مفكرة بغداد: يوميات العودة إلى مسقط الرأس(1)
المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004، بيروت
مقدمة
بعد عودتي إلى لندن بأسبوعين قررت أن أفتح الدفتر الذي ظل مرافقا لي أثناء بقائي في بغداد ودمشق. كان السؤال الذي دار في ذهني: هل يمكنني قراءة ما كتبته تحت ظروف وأماكن مختلفة: أحيانا تحت ضوء الشمس أو المصباح وأحيانا تحت ضوء الفانوس. النتيجة هي عبارات شبيهة بالبرقيات تبدو كأنها بدون أواصر عدا عن كونها كتبت في ذلك المكان الذي تركته قبل 26 سنة على أمل أن أعود إليه بعد عامين أو ثلاثة. أتذكر آخر شيء من بيت العائلة، سوره الواطئ وبوابته السوداء. وأتذكر أمي وهي ترمي بسطل من الماء ضمانا لعودتي السريعة. وهذا ما حدث بالضبط. لكن البيت بيع أكثر من مرة وأصبحت معالمه مختلفة تماما عما كان عليه، والأم غادرت عالم الأحياء. استرجع جملة غوته الساحرة: ما يدور في رؤوسنا أكثر بكثير مما نقوله. وما نقوله أكثر بكثير مما نكتبه. فكيف هي الحال عندما تكون النصوص مفككة مثل هذه اليوميات؟ هناك مصادفة واحدة في سفرتي: مشاركة الصديق الشاعر فاضل السلطاني معي. كلانا خرج في نفس العام: 1977. وبعد سفرة مشتركة صوب دمشق افترقنا هناك: هو اتجه إلى المغرب وأنا اتجهت إلى الجزائر. وها نحن نعود معا أيضا على نفس الطريق.
إشارات غامضة
16 نوفمبر
بدأت الرحلة اليوم. كان الصباح مدهشا في زرقة سمائه وهدوئه. والاشجار نصف العارية تشبعت بطل الخريف الذي تمتاز به لندن عن جدارة. وصلت إلى المطار في الساعة الثامنة والثلث لأكتشف وأنا في الطابور الموصل إلى نقطة تسليم الحقائب أن موعد السفر هو الثامنة وخمسين دقيقة. كان ذلك مكتوبا في تذكرة الطائرة نفسها! لم يصل فاضل. اتصلت به عبر الهاتف الجوال ولم أحصل على أي جواب. انتابني شعور أنني سأسافر لوحدي، لكنه وصل قبل تسليم الحقائب بأقل من دقيقة. قال ضاحكا: إنها إشارة أخرى تحذرنا من السفر!
في الطابور كان هناك مزيج من أناس ينتمون إلى شبه القارة الهندية: هنود وباكستانيون وبنغلاديشيون، إضافة إلى عدد كبير من السوريين. وكان ممكنا تمييز انتماءاتهم من لحاهم وملابسهم. البعض كان يخرج زجاجات صغيرة من جيوبهم فيها عطر خاص محلي ليضمخ لحيته الكثة بينما كان البعض يكتفون بتلمسها باصابعهم.
كان وقت صعودنا إلى الطائرة العاشرة والنصف. وبفضل هذا التأخير في وقت الانطلاق تمكنا من السفر.
17 نوفمبر
أثارت المفارقات التي رافقت سفر فاضل قدرا من التطير لدينا معا. التأجيل المتكرر لبدء الرحلة، ومصادفة اختفاء بطاقته، ثم اكتشاف بطلان تأشيرة الدخول السورية قبل ثلاثة أيام من سفرنا بعد نفاد فترة صلاحيتها القصيرة. استيقظت في دمشق هذا الصباح مبكرا على الشمس الصاخبة. لم أنم أكثر من أربع ساعات، لكن شعورا بالاكتفاء الوهمي من النوم أيقظني مع تسرب ضوء الصباح إلى الحجرة. استيقظ معي شعور خفي بالخوف، وتساؤل عن مبرر القيام بهذه السفر الآن على الرغم من حوادث الطريق الناجمة عن محاولات السلب أو تفجير السيارات عن طريق الخطأ، إضافة إلى ما يتردد في الإعلام من تصاعد أعمال المقاومة للاحتلال وما يرافق ذلك من قتل عشوائي للمدنيين.
