في الذكرى التاسعة لاندلاع “الربيع العربي” (2): آليات بناء الدولة العربية الحديثة
(أ) تشكل المجتمعات العربية تنوعا مثيرا للدهشة، فهي تتدرج من قبائل بدوية استوطنت الأمصار (أو بنتها) خلال المائة سنة الأخيرة، وهي ما زالت تحتفظ بأواصرها وعصبيتها القبلية السابقة للأواصر الوطنية، إلى تلك التي نجحت مدنها وأريافها في تذويب قبائلها وبروز مجتمعات حضرية تقوم على أساس العائلة. فتلك القبائل التي يذكرها ابن خلدون في المغرب العربي مثل لمتونة، وزناتة وصهناجة وغيرها قد انصهرت إلى حد كبير في بوتقة المدن. ولعل تونس النموذج المثالي لتشكل مجتمع المدينة شبه الخالي من التركيبة القبلية.
على العكس من ذلك نجد أن مجتمعا مثل ليبيا يسوده التركيب القبلي في توزع السكان بين البلدات والمدن، حيث يتجاوز عدد القبائل فيها المائة. في الوقت نفسه، نجد صورتين مختلفتين في الجوهر ما بين المجتمعين السعودي والعراقي. فكما يقول الكاتب السعودي إبراهيم البهيلي: إن الحضارة في العراق هي الأصل خلال قرون طويلة، أما البداوة فيه فهي العدوان المتكرر على هذا الأصل، تصرفه عن مساره وتعوقه عن انتظام سيره. وهذا الوضع كانت له نتائج وخيمة على المجتمع العراقي خلال الخمسين سنة الأخيرة.
يكتب ابن خلدون في “المقدمة” أن “الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة”. وهذا واضح اليوم في بلدان مثل ليبيا والعراق، وما يمر به هذان البلدان اليوم دليل على صحة فرضية ابن خلدون، فهو يبرر ذلك لـ “اختلاف الآراء والأهواء وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبيةُ تمانع دونها، فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها”. كذلك هو الحال مع بلد مثل سوريا حيث تكثر العصائب فيها على شكل طوائف دينية ومذهبية عديدة.
على العكس من ذلك، نجد مجتمعات المغرب العربي(إضافة إلى مصر ذات الأكثرية المسلمة) تتبع مذهبا واحدا هو المذهب المالكي، وهذا عنصر قد ساعد على تحقيق تحول سكان المدن إلى مجتمعات حضرية بمعنى الكلمة، من دون احتكاكات أو صدامات بين شرائح المجتمع المختلفة.
يمكن القول إن المجتمعات العربية تشكل معا طيفا واسعا يتدرج في تركيبته من كيانات قبلية وطائفية محض إلى كيانات فردية وعائلية مدينية؛ من حالة بداوة صافية ترفض التقيد بالقوانين والأنظمة (بغض النظر عمن وضعها)، إلى حالة تحضر كاملة، وبين الاثنين هناك تدرج متعدد لحالات تقع ما بين الاثنين. فحسبما يراه عالم الاجتماع العراقي علي الوردي فإن العراق محكوم بقانون الصراع ما بين البداوة والتحضر، ما بين سلطة القبيلة والطائفة وسلطة الدولة التي هي بشكل أو بآخر ستكون متأثرة بالاولى.
(ب) وهنا قد يكون مناسبا التوقف عند طبيعة الدولة العربية؛ فباستثاء مصر التي أراد واليها محمد علي باشا في أوائل القرن التاسع بناء دولتها على النمط الغربي، وإرساء مبدأ المواطنة كأساس لها بدلا من مبدأ الملة الذي ساد في الامبراطورية العثمانية، والذي طبق في العراق وبلاد الشام، نجد أن بناء الدولة في معظم المجتمعات العربية الأخرى جاء بعد الحرب العالمية الأولى. ولعل النسيج المديني لمصر كان مشجعا لتحقيق ذلك المبدأ، إضافة إلى أنه يتماشى مع المشروع التنموي الذي كان محمد علي باشا يحلم به بتحويل مصر إلى بلد رأسمالي منتج.
