“في انتظار غودو”: حقائق تجلب الحزن وعبث يواسي*
بعد مرور 42 سنة على إنتاجه الأول، يعود المخرج “بيتر هول” ثانية ليقدم هذه المسرحية في لندن. وإذا كانت العروض الأولى آنذاك قد أثارت ردود فعل عنيفة في الصحافة ضد مسرحية “صمويل بيكيت” إلا أنها وبشكل تدريجي اكتسبت إعجاباً متزايداً، جعلها في نهاية المطاف فتحاً جديداً في عالم المسرح منذ ايسخليس الإغريقي، وشجعت الكثير من كتاب المسرح الشباب في بريطانيا على الانتقال إلى ضفة “بيكت” وتبني أسلوبه، متخلين عن قواعد المسرح الطبيعي الذي ابتدأه ابسن وسترنبرج في نهاية القرن التاسع عشر.
في هذا الإنتاج قام الممثلان المشهوران ألان هوارد وبن كنغزلي بأداء دوري فلاديمير واستراغون على التوالي، ومن الملاحظات القليلة التي كتبها المخرج “هول” عن إنتاجه السابق يتضح أنه تخلى عن استخدام الموسيقى وأن التعديلات التي أدخلها بيكيت وملاحظاته على النص قد أخذت بالاعتبار في هذا الإنتاج الجديد. يقول “هول” : “لم يبق أي شيء في النص غير واضح أو مفتعَل أو عسير على الفهم، وإذا كان هناك أي ضبابية في العمل فهذا تقصير منا لا من النص.”
من اللحظة الأولى للعرض يضعنا بيكيت في مناخ الحكاية الخرافية لتصبح معها الأحداث اللاعقلانية مقبولة ضمن سياق المسرحية، وهذا ما يجعل المتفرج الذي يتجاوز الصدمة دون مغادرة المسرح، متهيئاً لقراءة تجربة حياته الشخصية عبر رموز المسرحية الغريبة.
في الفصل الأول يظهر فلاديمير واستراغون قرب شجرة جافة بملابس ممزقة وملامح صعاليك، وحينما يقول الأخير بأن عليهما ترك المكان يجيبه فلاديمير بأنهما لا يستطيعان ذلك لأنهما بانتظار غودو. غياب أي هدف آخر في حياتهما يجبرهما على الانشغال بأفعال رتيبة متكررة، فاستراغون ينشغل بخلع وارتداء حذائه، بينما يمضي فلاديمير وقته في تقليب قبعته بين يديه. سيناقشان فكرة شنق نفسيهما على الشجرة، لكن الخوف من بقاء أحدهما حياً وحده تجعلهما يقصيان هذه الفكرة. يعرض فلاديمير على استراغون رأس لفت وجزرة فيأخذ الثانية. أثناء أكلهما يظهر شخص ضخم بقبعة إنجليزية، ويقود رجلاً محملاً بالحقائب بحبل طويل. ما أن يشاهد الرجل الثري الصعلوكين حتى يسحب الحبل، فتسقط الأحمال من يد الآخر ويتعثر ساقطاً. يظن فلاديمير واستراغون أنهما التقيا أخيراً بغودو، لكن الرجل المهيب يخبرهما بأن اسمه بوزو واسم تابعه لاكِي، وأن الأرض التي يقفان عليها هي من ملكيته.
ينتقد فلاديمير بوزو على معاملة لاكي بهذه الطريقة القاسية، فيجيبه بوزو بأن تابعه يستحق القتل مما يدفع الأخير إلى البكاء. وإذ يحاول استراغون مسح دموعه بمنديله يضربه لاكي على رجله بشدة. يغادر بوزو ولاكي المكان على إيقاع ضربات السوط الذي يحمله الأول. يدخل بعد فترة قصيرة طفل إلى المسرح ليخبرهما عن عدم قدوم غودو هذه الليلة، لكنه من المؤكد سيأتي غداً مساء. يقترح استراغون الانفصال عن بعضهما البعض. يوافق فلاديمير على هذا الاقتراح، لكن لا أحد يبادر بالحركة.
في الفصل الثاني لا يحدث أي جديد عدا تفتّح بضع وريقات على الشجرة، وحالما يلتقي الصعلوكان يحضن أحدهما الآخر. لن يتذكر استراغون بوزو ولاكي، مما يضطر فلاديمير إلى إزاحة بنطاله لإظهار أثر ضربة لاكي الباقية على رجله. لقضاء الوقت، ينشغل الاثنان بتبادل الأسئلة ومناقضة كل منهما الآخر بتقليد شكل الشجرة، وذلك بالقفز وتبادل القبعات بطريقة مماثلة لتلك التي كان لوريل وهاردي يستعملانها على المسرح.