أعيد قراءة هذه السطور التي نقلتها في دفتري عدة مرات والمقتطفة من “الحرب والسلم” لتولستوي: “الأفراد ليسوا سوى أدوات غير طوعية في التاريخ ينفذون الأهداف المخفية عنهم”. أواصل القراءة في مقطع آخر: “تدفع العناية الإلهية هؤلاء الناس، كلا لوحده كي يصلواإلى غاياتهم الشخصية ولكن هذه الغايات المتفرقةتجتمع مع بعضها البعض كي تحقق غاية جد عظيمة، وتختلف عن كل توقعاتهم، وهذا ينطبق على نابليون والاسكندر المقدوني والقادة العسكريين الذين خاضوا المعارك”.
أعيد كتابة الفقرة الأخيرة ثانية بعد إقحام أسماء أخرى لتصبح هكذا: تدفع العناية الإلهية هؤلاء الناس… وهذا ينطبق على نابليون والكسندر وبوش وصدام وبلير والقادة العسكريين الذين خاضوا الحرب.
أقرأ هذا المقطع المدهش الذي نقلته من استنتاجات تولستوي، وفيها يرى التاريخ كشكل من الميتافيزيقيا: يعيش الإنسان على مستوى الشعور لذاته لكنه على مستوى اللاشعور هو ليس سوى أداة للوصول إلى الغايات التاريخية العامة للجنس البشري. ليستنتج في الأخير بأن “التاريخ هو حياة القطيع اللاشعورية للجنس البشري”.
17 نوفمبر
اتصلت أمس بمكتب سفريات عراقي كنت قد أخذت رقم هاتفه من الصديق مظهر عباس. قال لي مؤكدا قبل توديعه في لندن: “يجب أن يكون السائق موثوقا به”. ولم تثر ملاحظته إلا شعورا غريبا بالاضطراب، فهذا البلد الذي تركته قبل أكثر من ربع قرن كان مثلا أعلى للأمن. وعلى الرغم من كل ما سمعته عن التحولات التي طرأت عليه تظل الذاكرة مقاومة للقبول بأي تغيير: هذا هوشرط الحنين. اعطتني نبرة المتحدث على الطرف الآخر من المحادثة الهاتفية انطباعا بأنه في سن العشرين بينما منحتني لهجته البغدادية الصرف شعورا بالطمأنينة. اتفقنا على السفر غدا في الساعة الثالثة والنصف صباحا. سيأتي زميله بسيارة أطلق عليها “الدولفين” ليأخذنا من أمام فندق الشام.
17 نوفمبر
يخامرني شعور باللامبالاة لدمشق هذه المرة مخالف لما كان يعتورني تجاهها كلما زرتها. فهي قد ظلت الأم البديلة عن بغداد. في ثنايا أزقتها القديمة استحضر عالما لا بد أنه انقرض تماما الآن: بغداد القديمة التي قضيتُ أول سبع سنوات من حياتي في حناياها. لم يكن ما يحضر إلى روحي تفاصيل الطفولة التي اختفت تماما من سطح الشعور بل ذلك الإحساس الغريب بأن روحا سبقت أن طوفت في مكان شبيه بهذا المكان. تناسخ آخر في عصر آخر. لكن ما يثير البهجة في النفس هو أن دمشق القديمة تتخللها أشجار الكينا بعكس أزقة بغداد القديمة الخالية من أي أثر نباتي. كأنما الماضي يعيد صياغة نفسه بشكل أجمل.
هذا المساء كان شارع “الحمراء” غاصا بالمشاة الذين بدوا في حالة استرخاء ولم تكن خطواتهم تحمل أي ظلال للخوف. بدا المكان كأنه عائم فوق بركة ضوء تنعكس أشعتها على واجهات الفترينات فتمنح شعورا باندماج غامض مع الحشد المجهول. قلت لفاضل فجأة في لحظة حالمة حقا: ليس مستبعدا أن نتحسر على هذا الشارع غدا.
17 نوفمبر
هناك شعور دفين بأنني خرجت عن سكة الإرادة الحرة إلى سكة أخرى حددها قراري بالسفر إلى بغداد. سكة يقررها العالم الخارجي: السائق ونوعية سيارته ومدى مهارته وما سيتحكم من مصادفات في الرحلة: إنه عالم شديد المجهولية. يحضرني السؤال مرة أخرى: لمَ السفر الآن وليس بعد ستة أشهر مثلا. مثلما سألني البعض في لندن: إنه التاريخ الذي أطمح إلى مشاهدته في قلب الفوضى العراقية. إنه السبب الأساسي لقرار رحلتي. بعد ستة أشهر سيكون الوقت متأخرا لمشاهدة التغييرات على أرض الواقع إذ أنها ستصبح نفسها تاريخا.