لكن العقبات التي وضعتها بريطانيا بالتعاون مع العثمانيين عرقلت تحقيق هذا المشروع. بدلا عن ذلك جاء الاحتلال البريطاني لمصرعام 1882 ليحول اقتصادها إلى تابع لمقتضيات الصناعة البريطانية ويقطع الطريق عليها للتحول إلى بلد رأسمالي صناعي.
لقد طرحت التجربة السياسية المصرية نموذجا متقدما في كيفية إدارة الخلافات الداخلية، خلال النصف الأول من القرن العشرين، لكن فشل المشروع التصنيعي جعل المجتمع محكوما بقانون مالتس، القائل إن الزيادة السكانية تسير وفق متتالية هندسية في حين تسير زيادة الانتاج وفق متتالية عددية، وهذه الحالة ستظهر نتائجها الوخيمة على المدينة خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي.
في المقابل، تأسست الدولة العربية الحديثة، في الغالب، على يد فرنسا وبريطانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد اقتسام غنائم الحرب بينهما. ففي العراق، جلبت وزارة المستعمرات، فيصل ابن الشريف حسين، وفرضته ملكا، وعلى أساس ما تُرك من حطام الدولة العثمانية من جيش وشرطة ودوائر حكومية قليلة، نشأت الدولة العراقية الحديثة، على أساس مبدأ المواطنة (نظريا)، وعلى أساس مبدأ فصل السلطات الثلاث، وتبني قوانين أصبحت جزءا من الموروث الانساني، تهدف إلى ترسيخ مبدأ المساواة بين المواطنين بغض النظر عن دينهم وقوميتهم ومذهبهم.
لكن السعي لفرض دولة مركزية مماثلة لما هو قائم في بريطانيا آنذاك، من دون الأخذ بنظر الاعتبار التكوين القومي والقبلي والطائفي للمجتمع بنظر الاعتبار أوجد بذورا لاحتقانات متكررة لاحقة.
وكأننا أمام فرض نموذج جاء ثمرة تطور تدريجي في الجزر البريطانية خلال أكثر من قرن استنادا إلى أفكار فلاسفة كبار مثل توماس هوبز (1588-1679) وجون لوك(1632- 1704)، رسخوا مفهوم المواطنة وأن الدولة تقوم على أساس قبول الشعب بها، وأن كل السلطات يجب أن تكون “تمثيلية”، إضافة إلى مبدأ فصل السلطات الثلاث. وكلا هذين الفيلسوفين لعبا دورا أساسيا في تطوير نظرية “العقد الاجتماعي” التي أصبحت أساسا للدولة الحديثة. كذلك هو الحال مع المؤسسين الآباء للولايات المتحدة الكسندر هاميلتون وجيمس ماديسون وتوماس جفرسون فهم تبنوا معظم أفكار جون لوك في “إعلان الاستقلال” ثم في صياغة الدستور الأميركي.
حال حصول العراق على استقلاله عام 1932 عن بريطانيا، وسوريا عن فرنسا عام 1946، برزت قوى نشأت ضمن الفترة الكولونيالية لتطوح بالدولة ذات اليمين وذات الشمال، فقادة الجيش الذي تعلموا وتدربوا خلال الحقبة الاستعمارية، أصبحوا غير مكتفين بالامتيازات التي تقدمها لهم مناصبهم، على الرغم من أن أغلبهم من خلفيات اجتماعية فقيرة.
فبين عامي 1936 و1970 وقع في العراق ما يقرب من 10 انقلابات عسكرية ناجحة. ولعل أبرز انقلاب عسكري (يراه الكثير من العراقيين ثورة) كان ذلك الذي وقع يوم 14 يوليو 1958، وفيه تم القضاء على النظام الملكي وتفكيك نظام الانتاج الزراعي الاقطاعي من دون خلق بديل انتاجي آخر سوى الاعتماد شبه الكامل على موارد النفط، وفتح الباب لسلسلة انقلابات أوصلت صدام إلى الحكم بفضل علاقته بقائد آخِر انقلاب عسكري جرى في العراق عام 1968: الفريق أحمد حسن البكر رئيس العراق ما بين عامي 1968 و1979.
أما في سوريا، فالانقلابات العسكرية المتكررة وقرارات النخبة السياسية بالاندماج الكامل بمصر عام 1958 آل إلى وضع كارثي اقتصاديا واجتماعيا انتهى بالانفصال عام 1961 إثر انقلاب عسكري قاده المقدم عبد الكريم النحلاوي. وما بين هذا العام وعام 1970 جرى انقلابان عسكريان، أوصل آخرهما حافظ الأسد إلى سدة الحكم.
