب ينتمون الى الجيل الستيني ممثلا بشهرزاد والسبعيني ممثلا بصالح والجيل الثمانيني فتمثله بيداء .لكن الزمن الروائي يبقى قلقا , غير مستقر , بل انه يتماوج احيانا بين مد وجزر , فما ان يطل بنا اطلالة قصيرة من زمن ما حتى ينتقل الى زمن آخر . وكأن الزمن يتمدد ويتوقف لينبعث من جديد في حركة تموجية .لقد فتح نافذة على نهاية الستينات وحالما يغلقها حتى يسارع الى فتح شباك ينتمي الى الثمانينات , وكأنه يقوم بخلطة كيمياء الزمن ليخرج بشبه استنتاجات وهو ان الزمن العراقي يدور على نفسه ولايريد ان يتخلص من جاذبية الألم . اما الشخوص الآخرون فكثيرون ولكنهم لايشكلون ثقلا فنيا ولايؤثرون كثيرا على مسار الأحداث.

لقد كان لؤي عبد الأله حاذقا في اصول شد خيوط الرواية ,وتقديم احداثها على هيئة جرعات صغيرة , بمعنى ان الحدث لايعطى كاملا, بل متدرجا ومن زوايا مختلفة . وهذا يجعل من السرد عملية تداولية بين ابطال الرواية . حينما حدث التحرش الجنسي بين بيداء وصالح على سبيل المثال , فكل واحد من هؤلاء الأربعة ينقله وفق عدسته وانطلاقا من زاويته , فينمو الحدث محاطا بمزيج من المشاعر المتضاربة ووجهات النظر والمخاوف وكأنه صورة ثلاثية الأبعاد . لذالك فالمادة الروائية لم تقدم جاهزة , فاحيانا تمر عبر منعرجات يتداخل فيها الوهم بالحقيقة .مثلا : هل مات سليم الطفل موتا طبيعيا ؟ هل قتله ابوه حينما باع كليته الى ابن صديقه عبد الوهاب ؟ او بالأحرى هل نقلت هذه الكلية الى شخص آخر ام هو جزء من هلوسات بيداء التي كانت تستنشق الحياة عذابا . لقد كانت بيداء تعيش بين الحقيقة والوهم وكأنها قد وقعت ضحية للفزع والخوف من كل شيء , كما وقعت في حالة من الأنفصام غير الحاد في الشخصية . لقد كان السرد خاضعا لعملية مونتاج على الطريقة السينمائية . فالتراكم في بناء الحدث يأتي على هيئة لقطات , تبرز وتختفي وتتصاعد ,مشحونة بالمؤثرات البصرية وحتى السمعية . فالسارد يوزع الأدوار ويتدخل في بناء الحدث وتقديمه . ولكنه اثقل الرواية وجعلها تتشتت , وذالك من خلال ازدواجية المسار الروائي . فنحن نعلم بانّ صالح كان يكتب روايته التي رأيناها في الفصلين السادس والثامن , لننتقل الى جو وحدث مستقل عن السياق العام .. يتحدث عن إمرأة اسمها حياة كانت مناضلة في معتقلات ناظم كزار في قصر النهاية , ولكن تعلق الجلاد بضحيته عاطفيا وجنسيا , بعد اغتصابها يرسلها الى انكلترا , اما للعلاج النفسي او الجسدي . وفي انكلترا تعيش في قفص ذاكرتها المهشم . يرسل لها ( المبدع ) قلادة فاخرة من الماس بيد احد زبانيته , ليذكرها بجسدها الممتهن الذي روضه الجلاد ليبقى له الى الأبد . ومن خلال هذا الفصل يتحدث لنا الكاتب عن شخصية ناظم كزار .

كبشر يحب ويعشق ويمارس بعض الجوانب الأنسانية . ويتصدى الكاتب المزعوم صالح للحياة الشخصية لناظم كزار وعلاقته بصدام . وكيف تجري مؤامرة مطار المثنى الفاشلة , وهروب ناظم كزار الى الحدود العراقية الأيرانية واختطافه وزيري الدفاع والداخلية ..الى آخر القصة المعروفة لدى العراقيين . سواء من قبل الرواية الرسمية للسلطة , او من خلال همس الشارع . كيف تم القبض على الجلاد من قبل زعيمه الذي لايقل عنه إجراما . من خلال عشيقته (حياة) نلمس بعض الجوانب الأنسانية لناظم فهو يحب ويكره ويشعر ببعض آلام ضحاياه , بل يقدّر فيهم صمودهم كقوله ” الذي نفشل في سلب إرادتهم , نضطر الى سلب أرواحهم ” ص188.كما يظهر لها انبهاره بالموت والمقابر , ويقع احيانا تحت كوابيس و أحلام مرعبة .كما كشفت لنا عن جنون المبدع وغرامه بلعبة الموت . ولا ادري هل استندت الرواية على بعض الوثائق , ام انها مجرد تصورات عن وجه بشع من وجوه مرحلة مرعبة حكمت الوطن , ودمرت ابناءه . ولكنني ارى أنّ الرواية الثانوية اضحت عبئا فنيا على الرواية الرئيسية . كما ان لدي عدة ملاحظات منها ان اسم المبدع لايتلائم وشخصية ناظم الفاشلة والتي لاتفهم سوى لغة القتل والأبادة . فهو لم يبدع الأ في التعذيب , اللهم الا اذا كانت التسمية جاءت للتهكم وتسمية الأشياء باضدادها . ثانيا ان المعلومات التي وردت عن المؤامرة اتت اما عن طريق السلطة , والتي نشك في دقتها , او من الأشاعة التي تفتقر الى الدقة ايضا . وفي كل الأحوال فان هذين الفصلين لم يخدما المضمون الفكري والشكل الفني لرواية كوميديا الحب الألهي .

