عبد الإله النعيمي: التسامي في أجمل تجسداته
كلما حضرتَ الى الذاكرة حضرت معك زهرة النيلوفر: لكأنك قلدتها في مسار حياتك، فهي تقضي كل عمرها في الماء من دون أن تتبلل.
أعرف ان رسالتي هذه جاءت متاخرة لكني مع ذلك أجد كتابتها تخفيفا كبيرا عما يعتلج في النفس من شعور بالضيق، فحتى مع ندرة اللقاءات التي جمعتنا خلال ربع القرن الأخير، كنت حاضرا دائما في وجداني ووجدان أولئك الذين عرفوك خلال سبعينيات القرن الماضي.
كانت بغداد آنذاك ساحة تغص بفنانينها وكتابها ومثقفيها، وكان كل منا حرا في اختيار أصدقائه الخلّص الذين تنتظم اللقاءات بهم، وكم كنت محظوظا ان أتعرف عليك وأن نكون ضمن مجموعة صغيرة نلتقي بانتظام كل نهاية أسبوع: ليلة الخميس التي كنت انتظرها بفارغ الصبر، حيث مقهى ‘المعقدين’ يجمعنا ومنه الى شارع ابي نؤاس بحاناته الأنيقة وحدائقه المفتوحة قرب دجلة.
أتذكر أنك كنت تعمل في وكالة أنباء ألمانيا الديمقراطية مترجما، ولعلك بدأت بالعمل هناك قبل تعارفنا بسنوات قليلة، ربما بعد عودتك من إنجلترا .
لم تتح لي فرصة للاستفسار عما اكتسبته من زمالتك الدراسية التي جاءت (وهذا افتراض مني) لتفوقك في الدراسة الثانوية، لكنك اكتسبت خلال سنوات إقامتك في لندن آنذاك ما لا تقدمه الجامعات لطلابها: فأنت كنت هناك خلال أوائل الستينات، حين كانت مدينة مثل لندن تشهد أكبر ثورة ثقافية عاشها الغرب، ولا بد أن بصماتها وبصمات طبقتها المتوسطة المتنورة تركت آثارها العميقة في روح شاب لم يتجاوز بعد العقد الثاني من عمره.
صحيح انك عدت دون ان تكمل دراستك الجامعية، لكنك جئت بموروث غريب علينا الى حد كبير: كانت روح الدعابة ( التي تختلف عن السخرية المقللة من شأن الاخر) علامتك الفارقة: التقليل من شأن المنغصات والمصائب عبر الفكاهة الذكية : اكتشاف المفارقات المختبئة بين ثنايا الأحداث والتعبير عنها بتعليقات مكثفة، لكنها تضرب في الصميم كدعابات سوداء تصف الحالة بدقة، وتبقى عالقة طويلا في ذاكرة أصدقائك .. أتذكر ذات مرة في شهر آب حين غطت سماء بغداد عاصفة ترابية، فجعلت لونها أصفر كابيا تمنعنا من القدرة على التنفس بطلاقة، مع حر شديد تقترب درجته من الخمسين مساء.. كنا حقا في يوم جهنمي نادر … وجاء تعليقك ونحن جالسون على الرصيف الملاصق للمقهى الصغير بردا وسلاما: “كم سيكون رائعا لو أن هذا الحر يأتي في شهر شباط …” وكأن الحر انقلب في نفوس البعض، الى دفء وسط صقيع شباط الذي كنا نتدثر خلاله بالمعاطف بفضل الصورة المرحة التي أثرتها في نفوسنا.
كم كنتَ مختلفا عنا بتبنيك ذلك الأسلوب الإنجليزي الذي يُطلق عليه تعبير understatement : التقليل من شأن الفرد لنفسه، وتجنب الحديث عن الذات الا باستكشاف نواقصها بدلا من المفاخرة بها التي خصص الشعر العربي الكلاسيكي حقلا بارزا لها يطلق عليه الفخر.
في الوقت نفسه تجنُّب المبالغة التي تكون في الغالب مشحونة بعواطف زائفة في وصف المشاكل والمكدِّرات بشكل ما، والتي هي سمة عراقية بامتياز.