لعل من المناسب الوقوف قليلا عند طبيعة الدولة والنظام اللذين سادا قبل قدوم الربيع العربي، وطبيعة العلاقة بينهما، وهنا قد يكون استحضار ابن خلدون مساعدا لفهم تلك الطبقة اللاشعورية التي ظلت راسخة لدى الزعماء العرب في معنى الحكم حتى بعد مضي أكثر من ستة قرون.
(ج) تقوم نظرية نشوء الدولة لدى ابن خلدون على مبدأ العصبية القبلية، وتأثير هذا العامل يكون أقوى إذا تزاوج مع رؤية دينية جديدة، مثلما هو الحال مع حركة الموحدين وقبائل المصامدة في المغرب. ويضع ابن خلدون عمرا لتلك الدولة التي تقوم على أكتاف قبيلة سحنتها قسوة العيش في البادية وصلّبت من عودها، وفي الجيل الأول تكون هذه الدولة قوية لصلابة العصبية بين أبنائها وعدم بروز تمايز كبير بين الملك وحاشيته وأبناء جلدته. فالهدف من إقامة الدولة لا لإرضاء الرعية المغلوب على أمرهم بل التمتع بما يجنيه المنتصرون من خراج وغنائم مقابل توفير الأمن والاستقرار لهم، لكن هذا التقارب بين الحاكم وأبناء قبيلته يبدأ بالانحسار في الجيل الثاني، مع زيادة التنافس بين المقربين من الملك، ورغبة الأخير باحتكار المجد لنفسه. وهنا يظهر الاستبداد الفردي بأفضل أشكاله. وفي الجيل الثالث تختفي العصبية تماما ويغرق الملك وحاشيته بالملذات وطيب العيش ودعته، ولحماية حكمه يبدأ بالاعتماد على الأجانب لحماية دولته مثلما حدث في الدولة العباسية ابتداء من عهد الخليفة المعتصم بالله حين اعتمد على قبائل تركية، وتلاه الخلفاء الورثة معتمدين على الديلم والسلاجقة وغيرهم، حتى تأتي قبيلة أخرى أو تحالف من القبائل بعصبية جديدة من البادية فتطيح بتلك الدولة مثلما حدث في بغداد عام 1258 عندما تمكن المغول من تدمير الدولة العباسية وقتل الخليفة، الذي كانت سلطته آنذاك شكلية تماما.
يمكن القول إن تاريخ الديمقراطية على الصعيد العالمي لا يعدو أن يكون فصلا من مجلد كبير يستند إلى الاستبداد، فالحكم الذي يقرره الشعب بنفسه هو ابتكار بشري، جاء في أعقاب كوارث تسببت فيها أنظمة الاستبداد الفردي أو الأوليغاركي. وجاء ظهور أول تجربة في أثينا ابتداء من منتصف القرن الخامس ما قبل الميلاد وحتى سيطرة المقدونيين عليها عام 322، وما ساعد على تحقق هذا النظام هو غلبة الطابع الصناعي والتجاري على حياة المدينة فتحولت، كما يقول أرنولد توينبي في كتابه “مختصر دراسة التاريخ”، على المستوى السياسي من نظام ارستقراطي يقوم على المنبت إلى نظام بورجوازي يستند إلى المِلْكية. مع ذلك فإن ديمقراطية اثينا لم تتضمن انتخاب الممثلين عن الشعب بل مشاركة قطاع واسع من الناس في التصويت المباشر على القرارات بشكل مباشر.
أما تجربة الحكم الديمقراطي الثانية فقد ظهرت في بعض المدن الايطالية خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، مع غلبة الطابع الصناعي والتجاري فيها، مثل ميلان وبولونيا وفلورنسا وفنيسيا، بعد عدولها عن نظام الإقطاع السائد في الغرب آنذاك إلى نظام جديد يقوم على العلاقات المباشرة بين المواطنين الأفراد والحكومات المحلية التي تكسب سيادتها من المواطنين أنفسهم.
