رواية ” كوميديا الحب الإلهي ” للؤي عبد الإله … الشخصيات بوصفها تاريخ بلد

2٬830

صحيفة تشرين
بتاريخ/ 08/02/2016
الكاتب/ بديع منير صنيج

بين لندن في عقود الستينيات والسبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي والفترة ذاتها في العراق، وبين دمشق خلال القرن الثالث عشر أثناء سنوات المُتصوِّف ابن عربي الأخيرة،

 ينسج «لؤي عبد الإله» روايته «كوميديا الحب الإلهي» (دار دالمون- دمشق) جاعلاً من مقولة سقراط «الحياة غير المختبَرة لا تستحق أن تُعاش»، صِراطه في رسم شخصيات عمله الروائي على اعتبارها من ممكنات الوجود التي يستطيع الحب، وحده، أن يجعلها قادرة على صياغة منعطفات حياتية، سواءً أكان ذاك الحب موجّهاً تجاه الجسد فقط، أم مُندغماً مع عاطفة الأمومة، أم متجسداً من خلال سطوته على عالم الأفكار التي في إمكانه أن يُحلِّلها من جميع عناصر قوتها، وجعلها مطواعة بين يديه.
أربع شخصيات أساسية جمعتهم العاصمة البريطانية: «عَبْدِلْ» الطامع بكسب المال والوصول إلى الثراء بعد أن كشفت طفولته عن قدرات ذهنية تجارية عالية، و«بيداء» التي لم تفكِّر البتة بالخروج من بغداد، لكن زواجها من «عبدل» جعل منها امرأة تعيش وفق القيم العراقية في لندن، و«شهرزاد» ابنة عمة بيداء، طبيبة متحررة من كل التقاليد وتعيش على هواها في عاصمة الضباب، التي التجأت إليها إثر خروج عائلتها من العراق بعد ثورة الرابع عشر من تموز ١٩٥٨، و«صالح» الهارب من رجال الأمن في بغداد، والطامع بخوض غمار التجارب الحياتية لإغناء شخصيات روايته.
من خلال لقاءات هذه الشخصيات الأربع وحواراتهم، وعبر تداعيات أحلامهم وهواجسهم وتناقضات أفكارهم، استطاع «عبد الإله» أن يُقدِّم لنا صورة عن تاريخ العراق المعاصر، من خلال الربط المتواصل بين ماضي الشخصية وحاضرها، والمتغيرات الحاصلة في أسلوب عيشها وتفكيرها، مع رصد المخاوف وانعكاساتها في مُضارع كل منها، إلى جانب التأكيد على أن «الشخصية هي مصيرها» عارضاً لمروحة الخيارات التي فُتحت أمام كل منها، وكيفية اتخاذ القرار وفق الخصوصية النفسيّة التي طرّزها بعناية، مع تحليل عميق لمكامن الضعف والقوة في كل شخصية، وكأننا أمام جلسات لعلم النفس يقوم فيها الروائي بتشريح علمّي دقيق لشخصياته والمآلات التي وصلت إليها، لكن من دون أن تفتقد، ولو جزءاً يسيراً من حيويتها، إذ تستشعر بأسلوب الكتابة ضيقها وفرحها، حيرتها وجنونها، نبضها وأصوات تنفسِّها، حتى إنك تُحسّ كأنك تعيش في تيارات وعيها، وتفتُّح خياراتها على الحياة، ومن ذلك تلمُّس الفارق الكبير بين عبدل وبيداء بعد ولادة ابنهما البكر «سليم» الذي يُعاني متلازمة داون، فعبدل استدعى غيبياته الخاصّة وغضب والده منه، معوّضاً الغرابة التي استشعرها من ابنه بمزيد من الجنس مع زوجته لولادة أبناء معافين يليقون به، وكانت النتيجة توءماً وبعدها مباشرة طفلة، في حين أن بيداء كانت تستشعر قوّتها في تعاطيها الإيجابي مع ابنها «سليم»، وفي الوقت ذاته في الرضوخ لرغبات زوجها ومزاجيته، على قسوتها في كثير من الأحيان.
جاء في الفصل السادس من الرواية ص166: «ما ظل يحضرها هو ذلك الصوت الذي اخترق كينونتها كنصل حاد: «السيدة حياة؟» وحينما يغيب، تحل محله تلك النظرات المفترسة، التي بعثت فيها شعوراً غريباً تستطيع الآن فقط أن تكتشفه: شعوراً بأنها عارية. كأنها كانت تحت تأثير أشعة لا تكتفي باختراق الملابس بل تمضي إلى أعمق الأعماق: إلى العظام والأحشاء والسوائل، مؤكدة حقيقة واحدة: جوهر الإنسان هو الجانب البهيمي فيه».