كذلك كنتَ (كما هو الحال) مع الإنجليزي المتعلم بشكل عام تتجنب الدخول في جدل يؤول الى مشاحنات كانت مقاهي بغداد وحاناتها تعج بها .. كان حضورك وحده يخفف كثيرا من حدة المواجهات اللسانية حول قضايا سياسية عديدة بين صفوف اليسار العراقي .. كنت المنظم الحراري (الثرموستات) في جلساتنا المسائية حيث اللطف والطرافة وروح الدعابة والتواضع والتخفيف من تضخم الأنوات الشائع وروح المبالغة ..
التوازن الداخلي الهرموني الذي كنتَ تعكسه بين أصدقائك كانت علامتك الفارقة في عالم محكوم بغياب التوازن والتطرف بما فيه مناخه …
لكني لم أتوصل الى حقيقة أخرى كانت وراء حضورك الجميل الذي قد يعطي انطباعا بأنك إنسان سعيد من دون وجود فلسفة ما وراءها، وأفترض أن قراءاتك الواسعة خارج إطار الدراسة العلمية التي ركنتها جانبا أوصلتك بشكل ما الى الاقتناع بمبادئ الفلسفة الرواقية ومؤسسها الفيلسوف الإغريقي زينون، التي ترى أن الفضيلة هي الشيء الجيد الوحيد للجنس البشري، وأن الأشياء الخارجية من صحة وثروة وبهجة ليست جيدة أو سيئة في حد ذاتها… وهذه الفلسفة ترى أن أفضل دلالة على فلسفة الفرد ليس في ما يقوله بل في تصرفه .
غير أن حالة الانسجام الداخلي مع الذات والعالم الخارجي يكمن وراءها يأس عميق خلاق يوازيه ذلك اليأس الذي عاشه صموئيل بيكيت وعّبر عنه بسوداويته عبر الرواية والمسرح والشعر، أو ما عّبر عنه بوذا بتبشيره بأن السعادة الحقيقة للإنسان هي بلوغه حالة النيرفانا أي حالة الانطفاء بالخروج تماما من سجن دورة الوجود المتكررة أو ما يسميها بالكارما..
أتذكر ما قلته لي في آخر لقاء جمعنا من أنك تترجم كتابا ضخما عن كيركجارد بناء على طلب من دار المدى .. تلمستُ فرحة في نبرتك لأنك أخيرا خرجت مما اعتدت ترجمته من دراسات تاريخية واجتماعية مهمة، لتعود أخيرا الى ذلك الدنماركي الناسك الذي ظل مشغولا طوال حياته برعب الاختيار الذي وجد ابراهيم نفسه أمامه: بين ذبح أعز ما لديه في الوجود أو التمرد على الرب .. كانت هناك ابتسامة وأنت تشركني بهذا السر المفرح … ولعل فكرة راودتني بأن الكثير من وسطنا كرروا بشكل ما تجربة إبراهيم في خياراته: حيرة ما بين خيارين أحلاهما مرّ… كنت أعول النفس بالحصول على ترجمتك التي ستكون مفتاحا طال انتظاره لفهم هذا الفيلسوف في المكتبة العربية ..
في أعماقك ظل اليأس الخلاق مصدرا لبهجتك، وغياب ذلك الحافز في التنافس مع الذات ومع الآخرين لبلوغ مجد وهمي جعلك إنسانا حكيما يطل بحب غامر على أصدقائه ليمنحهم دون قصد قدرا من توازنه واعتدال مزاجه ورواق روحيته..
تُرى كيف واجهتَ ذلك الزائر الكالح الوجه الذي طلب منك مرافقته من دون شرط أو تأخير سوى الهمس في أذنه .. بأنك هيأتَ نفسك لمرافقته منذ أكثر من نصف قرن .. منذ أن تركت دراستك الجامعية في بريطانيا وانصرفت حرا في عالم المعرفة من دون هدف سوى المعرفة بذاتها …
مع فجيعة الفقدان برحيلك المتعجل، هناك شعور عميق بالامتنان لك من أنك أصبحتَ ركنا مضيئا من عالمي الداخلي.
كم أغنى حضورك حياة الكثيرين من أصدقائك وزملائك بمزاحك وصمتك وحكمتك ونبلك
وكم ترك رحيلك السريع والمتعجل غصة دائمة في نفوسهم…
18 آب 2019