ويأتي الفصل الثالث لبروز الديمقراطية ببريطانيا في القرن السابع عشر، مستندا إلى جملة أفكار طورها مفكرون كبار مثل هوبز ولوك، ومن بينها فكرة المواطنة والمساواة بين المواطنين، والمجتمع المدني والحكم على أساس مبدأ قبول الشعب بالحاكم، ومبدأ العقد الاجتماعي الذي طوره لاحقا جان جاك روسو ليكون أساسا قامت عليه الثورة الفرنسية.
لكن هذا التحول ما كان ممكنا تحققه من دون وقوع تحول اقتصادي كبير في بريطانيا وانصهار مقاطعاتها بنظام مركزي قوي والعزلة الجغرافية التي وفرت لها أمانا من أي غزو أجنبي بفضل أسطولها البحري القوي. يقول أرنولد توينبي في كتابه “مختصر دراسة التاريخ” : “أتاح الابتكار الإنجليزي السياسي المتمثل في الحكومة البرلمانية وضعا اجتماعيا يناسب الابتكار الانجليزي الخاص بالاتجاه الصناعي، فإن الديمقراطية بمعنى نظام حكومي تصبح فيه السلطة التنفيذية مسؤولة أمام برلمان يمثل الشعب، والاتجاه الصناعي بمعنى أنه نظام يتضمن الانتاج الآلي بأيدٍ تتجمع في المصانع، هما النظامان المسيطران في عصرنا. ولقد قُدِّر لهما أن يسودا العالم بما يتيحانه من خيرة الحلول التي أمكن للمجتمعات الغربية العثور عليها، لمشكلة تحوير مأثرة ثقافة المدينة الايطالية السياسية والاقتصادية، من المدينة إلى مجال الدولة الملكية. ولقد تحقق كلا هذين الحلين في إنجلترا في ذلك القرن.”
قبل الوصول إلى النظام الديمقراطي في بريطانيا هناك تاريخ فاجع يمتد عدة قرون وفيه كانت الصراعات على السلطة دموية، عكستها بشكل رائع بعض مسرحيات شكسبير، كذلك كان الصراع ما بين الملك وسلطة المندوبين عن أصحاب الأطيان قاسيا تخللته فتن أهلية ومعارك.
وكأن ولادة الدولة الحديثة التي تسير بآلية ذاتية أشبه بحركة الكواكب حول الشمس حيث تحكمها قوانين ذاتية تتمثل بقانون القوتين الطاردة والجاذبة، فانطلاقا من حكم ملكي مستبد تنشأ الدولة وتسير بأوامر الحاكم أولا، ومع مرور الوقت يتنامى موظفوها وكأنهم براغٍ وعتلات داخلها، لحماية حكمه واستقطاع الضرائب لصالحه، وثانيا توفير الأمن لرعيته، وثالثا فض الخلافات المدنية بينهم، لكنها تصل إلى جهاز حي يسيّر نفسه بنفسه، بغضّ النظر عمن يحكم. هنا يبرز التمايز ما بين السلطة والدولة. الأولى تسيّر الثانية لتحقيق أهدافها لكنها مؤقتة، في حين أن الثانية مسيَّرة من قبل أي سلطة منتخبة لكنها دائمة.
عند النظر إلى البلدان التي كانت تحت الانتداب(أو الحكم المباشر) البريطاني أو الفرنسي، نشأت دولها أولا لتلبية احتياجات المحتل في توفير الأمن والتمكن من ربطها اقتصاديا عبر جعلها تابعة. كذلك فإن الفترة القصيرة التي مرت على تأسيس الدولة لم تسمح لأجزائها المختلفة أن تلتحم بعضها ببعض لتشكل جسما متناسقا يتحرك لوحده من دون تدخل قوة خارجية.
وهنا نستطيع تلمس حقيقة أن هذه الدول عند استقلالها كانت تعاني من فقر دم شديد بمفاهيم أصبحت أساسا أوليا للدول الغربية مثل “المجتمع المدني” و”العقد الاجتماعي” ومبدأ المساواة بين المواطنين، وأن وجود الحاكم في سلطته مرهون بقبول المواطنين به.