17 نوفمبر
ستكشف الرحلة الذات أكثر مما تكشف الموضوع: الداخل أكثر من الخارج. تحضرني جملة ابن عربي: نحن نسافر بشكل دائري.
18 نوفمبر
لم نسافر كما توقعنا. بعد انتظارنا للسائق لما يقرب من ساعة وربع عدنا إلى الفندق. كان البرد المنعش يتخلل ذرات الهواء. قضينا الوقت بجانب بائع الشاي المتجول الذي أشعل أخشاب بعض صناديق السلع المرمية للتدفئة. كان يقف مع دراجته وعدّته أمام الفندق الشهير. وقبل مغادرة البائع بدقائق تركنا المكان. في اليوم الثاني اتصلتُ بالمكتب وجاء صوت السائق. لقد جئتُ بالضبط بعد دقيقة واحدة من ذهابكما. قال لي بائع الشاي أنكما كنتما تقفان هناك. لماذا تأخرت؟ سألته. آه لقد نمت أكثر من اللازم… هل آتي لأخذكما؟ وبعد انتظار ساعتين أيقنا أنه لن يأتي.
18 نوفمبر
اتصلتُ بقريبة صديق آخر تقيم في دمشق. أخبرتني أنها تعرف مكتب سفريات موثوق به، ولم تمض أكثر من ساعة حتى تم الاتفاق: سيأتي السائق غدا صباحا لنقلنا. هذه المرة سنأخذ سيارة صالون من نوع الـ”جي أم سي”. حضرت إلى ذهني هذه الفكرة: لا بدّ أنها أسرع وأكثر راحة من الأخرى.
18 نوفمبر
التقينا بطالب الداوود الذي لم يمض عليه سوى أسبوع منذ عودته من العراق. فهو يقيم في دمشق منذ عام 85. وكنا قد عملنا معا في الجزائر قبل ذلك ولعدة سنوات. على عكس تفاؤل الأصدقاء الآخرين الذين زاروا العراق منذ التغيير الأخير أبدى الداوود رؤية سوداوية للواقع، لكنها كانت على ما أظن أكثر موضوعية: بدلا من صدام هناك الآن 10 آلاف صدام. بدلا من وجود سلطة دموية بيد شخص واحد هناك سلطات مصغرة بيد آلاف “المستبدين الصغار”. ستجد هؤلاء في كل مكان وهم يسعون لفرض إرادتهم على الأغلبية. اِذهب إلى جامعة البصرة ستجد أعضاء بعض الأحزاب الدينية يفرضون بالقوة الحجاب على الطالبات. أصبحت قاعات السينما ومحلات بيع الكحول هدفا للتفجيرات على يد أفراد متعصبين. أصبح بعض الطلبة الفاشلين قادرين على تحقيق النجاح من خلال ترهيب مدرسيهم. أنا ذهبت إلى كركوك ووجدت كيف تحتل المليشيات الكردية أي بقعة فارغة في المدينة. كل البنايات احتلتها هذه المليشيات، حتى المساحات الفارغة التي يمتلكها أفراد غير أكراد تم احتلالها وإقامة خيام فيها. وإذا ذهبت إلى مدينة الثورة( التي سماها الرئيس السابق بمدينة صدام) فستجد أنه من غير المسموح لأي طرف سياسي، عدا القوة المهيمنة، بفتح مقر لها. ولن يكون صعبا قتل من يتجرأ ويخالف إرادة تلك الجماعة، وهلم جرا. هل تستطيع القول إننا نعيش حالة حرب أهلية ضمنية؟ سألته. لا. أنا أسمّي الوضع بمرحلة التخندق: هناك خطوط تخندق تفصل الأحزاب بعضها عن بعض: الأكراد ضد الأكراد، الأكراد ضد العرب، الشيعة ضد الشيعة. الأحزاب لا تتحرك إلا وفق منطق المصلحة الذاتية. وهناك دفع باتجاه جعل السنّة العرب مسؤولين عن جرائم صدام… إنه عالم قائم فوق قنبلة موقوتة. الجميع في حالة تنويم مغناطيسي وهم غارقون في نزعة الاستئثار الفردي والحزبي… إنه مشروع لا آفاق له. كان طالب يفكر في أخذ أسرته والاستقرار في العراق خصوصا مع وجود حاجة كبيرة لخبراته في مجال الطبع والنشر لكنه ألغى الفكرة نهائيا: سيبقى وإلى إشعار آخر في دمشق. سألته: أليس هناك أي شيء ممتع في العراق؟ نعم. ستستمتع كثيرا بالجلسات العائلية. لقد خلق العراقيون وسائل ترفيه كثيرة داخل الإطار العائلي بعد أن أجبِروا خلال أكثر من عشرين عاما على قضاء أكثر أوقاتهم في بيوتهم.