وكما جاء في توصيف ما يكتبه صالح «مثلما هو الحال مع رسوم سيزان، تنطلق روايته من الواقع وتنتهي بتمثيل مختلف عنه» هكذا اشتغل «عبد الإله»، فغنى الشخصيات، لم يكن بهدف استعراض سيرة ذاتية ونفسية لكل منها، القصد أبعد من ذلك، فمن خلال الكشف عن كوامن الشخصية وذكر الأحداث المفصلية التي حدثت لها، كان هناك استعراض موازٍ لتاريخ بلد بأكمله، بعاداته وتقاليده، بالحريات السياسية والاجتماعية والفكرية فيه،… وليس التنقّل بين ذكريات سجن القلعة وسطوة «المبدع» اليد اليمنى لـ«الزعيم» على معظم مفاصل الحياة في العراق، إلا إشارة إلى الثورة التي أطاحت بحكم الملك فيصل جاعلةً من العراق جمهورية، لم يلبث زعيمها «عبد الكريم قاسم» أن تحول من زعيم للثورة إلى زعيم أوحد، جمع بيده كل السلطات، واستحوذ على مراكز صناعة القرار، وجعل كل الصلاحيات من شأنه وحده من دون مساعدة أحد بعدما كان يرى أن «العراق وحدة عسكرية والمواطنون هم جنودها».
يُمارس الروائي عبد الإله لعبة الأسماء في انعكاساتها الوجودية، إن صح التعبير، فمنذ الفصل الأول يطالعنا بتغيير اسم عبد الوهاب إلى «عبدِل» بسبب اكتشاف الأب لمجموعة من الأزرار الملونة التي جمّعها ابنه الصغير من ملابس الضيوف، لنتلمس تجسيده لمقولة «لكل امرئ من اسمه نصيب»، اسم بيداء أيضاً كان تجسيداً لقحط المشاعر الزوجية وتصحرها، حتى روتها في النهاية أمطار «صالح» الذي وجد فيها نقيضاً تاماً وقاسياً عن «شهرزاد» التي تلفت أنظار الجميع بحديثها وأفكارها الجريئة، بينما تعيش «حياة» موتها بطريقة مجازية، لأنها بقيت أسيرة عذاباتها التي تلقتها في القلعة، ولم تتحرر منها حتى بعد إعجاب «المبدع» بها، وتخليصها من براثن الألم الجسدي، نتيجة الضرب، والاغتصابات المتكررة، والوحشية التي كانت تُعامل بها، لتعيش بعد ذلك حياتها بصمتٍ كموديلٍ عارٍ في إحدى كليات الفنون الجميلة في لندن، ولتتفتح مشاعرها من جديد على يد أستاذ الرسم «توماس» الذي أعاد جزءاً من كينونتها كإنسانة، ورمم ثقتها بخصوصيتها كفرد وككائن حي، ويستمر الروائي بفلسفة أسماء شخصياته عبر الطفل «سليم»المُصاب بمتلازمة داون، لكنه الأقدر من بين الجميع على معايشة الصواب، والدفاع عنه بكل قوته، عبر مشاركة الجميع بالحب من دون مقابل، بما في ذلك دفاعه عن الشحرور على الشجرة المقابلة لنافذة غرفته بعدما دهمته قطة تريد التهامه، الأمر الذي أدى إلى سقوطه من النافذة ثم وفاته، بعد أن كان صلة وصل أمه «بيداء» بعالم الشفافية المحضة.
يقول على لسان إحدى شخصياته «للإنسان قدرة هائلة على مشاهدة أي فظاعة من دون اكتراث. شرط أن يكون مع حشد كبير من المتفرجين. ألن تفزع لو أن ما شاهدته اليوم حضرك أمس كحلم؟» إنه الاشتغال على تيار الوعي والأحلام والتداعيات المستمرة للأحداث والأشخاص، وكأننا أمام دفق متواصل للسّرد، تتجدد حيويته باستمرار وبتصاعد تشويقي جاذب، ويبدو أن عبد الإله يستمع لنصائح شخصياته، كالنصيحة التي وجهتها شهرزاد لصالح بقولها: «هدفي من كل ذلك هو تخليصك من الأوهام التي تحملها عن نفسك.. أنت لن تكون كاتباً قبل أن تتعلم الصدق»، نعم إنه الصِّدق الفني القادر على التأثير في نفس القارئ، صدقٌ نتلمسه في دقة السّبك والعناية الكبيرة بالمعمار الروائي، ومزيج الأفكار بين الفلسفة والتحليل النفسي والأسطورة والتاريخ التي حمّلها لشخصياته مؤسّساً لشعريتها وإيقاعها في عيش أكثر من غربة في آن، غربة الوطن من جهة، والغربة النفسية الشعورية من جانب آخر.

اقرأ ايضاً