ضحكات آخر الليل*
ضحكات آخر الليل*
كانت آخر عربات الدرجة الثالثة غاصة بالناس، مساء ذلك الخميس، والهواء ثقيلاً مشبعاً بالغبار والقيظ، جعل العرق ينضح غزيراً فوق الوجوه، فراحت الأيدي تمسحه، دون جدوى بالمناديل المبللة. قالت أمه: “لا تطلّع راسك من الشباك”. لكن الجلبة حولهما منعته من التقاط كلماتها، إذ تدافعت في الداخل نداءات الباعة المتجولين اللحوحة مختلطة باللعنات المنصبّة على رؤوس الحمّالين الصغار. ومن مقدّمة الرصيف المقابل لاحدى مقصورات الدرجة الأولى، لعلعت زغاريد العرس المحمومة، وسط ضربات الدمّام وصفير البوق النحاسي.
سحبته أمه بعنف من كتفه، كازّة على أسنانها: “اقعد بمكانك ولا تتحرك”. ومن عينيها الصغيرتين تطاير الغضب صوبه، فمنعه من الاستفسار عن السبب.
قال ابوه مخففاً عنه: “مو عينك تتأذى من التراب”.
قالت سلمى متباهية: “آني أبداً ما اطلّع راسي من الشبّاك”.
قالت أمه: “انتِ أعقل منه”.
لكنها لم تلبث أن أسترضته، حينما أعطته نصف برتقالة، فزال الانقباض والخوف عنه، قدّمت النصف الآخر إلى اخته، ثم عادت ترجرج بمروحتها اليدوية الهواء القريب من وجهها، وأحياناً تنقّلها إلى وجهي طفليها.
قال أبوه: “كان أحسن لنا، لو قاعدين بالدرجة الثانية”.
قالت أمه محتدّة: “جداً غالية هناك”.
قال أكرم لأخته: “خلّي نحرّك القطار”. فهزت رأسها موافقة. أمسك كلاهما بذراعي مقعديهما، وراحا يدفعانهما بكل قوتيهما. ارتفع صفير القطار طويلاً. تنفس الناس الصعداء، واعينهم تحدق في الرصيف نصف المضاء، حيث انتشر بخار الماكنة فوقه، في تلك اللحظة، انفتح باب العربة، صعد اليها رجل أشعث، ممزق الملابس، بلحية طويلة وحذاء عتيق، تتبعه امرأة عمياء، مرتدية عباءة مرقعة بقطع قماش بيضاء وحمراء. انتشر هسيس تلك الكلمة بين الجمع:”مجنون”. ثم راحوا يراقبونه في حذر. نهض جندي تاركاً مقعده للمرأة، لكن مرافقها جلس بدلاً عنها، مما دفع الشخص المجاور له، إلى التخلي عن كرسيه، فاسحاً المجال لهما لاحتلال المصطبة الخشبية ذات المقعدين.
صفر القطار آنذاك، مرات عديدة، وعلى الرصيف ظهر رجل عجوز يحمل قنديلاً، ملوّحاً به للسائق من مؤخرة المحطة. قال أكرم لاخته بانفاس مضطرمة، لحظة اهتزاز العربة: “ادفعي بقوة”. ولم يتوقفا حتى اندفع القطار في حركته دون تقطّع. رفع رأسه إلى ابويه، سعيا لكسب رضاهما عنه، لكن أمه كانت منكبة في متابعة المرأة العمياء والمجنون، الذي اندفع في الحديث مع أقرب رجل قربه: “هذي أختي”. ابتعد الآخر عنه قليلاً، خوفاً من تهوره. التفت إلى العمياء هذه المرة:
ــ تعرفين احنا وين رايحين؟
ــ إلى بغداد؟
ــ لا إحنا مسافرين إلى أمريكا.
تضاعفت سرعة القطار، امست قرقعاته شبيهة بضربات سنابك الخيل، مما جعلت أكرم يحول العربة إلى حصان جامح، والهواء إلى لجام جلدي، ضارباً بببببحذائه طرفي بطنه. تحركت الأشياء باتجاه معاكس لهم: الأشجار، الأعمدة الكهربائية، السيارات والأبنية. كان القمر قد تسلق آنذاك سلسلة الهضاب البنية المتوازية مع السكك الحديدية فمضى يلاحقهم باصرار شديد. سأل أكرم أباه:
ــ القمر اكبر لو المخدة؟
ــ القمر.
ــ يعني هو بْقَدْ بيتنا.
ــ لا، أكبرْ بكثير.