18 نوفمبر
توصلنا أنا وفاضل أثناء جلستنا في نادي الصحافيين الضاج بالموسيقى وحركة النادلين بعد مغادرة طالب لنا إلى هذا الاستنتاج: الرحلة لوحدها ستقدم الإجابة عما إذا كنا قد فقدنا الوطن تماما أو كسبناه ثانية.
19 نوفمبر
الجزيرة: الطريق إلى بغداد. الطريق إلى الطفولة. ليس هناك سوى فراغ يملأ العين: تراب وشوك وسماء صامتة. لا بدّ أن حلب أصبحت وراءنا وأننا نقترب من المدن الحدودية.
19 نوفمبر
الفلاة تمتد منفتحة على السماء: لونان ملتقيان يفصلهما خط سرابي: الأزرق بالبني. معالم الحياة تتقلص إلى رموز فقط. نبتات العاقول تغرز بجذورها في أعماق صحراء ترابية قاحلة كأنها قنافذ خضراء منكفئة على نفسها لإبقاء نسغ الحياة يتسرب إلى أشواكها القاسية، وعصافير ضالة منطلقة في شتى الاتجاهات وسط متاهة لا متناهية.
19 نوفمبر
التقلب بين ضباب فاجأنا في البدء (ضباب توراتي يشير إلى بدء الحياة على الأرض) مرورا بصحو مدهش صامت. عند نقطة الحدود تمضي العصافير في زقزقتها المثيرة للاستغراب. جدران بيضاء ومعابر وحواجز. يذكر طالب الداوود أن عدد المشاركين بالسرقات بعد الحرب كان حوالي مليوني شخص: النسبة تعني أنه من بين كل 5 عراقيين هناك لص واحد فقط. إذا افترضنا أن عدد الراشدين يبلغ 10 ملايين فرد وإنهم وحدهم من قام بعمليات النهب، لكن ما الذي ستكون النسبة عليه إذا كان بعض اللصوص تحت سن الرشد؟
19 نوفمبر
عند نقطة تقع على الحدود العراقية برزت لأول مرة مصفحة هُمفي وفوقها جندي أميركي. إنها المرة الأولى التي أتلمس فيها الاحتلال عبر المشاهدة الحقيقية. أشار لنا أميركي ثان بالهبوط من السيارة واقتادنا إلى كشك كان يجلس فيها جندي آخر وأمامه كومبيوتر. دقق في جوازينا وقارن ما فيهما من معلومات مع المعلومات الموجودة على شاشة الكومبيوتر ثم أخذ لكل منا صورة. حضر سؤال بدون كلمات فوق لساني: هل أنا أخطأت البلد. هل حدث حقا كل ما نقلته شاشات التلفزيون من صور عن العراق.
19 نوفمبر
نحن في العراق الآن: ها نحن نقطع أكثر من 200 كيلومتر: تمتد أبراج الكهرباء في صف طويل وقد بدت من بعيد كأنها دناصير آلية تقوم بحركات رياضية متكررة، بعضها محن جسمه وبعضها مستلق على ظهره وبعضها راكع على الأرض: كانت سرقة النحاس وراء هذه الألعاب الرياضية.
تمتد هذه الدناصير الآلية العملاقة أميالا وأميالا برؤوسها المحنية وما يصدم العين اختفاء تلك الأسلاك التي تربط بعضها ببعض. إنها جمِّدت هنا شاهدَ عيان وضحية في آن واحد عما جرى لهذا البلد، لكن السماء الساطعة بضيائها الصارخ تظل لا مبالية. يحضرني شعور خارق بالذنب لمغادرتي العراق وترك هذه الأبراج تعاني لوحدها. يأتي إلى ذهني بيت مالك بن الريب أثناء احتضاره في منتصف الطريق قبل وصوله إلى مضاجع عشيرته: “فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه” يسمع فاضل الجالس جنب السائق صوتي فيكمل عجز البيت، كأن الشعور تسرب إليه عبر توارد الخواطر: “وليت الغضا ماشى الركاب لياليا”.
