قبضتان*
لم تكن سوى أربع خطوات تفصلنا عن بهرجة الأضواء، أربع خطوات في قلب عتمة تتعارض مع ضجيج الشارع وراءنا، ومع الفندق الصاخب بالحياة؛ وها أنذا مستلق بجانبها، يمس كتفي كتفها، وكفي كفها. وساقي ساقها، لكنني أعرف أيضا أن محيطات تفصلنا عن بعض. أعرف أنها ما زالت مستيقظة، تراقب مثلي الظلمة المطبقة، لكنها بعكس أيامنا السابقة، تقيم في أعمق أعماق قوقعتها، وكأن جسدي المتماس مع جسدها ليس سوى جثة، أو أقلّ منها؛ فالجثة تترك أثرا ما على من يجاورها: خوفاً، قرفاً، اشمئزازاً، أما جسدي فهو فراغ، فراغ لا يترك كالسابق تلك القشعريرة على بشرتها حين تداعب أناملي كتفها العاري فتنتفض خلاياها بين أصابعي وتتصاعد أنفاسها الدافئة نداء خفيا لشدها إلى صدري.
لم تكن سوى أربع خطوات.
انقضى يومنا خفيفا كالحلم. قالت “رجاء” لحظة خروجنا من الفندق: “كنت أظن الضباب ساكناً فعلا في لندن”. أشارت بفرح إلى السماء الزرقاء وجدران المباني الغامقة الحمرة المتألقة بضياء الشمس. “يبدو أنها لا تعرف الحلول الوسط”، قلتُ وأصابعي تتشابك بأصابعها: “إما مطر وعواصف وغيوم أو صحو وهدوء وشمس”.
منذ وصولنا إلى هذه المدينة ونحن محاصران بالمطر. مع ذلك كنا فرحين بغضب عناصر الطبيعة حولنا، فكأنها كانت تحرضنا للمضي أكثر فأكثر في الانغماس بألعابنا. على باب غرفتنا علقنا يافطة: “لا تزعج رجاءً”. ولم يكن هناك أي زائر باستثناء عامل الفندق الشاب الذي يأتي كل يوم لجلب وجبة غدائنا، وحال أخذ الصينية منه، يردد بنبرة ودية:”استمتعا به”، فيمضي على عجل في الممر المفروش بالسجاد الأحمر صوب المصعد.
ها نحن نخرج أخيرا من أسر السرير الوثير، تكاد أقدامنا لا تلامس الأرض في خطواتنا، فنتركها تقودنا كما تشاء في متاهة لندن: ساحة الطرف الأغر، قصر بكنغهام الملكي، البرلمان، كاتدرائية القديس بول، وعند عبورنا نهر التَيمز قالت “رجاء”: “يشبه دجلة.. لكن الماء فيه أكثر”.
لم تكن سوى أربع خطوات.
يخترق سمعي زعيق سيارة شرطة من الطرف البعيد للمدينة، يعيدني مرة أخرى لما حدث هناك في تلك البقعة أو بالأحرى في الثقب الأسود ذاك. كم أتمنى لو تتاح لي فرصة أخرى كي أكون على استعداد للمواجهة حتى لو كان الثمن موتي: موتي وهل هناك أسوأ من موتي هذا؟ بم تفكر “رجاء” الآن وهي تتطلع في الفراغ المظلم؟ لا نأمة تصدر منها، لا نفس، لا آهة؛ هل يمكن أن تكون قد..؟ لا مستحيل، حرارة جسدها تفضحها. أنا هو الميت الآن دون أن أدري.
على عجل، جاء قرارنا بالسفر إلى لندن. بدلا من نفقات العرس الباهظة واتباع التقاليد، سكنتنا فكرة القدوم إلى عاصمة الضباب: أغاني البيتلز، وساعة بيغ بن، وشارلوك هولمز وحكايات أغاثا كريستي، تجذبنا إليها، عروض الأوبرا التي تستمر سنوات. وهذا المساء فقط دخلنا إلى “مسرح كوين” دون حجز مسبق وقبل إغلاق الباب بدقيقة.