انطلق الجنود، الجالسون حول مصطبتين متقابلتين، بالغناء. حلّ البعض منهم احذيتهم العسكرية، فتخثرت في الهواء رائحة عطنة. وبعضهم استلقى على الرفوف الخشبية المخصصة للحقائب، قريباً من سقف العربة، وهم يتبادلون الحديث والضحك مع رفاقهم الجالسين على المقاعد، مثيرين حنق الآخرين الصامت، عليهم. لكن الصوت الدؤوب، الرتيب، الذي تبعثه اهتزازات القطار المنزلق على السكة الحديدية، ونسمات الهواء المتسربة من النوافذ المفتوحة، قد بعثت الهدوء والصمت فيهم، أخيرا، فراح بعضهم يراقب خطوط المصابيح المحمولة على صفوف الأعمدة الكهربائية، حيث تختفي من وقت إلى آخر، تاركة فراغات من الظلمة المنبثة فيها نجوم متلألئة.
انفجرت ضحكات المجنون الصاخبة، فافزعت بعض الركاب الذين التفتوا إليه بامتعاض. “شوفي احنا شْلون طايرين بالهوا”، قال لاخته التي ظلت ماسكة بالمقبض البارز من المقعد المقابل لها، يتقلص وجهها عن ابتسامة غريبة. “هسة تشوفين قصري شْقَدْ كبيرْ”، ولم تقابله إلاّ بهزات رأسها المتشككة. “انت ما تريدين تبقين عندي، مو تمام؟”، وقبل أن تجيب بشيء، اندفعت يده ضاربة مؤخرة رأسها. تصاعدت انفاسه حادة، توترت عضلات وجهه، لكنه، فجأة، احتضنها: “هذا النمل براسي مرات يهيّجني”.
قالت سلمى لامها: “آني جوعانة”. فناولتها بيضة مسلوقة مقشرة وقطعة خبز. اقترح الأب اعطاء شيء من الأكل للرجل الأشعث ومرافقته، فوافقت زوجته. أخذ أكرم لفّة خبز بجبن إليهما. وحينما قدمها إليهما بوجل، امتلأت عينا المجنون فرحاً. قال أكرم لاخته: “عينَهْ حَمْرا مثل الدمْ”.
وشيئاً فشيئاً، غمرهم الخدر تدريجياً، واول من وقع في شراكه الأطفال: نام أكرم وسلمى، متّخذاً كل منهما حضن واحد من ابويهما مخدة، وظلت عباءة الأم مشدودة على الرأس. نام الجنود والعمياء، وظل المجنون مسكوناً بالصوت الذي بدا له كصدى طلقات بعيد، فيردد مفزوعاً: “حَرْبْ، حَرْبْ…ضَرْبْ، ضَرْبْ”، مقلّداً ايقاع نبضات القطار، متمتعاً بالضوء النيوني الهابط كأشرطة ملونة فاقعة على عينيه.
توقف القطار في محطة جلولاء. نزل البعض من الركّاب، وصعد شرطيان، احدهما برتبة عريف. انسلا بهدوء وسط الركاب حتى وصلا إلى المجنون، فوقفا جنبه قاطعين الطريق عليه، وقبل أن ينتبه إليهما، اطبقت على معصميه الأصفاد، وبخركة لا إرادية همّ في النهوض للتخلص منهما، لكن العريف ضغط على كتفيه ضغطاً قوياً حتى أعاده الى مقعده.
قالت العمياء: “خير إن شاء الله”؟
قال الشرطي: ” ماكو غير الخير اختي”.
قال العريف: “صارْ له أكثر من شهر هارب من المستشفى”.
تمتمت العمياء: “وآني”؟
دمدم المجنون: “سكارة..سكارة”، مشيراً بسبابته ووسطاه إلى فمه، فقدم الشرطي له واحدة. قال العريف، ضاحكاً، معاتباً إياه: “تعّبتنا كْثيرْ ويّاك”. قال المجنون: “آني مثل اخوكم”. ثم ضرب اخته بطرف كوعه، صارخاً: “انتَ خبّرت الحكومة عني”. فراحت تعول بنشيج متواصل. لكنه ما لبث أن استرضاها حتى غفت ثانية.
ظل الشرطيان يدخنان في الفسحة المقابلة للباب.
قال الشرطي الشاب: “ليش ما نخلّيه يروحْ بدربهْ”؟
قال العريف: “آني عندي عائلة واخاف أتأذّى. انت بعدك بلا اي مسؤولية”.
صمت الشرطيان. تسلل النوم،مرة أخرى، إلى اعين المسافرين، وظل المجنون يغني، بكلمات مهشمة، لا معنى لها، برفقة الدوي المتواصل للقطار، والبدر الذي ظلّ يبادله الحديث والضحكات طيلة بقية الرحلة…
لندن 1989
*من كتاب “العبور إلى الضفة الأخرى”، عن دار الجندي، 1992، دمشق