19 نوفمبر
عودة العاقول والغنم والماعز، وعودة البدو الرعاة. تحضرني صورة نقلها كتاب “مرايا دمشق” لأولئك المغول الذين قطعوا هذه الصحراء الفاصلة بين العراق وسوريا بعد اكتساحهم سنة 1258 لبغداد. كان الهدف احتلال المدن العريقة الواقعة وراء هذه المساحة الشاسعة الموحشة. لكن معركة “عين جالوت” في فلسطين التي خاضها الجيش المملوكي ضدهم بقيادة “الظاهر بيبرس” أوقفت هذا الغزو إلى الأبد. يقول بعض المؤرخين إن تلك المعركة لم تقرر مصير سوريا ومصر وفلسطين والشمال الأفريقي فقط بل هي قررت مصير أوروبا إذ لو أن المغول انتصروا في تلك المعركة لوصلوا إليها بكل سهولة.
الضحية الكبرى كان العراق. إذ بفضل وجود حاجز الصحراء احتفظت مدن الشام بمدنيتها بعيدا عن القيم العشائرية وبصمات البداوة المتجددة. بعد تدمير هولاكو لنظام الري المقام منذ زمن البابليين واستمرار غزو القبائل القادمة من أواسط آسيا للعراق، اندثرت تدريجيا الأراضي الزراعية التي كانت تأوي 30 مليون مُزارع لتصبح أراض قاحلة لا تصلح إلا لرعي قطعان ماشية العشائر القادمة من الجزيرة العربية، بالمقابل أبادت الحروب والأوبئة والفيضانات أغلب سكان العراق الأصليين لتحل محلهم قبائل البدو الرُحَّل، وهذه لم تبدأ بالاستقرار إلا في أواخر القرن السابع عشر.
بعد عبورنا النقطة الحدودية اقتادنا السائق إلى أول مطعم عراقي لتناول الفطور. كان المكان واسعا، مع ذلك بدا كأنه محض كهف. ليس هناك أي صورة على الجدران التي طُليت بلون أزرق باهت. ولم تمس أي بصمة تجميلية المقاعد والطاولات. كأن الفراغ هو مجرد حاوية تتيح للبدو أخذ قسط من الراحة قبل أن تعود أعينهم لملاقاة الامتداد الخالي للصحراء. بعكس ذلك كانت المحلات على الطرف السوري. فعلى الرغم من الفقر البارز عليها هناك بصمات قليلة تجعل المكان أكثر دفئا واكثر جمالية. لا أستطيع أن أحدد الفروق بالضبط، لكنها موجودة هناك في الهواء. لعل الدفء والجمال هما في نهاية المطاف شيء واحد.
19 نوفمبر
تكتسي التربة الآن لونا أحمر باهتا. هناك برج واحد ظل مقاوما جاذبية السقوط فبدا كأنه برج بيزا المائل ومن مسافة بعيدة تلبَّس ذلك البرج لونا رماديا. هاهي الأبراج تعود إلى الظهور. هذه المرة تبدو أقرب للعين من الأبراج السابقة. وبدت في هذه المرة كأنها تدفع بخراطيهما صوب التراب وباتجاهات مختلفة.
يدفع السائق بكاسيت فتأتينا أهازيج الغجر وأغاني الحب والعتاب. “إنها المغنية هجران” يقول السائق. تبدو لي الأبراج وكأنها حبِست في لحظة زمنية أزلية.
يتحرك قطيع من الخراف والماعز بدون خوف جنب أحد الديناصورات الآلية المستلقية على ظهرها. يضع السائق كاسيتا آخر لفرقة من المغنين الشباب تحمل اسما طريفا: “ثلاثي العشاق المعذبين” ولن تتعارض أجواء أغانيهم مع هذا الاسم: هناك المعاناة من الحب والهجران أرضية مشتركة لكل الأغنيات. هل يتحمل العراقيون فعلا أغنية باسمة قليلا؟
فجأة تستقيم الأبراج لتبدأ بالتواصل مع بعضها البعض عبر الأسلاك المتهدلة. هل هي بداية إعادة الإعمار؟ أشك في ذلك. إنها مجرد أبراج لم يتح الوقت الكافي للصوص كي يمضوا في تخريبها مثل غيرها.