يظهر بوزو ولاكي على المسرح هذه المرة يكون الحبل المربوط برقبة لاكي قصيراً ويبدو نشطا في حركته بعكس سيده الذي فقد البصر. لن يتذكر بوزو الصعلوكين بالمقابل يطلب إعانته بالوقوف على رجليه وحينما يتجاهلان طلبه يعرض عليهم المال مقابل المساعدة. ينتقم استراغون من لاكي بضربه بعنف على رجله. يستفسر بوزو عن الوقت والمكان، ثم يغادران المكان على عجل. يغفو استراغون قليلا فيغطيه فلاديمير بمعطفه. يعود رسول غودو كاليوم السابق ليخبرهما بأن غودو لن يأتي هذه الليلة بل بالتأكيد غداً. يحاول فلاديمير الإمساك بالطفل لكنه يزوغ منه بخفة مختفياً عن المسرح. يردد الصعلوكان أن عليهما مغادرة الشجرة والانفصال عن بعضهما البعض لكنهما لا يقومان بأي مبادرة بهذا الاتجاه إذ تنتهي المسرحية وهما واقفان جنب الشجرة بانتظار غودو الذي قد يأتي غدا.
ليس بالإمكان وضع هذه المسرحية إلا ضمن سياق فلسفة العبث التي بشر بها كامو وسارتر في نهاية الثلاثينيات والتي تجد أن الوجود لا معنى له بحد ذاته وأن على الإنسان أن يمنحه معنى شخصيا. بالنسبة لفلاديمير واستراجون نجد العكس هو المتحقق، إذ أنهما يعتقدان أن العالم له معنى حتى في الأوضاع الخالية من المعنى، وبالتالي يظل الأمل بالتقاء غودو محركاً وحيداً للاستمرار في حياتهما، وكأننا نجد في هذه المسرحية أن الأبطال عاجزون عن أن يصبحوا عدميين حتى في الأوضاع الخالية من المعنى.
في العرض الجديد الذي شاهدته كنت أجد نفسي أمام حلم متدفق يمس شيئا في داخلي غير قابل للتعريف، وإذا كان النص المقروء خاليا من فراغات الصمت فإنها على مسرح أولد فك، تداخلت الحوارات ضمن إيقاع موسيقي مترابط. هنا نجد التوازن والتناقض يتعايشان ويتفاعلان في كل مشهد. فلاديمير المتفائل مقابل استراغون المتشائم.. بوزو المتجبر مقابل خادمه الخنوع الذي لا يحركه سوى أوامر سيده.
الفصلان المتوازيان والمتماثلان، يعطيان إحساساً بأنهما يصفان يومين متلاحقين متشابهين ومتكررين بشكل متواصل. يقول بيكيت بأن فصلاً واحداً غير كاف لنقل دائرة الزمن المتكررة وأن ثلاثة فصول كثيرة جداً فالشكل الأمثل هو فصلان.
اعتُبِرت “في انتظار غودو” عملاً تأسيسياً لأدب ما بعد الحداثة، حيث يظهر التكثيف والعناية بالشكل إلى أقصى حد، وحيث يسود الاحتمال المغلف بنزعة تشاؤمية ضمن شكل فني بسيط محل الإيمان بفكرة ما. هناك تأثر واضح بفكرة التغير التي طرحها بروست في روايته البحث عن الزمن الضائع، حيث الفرد يتغير كل يوم، وهذا التغير يؤدي إلى تشوش ذهني تجاه قناعات الأمس. على سبيل المثال تنتاب استراغون الشكون بكون الحذاء الذي تركه في اليوم الأول قرب الشجرة هو نفسه الذي رآه في اليوم اللاحق؛ مقابل ذلك ينتاب فلاديمير في بداية الفصل الثاني الشك بتبدل الأشياء حولهما.
ما الذي جعل هذه المسرحية قادرة على التغلغل في مخيلة المتفرجين على اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم القومية والسياسية؟ هل هو بساطتها وعموميتها القابلة لعدد كبير من التفسيرات المتجددة أم قدرتها على مس تجربة إنسانية مشتركة يعيشها المرء في أعماقه؟ ويبدو كأن الانتظار هو الذي يجمعنا ويمنح حياتنا معنى أكثر من غودو نفسه. يقول بيكيت مازحاً، قد يكون بوزو هو غودو لكنه لم يستطع التعرف على فلاديمير واستراغون، اللذين سبق أن حدد معهما موعدا للقاء.. ولغياب اليقين، بهوية غودو، فستظل أحداث هذه المسرحية تدور في أحلامنا كمواساة عند المحنة.. ففي نهاية المطاف لا شيء حدث.. لا أحد جاء، ولا أحد ذهب.
_____________________________________
*صحيفة الشرق الأوسط، العدد 6805- الأربعاء 16/7/ 1997