لقد تصدت الرواية العربية الى موضوعة الهجرة عن الوطن , وآثارها النفسية على المهاجرين . ولعل الكاتب العراقي الراحل غائب طعمة فرمان قد تناول ذالك في روايتيه (المخاض) ثم( المرتجى والمؤجل) وهناك من الكتاب العرب من اشتهر بمثل هذا العمل وهو الطيب صالح في روايته المعروفة موسم الهجرة الى الشمال . ولااعتقد ان الكاتب لؤي عبد الأله قد اراد أن يحذوا حذوهم في تناول الهجرة . ولكنه كان يبحث عن مشكلة الجذر وما يترتب على اجتثاثه ونقله الى تربة اخرى . والجذور هنا ليست بمفهومها الإثني بل الأرتباط بالوطن . فكل الشخصيات الرئيسية قدهاجرت من الوطن لأسباب مختلفة ولكنها لم تجد حالة من الأستقرار في المهجر , وبقيت منجذبة الى ماضيها , او بالأحرى الى صندوق ذاكرتها الذي اصابه العطب . وربما عكس الكاتب الكثير من منعطفات تجربته الذاتية في المهاجر, التي اوشكت على الوصول الى عقدها الرابع واسقطها على الرواية . حتى انه اي الكاتب يصبح قرينا لبعض ابطاله كما انه يقوم بصياغة ابطال آخرين , إلتقطهم – ربما – من خلال تجربته في الحياة . وهذا يفسر من ناحية اخرى صدقه وأمانته في الطرح . لقد اغرق احداث الرواية في الماضي الذي يطارد الأفراد ويكبلهم ,لذالك فهم يلوذون في احلامهم وفي رؤاهم وفي وهمهم . حتى ان الوعي يأتي محاطا بغلالة رقيقة من الرؤيا , وهذا ينسحب حتى على الفصل الذي تناول فيه الفيلسوف العربي محي الدين ابن عربي وهو في تهويماته وتصوفه . حيث يبدو اقرب الى الحلم منه الى الواقع . وهذ يقودنا الى ان الكاتب استفاد كثيرا من ثقافته الموسوعية ,اتي تجلت في صفحات الرواية ابتداءا من الموروث العربي والأسلامي في صفحاته المشرقة , الى اغترافه من كنوز الأدب الأنساني . وقد انعكس كل ذالك تلقائيا من خلال إنطباعات ابطاله , او من خلال الوصف . لذا تظهر لمسات فنية تبين مدى انبهاره بمشاهير الفن التشكيلي الذين تبرز اعمالهم بين وهلة واخرى . كما تتجلى ثقافته في الموسيقى والنظريات الفلسفية والرياضية . وقد وظّف هذه الأمكانات لتزهو على مجريات النص .

لقد منح الكاتب لروايته بناءا معماريا مختلفا . فقد اهمل الحوار بشكل تام . فحينما تتصفح الرواية من بدايتها الى نهايتها , لاتجد اثرا لحوار مباشر بين ابطال روايته على الطريقة المسرحية . بل اعتمد على المقاطع الوصفية . وهنا تكمن صعوبة التواصل مابين ابطاله حيث منح لكل بطل كيانا منفصلا اوعالما مستقلا . ويتم التواصل بينهم عن طريق السرد والوصف والتحليل , فتنمو الأحداث وتتصاعد . اي ان الكاتب كان ينوء بكل هذا العبيء وكأنه ينحت ابطاله ومن ثم يُضفي عليهم ملامحهم .

اما اللغة الروائية فقد تميزت بالشفافية العالية حتى انها تقترب من الشعر احيانا . ولكنها تهبط احياتا اخرى للتتعثر بركاكة لغوية .ولكن أناقة اللغة هي التي سادت في الرواية حتى ان القاريء يتوهم احيانا بانه يقرا نصا نثريا مركزا. كما انه كان يسلح النص بالمؤثور من الحكمة سواء العربي منها او الغربي .
أوتاوة / كندا

اقرأ ايضاً