يذكر الصديق الداوود أن قاعدة الحبانية الجوية تعرضت لهجوم أبناء العشائر المحيطين بها بعد سقوط بغداد. وهم لم يكتفوا بسرقة المعسكرات بل آجره وأحجاره وسقوفه ثم فككوا الطائرات ليأخذوا منها كل ما يمكن حمله بغضّ النظر عن مدى الاستفادة منه بل حتى البراغي لم تسلم من أيديهم.
19 نوفمبر
عودة الأبراج المعوجة والمعفرة بالتراب مرة أخرى. هذه المرة، يبرز كل منها في شكل مثلت قائم الزاوية قاعدته الأرض، وهذا يجعل الوصول إلى الأسلاك النحاسية سهلا. أي أجهزة شيطانية استخدمها اللصوص في تخريبهم؟
استرجع في ذهني ما قاله البهيلي في المقابلة التي أجرتها الشرق الأوسط معه، وكان فاضل قد نبهني أثناء رحلتنا بالطائرة إلى تلك الفكرة التنويرية التي جاءت على لسان المفكر السعودي: إن الحضارة في العراق هي الأصل خلال قرون طويلة أما البداوة فهي العدوان المتكرر على هذا الأصل تصرفه عن مساره وتعوقه عن انتظام سيره.
19 نوفمبر
على الرغم من قحل الأرض بدأت تبرز قطعان الماعز والخراف بشكل أكبر. هناك رجل بعيد على ظهر حمار يشكل لوحة وهمية مندمجة في الأفق المعفر بالغبار وضوء الشمس.
هناك آثار لغيوم دخانية معلقة في الفضاء تتقدم ببطء صوب الغرب. وفوق رؤسنا تظهر غيوم خفيفة لا تعد بأي حال بالمطر، تظهر في هيئة مجرات طولانية بيضاء نائية عن سطح الأرض.
19 نوفمبر
فجأة اختفت الأبراج من أمامنا. الوقت الواحدة والنصف. من بعيد تبرز خيام البدو وإلى جوارها جثمت شاحنات. تمر من فوق رؤوسنا غيوم شفيفة لا تحمل في طياتها أي قطرة ماء. افتح كتاب اليوت: “الأرض اليباب” القصيدة الشهيرة التي ترجمها عبد الواحد لؤلؤة لهذه المناسبة:
…من هذه النفايات المتحجرة؟ يا بن آدم
أنت لا تقدر أن تقول أو تحزر، لأنك لا تعرف غير
كومة من مكسّر الأصنام، حيث الشمس تضرب
والشجرة الميتة لا تعطي حماية، ولا الجندب راحة،
ولا الحجر اليابس صوت ماء. ليس
غير الظل تحت هذه الصخرة الحمراء.
19 نوفمبر
هل كان إليوت عراقيا؟ تتخذ الأبراج هذه المرة شكل علامات استفهام لا روابط تجمعها. أتابع حديث فاضل مع السائق: أي شيء أفضل من الاحتلال، قال الأخير. وما رأيك بالمقابر الجماعية؟ سأل فاضل. لا يهم. طالما أن صدام عراقي. سألته: هل خدمت في الجيش؟ نعم، كنت أؤدي الخدمة الإجبارية حينما وقعت الحرب. لكنني ذهبت إلى مدينتي ألقوش قبل ان تنتهي. الحمد لله أننا تخلصنا من الحروب. أعطاني جواز سفره. كان اسمه مطابقا لما أعلن عنه: منتصر حنا. مواليد 1981. لا بدّ أن الاسم الأول يوحي برغبة الأب لمنح ابنه بطاقة الاندماج مع النظام الذي راح يفرض قيمه المتغطرسة بعد تفجيره للحرب مع إيران سنة 1980. منتصر: إنه اسم معبّر قلت له تعبيرا عن الإعجاب به…
فجأة تبدلت لهجة السائق في حديثه مع فاضل إذ راح يعدد حسنات التخلص من النظام السابق: الناس أحرار الآن يفعلون ما يشاؤون. حياتهم ملك لهم.