وقد سمح نظام الانتخاب المتتالي للعديد من البلدان الأوروبية بفصل ما يمكن تسميته بمؤسسات الدولة والحكومة التي لا تشكل إلا طبقة رقيقة فوق سطح الدولة وتضم الوزراء ونوابه، وحال خسارة الحزب الممثل لهؤلاء الوزراء المنتخبين ومساعديهم ينسحبون من الدولة من دون أن يتركوا أثرا على آلية عملها. هذا النظام سمح للبلدان بالتخلص من الاحتقانات الناجمة عن عدم الرضا بأداء هذا الحاكم أو ذاك من خلال الانتخابات المنتظمة، وحتى لو كان البديل ذا سياسة مشابهة للأول فإن التبدل يمنع تراكم الفساد وسيادة الطغيان. فالسلطة، كما قال المؤرخ البريطاني جون ادبرغ (1834-1902) “تميل إلى الإفساد، أما السلطة المطلقة فمفسدة بشكل مطلق”.
بالنسبة للبلدان العربية ما بعد الاستقلال، كانت الصفة الأساسية المشتركة بينها هو الحاكم المطلق سواء كان ملكيا أو رئاسيا. فليس هناك من فترة قصوى لحكمه، وبذلك أصبحت الدولة تقتدي بالنموذج موضوع دراسة ابن خلدون في كتابه “المقدمة.”
ولعل ذلك يعود إلى هزالة سمك الدولة ومؤسساتها وعدم وصولها إلى حالة الحركة الذاتية لقصر فترة عمرها، إضافة إلى هزالة المجتمع المدني بمؤسساته التجارية والصناعية والخيرية والخدماتية والمالية، إنه مجتمع ما زال في طور النمو، وهذا ما يعطي الحاكم شعورا بأن وجوده “ضرورة” تاريخية. ولتحقيق ذلك، يؤسس أو يجلب معه إلى الحكم حزبه السياسي، ومع مرور الوقت وتزايد انتزاع الحاكم المجد لنفسه، وتهميشه للقياديين الآخرين في حزبه، يقع الانشقاق بين الطرفين، فيدفع هؤلاء ثمن مخالفتهم للزعيم المفدى. بالمقابل يسعى الأخير مثلما هو الحال مع الملوك الذين يصفهم ابن خلدون، بالالتجاء إلى شرائح أخرى، هم من أبناء قريته السابقين أو عشيرته أو أبناء طائفته ، وفي حالة غياب طرف يحميه سينتهي به المطاف، مثلما هو الحال مع الدول التي فنيت، والتي وصفها ابن خلدون، بعد قدوم قوة بدوية جديدة ناهضة، وفي عصرنا هذا يكون هذا الحاكم الجديد ضابطا تربى على يد الحاكم السابق لكنه قرر أخيرا الانقلاب عليه، وهذه هي الحال في العراق حين قام عبد الكريم قاسم بانقلابه على الحكم الملكي وقتل رئيس الوزراء السابق الذي كان يتوسم في مرؤوسه الذكي خيرا جزاءَ ما قدم له من دعم. نستطيع اليوم تلمس غياب حزب يحمل رؤية مستقبلية قادرة على كسب قطاع من الشعب، مثلما هو الحال مع بورقيبة في تونس وعبد الناصر في مصر. بدلا من ذلك أصبح الحاكم مندمجا بكتلة من رجال الأعمال، يلعبون دور الوسيط بين الشركات الأجنبية والمحلية مقابل عمولة ما. بالمقابل، التخلي تماما عن مشاريع التنمية التي ميزت العهود الأقدم لأسلافهم، وهذا هو الحال في مصر وتونس.
كذلك، فإن كل عنصر من عناصر اللعبة الديمقراطية، يتم تفريغها من جوهرها مثل الانتخابات المنتظمة ومبدأ تداول السلطة وحق التفكير والتعبير.
حالة الاختناق والضآلة التي شعرت بها قطاعات متعلمة واسعة وراء الحراك الشعبي الواسع. فالفساد الذي تراكم عقدا بعد عقد بسبب تعمق الفساد المطلق الناجم عن السلطة المطلقة، أصبح عائقا جذريا أمام أي شفاء لجسم المجتمع الحي.
لكن هذه الجموع المتذمرة كان يحركها اتجاهان ظلا قائمين داخل المجتمعات العربية منذ أوائل القرن العشرين: إنهما اتجاها “المستقبلية” و”السلفية”.