19نوفمبر
أخيرا تبرز أشجار النخل. لا بد أنها مشارف مدينة الأنبار. يتغير المشهد فجأة: وادي الرافدين أخيرا… تبدأ الخضرة بالتسلل بحياء فوق الأرض. الشوك يتلبس الخضرة. خيام البدو منتشرة في الأفق. بغداد تقترب أكثر فأكثر واللهفة تزداد للالتقاء بالمدينة التي خلفتها ورائي قبل 26 سنة. يثير انتباهي طابور من المصفحات الأميركية يتحرك في الاتجاه المعاكس. التفت ثانية يسارا صوب الأفق البعيد. يبرز مشهد غريب: سيارة مرسيدس لونها ذهبي تسعى إلى تجاوزنا لكنها بدلا من الاندفاع تظل متوازية مع سيارتنا. أدقق النظر في الأشخاص الموجودين داخل السيارة المجاورة لي. هناك واحد يجلس جنب السائق وثالث في المؤخرة. ومن النافذة الخلفية نصف المفتوحة ظهرت يده وهي تقبض على كتلة سوداء مصوبة نحوي: أدركت أنه مسدس. استمر الراكب الجالس في المقدمة يحرك ذراعه طالبا منا التوقف. ارتدى الخوف وجه سائقنا فقلل سرعة سيارته مما أجبر المرسيدس إلى تقليل سرعتها الجهنمية لتصبح وراءنا، آنذاك انطلق منتصر بأقصى ما يستطيعه متحديا دعوة المطاردين بالتوقف. ولم يتطلب الأمر سوى دقيقتين حتى عاد الثلاثة بكل سهولة إلى موقعهم السابق، مثل ذباب الصيف اللجوج. آنذاك التفت يسارا فواجهتني هذه المرة بندقية كلاشينكوف مسلَّطة تجاهي. حضرتني فكرة أن اضطجع على المقعد تجنبا للرصاص لكنني بقيت أشبه بمتفرج يتابع فيلما بوليسيا مملا ظلت هوليوود تكرر انتاجه. في هذه المرة تجاوزتنا السيارة الأخرى وراح الشخص الجالس في المقدمة يلوّح بإلحاح لسائقنا للتوقف. اضطر الأخير إلى الانصياع إلى أمر الآخر. لكنه حاول مرة أخرى أن ينطلق في سيارته. أطلق الشخص الجالس في مؤخرة المارسيدس والذي أصبح نصف جسده بارزا إلى الخارج بعد فتحه باب السيارة اليمنى، رصاصة واحدة. بدت لي شرارة النار وكأنها أصابت عجلة الـ “جي أم سي” التي تقلنا. طالبنا السائق بالتوقف. ولم تمض سوى ثوان حتى نزل الشخصان صوبنا يحمل أحدهما مسدسا والآخر بندقية ليصبحا فوق رؤوسنا. كان ذهني يسير كأنه في كابوس لا يمت بصلة بالواقع بل صلته بحقيقة افتراضية شاركت في تكوينها منذ لحظة قراري بالقيام بزيارة بغداد. لقد ظل الكابوس يتكرر لسنوات وفيه أرى نفسي راجعا إلى بلدي، ثم بعد وقت ممتع لي هناك يتكهرب المناخ لأجد نفسي محاطا برجال الأمن. لكن الكابوس يعود الآن على أرض الواقع على الرغم من اختفاء رجال الأمن.
قال أحدهما بنبرة حادة: من أين أنتما؟ نحن عراقيان أجابه فاضل. وبعد أن سحب صاحب المسدس ظرفا من حقيبتي الصغيرة فيه مبلغ صغير من الدولارات صاح شاتما السائق: كيف لا تقف؟ وبأخمص مسدسه ضرب قذال رأسه. انتابني خوف على ذلك الشاب الذي سحب قاطع الطريق الآخر من تحت قدميه ما كسبه من عمله.
لا بد أنه الخوف من عودة الدورية الاميركية وراء تسرعهما بإنهاء عملية السطو بأقصر وقت ممكن. وحينما اختفت المرسيدس عن الأنظار تنفسنا الصعداء: كان خوفي الأساسي هو فقدان جواز السفر وما سيترتب عنه من مصاعب بيروقراطية للعودة بنفس الطريق إلى لندن. لكن هناك خوفا غريزيا آخر ظل ملتصقا بأنفاسي ويرفض أن يعبّر عن نفسه: ما الذي كان يمنعهم من قتلنا طالما أننا أصبحنا تحت رحمتهم إلى هذا الحد وفي هذا المكان الموحش؟