“البؤساء”: دهشة الألوان والأغاني وعروض الرقص.. لم تراودني فكرة حتى للحظة واحدة أنني سأكون واحدا منهم بعد العرض. كنت أظن أننا محظوظان لحصولنا على آخر تذكرتين متوافرتين، وكم كنت على صواب! لو أننا تأخرنا دقيقة على المسرح لتغير مسار الأحداث تماما، إذ لعدنا إلى الفندق في ساعة مبكرة، ولكنّا الآن..
لم تكن سوى أربع خطوات.
بعد العرض قالت “رجاء”: “تعال نروح لمطعم قريب، أنا فاطسة من الجوع”. أجبتها متحمساً للفكرة: “أنا أكثر منك”، ثم أضفتُ غامزا: “أحتاج أن آكل ضعفين”، فنكزتني بكوعها مستنكرة: “صرتَ سليط اللسان هذه الأيام”. لكن الابتسامة التي أضاءت وجهها جعلتني مطمئناً أنها كانت تمزح. هل حضرها مسلسل علاقتنا العذرية منذ جلسنا معا لأول مرة في مقهى الجامعة وحتى سفرنا إلى لندن؟ قصائد الحب التي بقيت أدسها بين رسائلي المنتظمة إليها ، على الرغم من أننا كنا ندرس معا في نفس الصف كل يوم؟ في الطائرة بقيتُ صامتاً متشككاً بحقيقة كوننا لوحدنا معاً بعيداً عن أفراد عائلتينا. ارتجت الطائرة قليلاً لحظة دخولها مطبات هوائية، فطوقت يد “رجاء” لا إرادياً ساعدي تحت وطأة الخوف الذي ولدته المفاجأة.
من المطعم كان أمامنا خياران: أخذ تاكسي إلى الفندق أو المشي ربع ساعة، فالخريطة التي كانت أمامي تشير إلى مسافة قصيرة بينهما. قالت “رجاء” حين خيّرتها: “مثلما تحب”. ومثلما أحببتُ دعوتها لرحلة تسكعنا الأخيرة على الأقدام قبل أن يلمنا السرير بحنو إلى ثناياه، ناسياً أن الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وأن شوارع لندن تحب خداع زوارها حتى لو استخدموا أدق الخرائط.
من محطة المترو خرج عدد من الشباب يرتدون أقنعة متشابهة، يحمل بعضهم زجاجات نبيذ أو علب جعة. كل شيء بدا خفيفاً مرحاً. مد أحدهم بزجاجته إلينا: : “تفضلا، خذا جرعة”. تجاهلتُ عرضه بينما شدت رجاء على عضدي، فرحنا نرمي خطوات أوسع لتجاوز المحطة.
متى أدركتُ أننا كنا نسير في حلقة مفرغة وأن فندقنا اختفى كفص ملح في حوض ماء ساخن؟ مرت أكثر من سيارة تاكسي بنا، لكنني بقيت رافضا إغراءاتها. شيئا فشيئا بدأت الشوارع الفرعية المعتمة تفرغ من روادها، عدا تلك النوادي الليلية التي يقف أمام أبوابها حراس ضخام ببدلات سوداء. وحين ظهرت خلفية الفندق، تنفستُ الصعداء دون أن أُشعِر “رجاء” بالقلق الخفي الذي تسرب إلى أنفاسي حتى تلك اللحظة من الضياع. لم يبق أمامنا سوى الاستدارة يمينا ثم الانعطاف في أول فرع ضيق، حيث تتأجج مصابيح الفندق فتعكس الساحة الصغيرة أمامه أضواءه إلى فضاء الليل.
كأني في لحظات الاطمئنان تلك تخليتُ عن كل ما في جعبتي من توفز واستنفار. بدلا عن ذلك استسلمتُ – دون إرادتي – لخيالي وهو يقودني على عجلة إلى فراشنا الذي تركناه صباحاً في أسوأ حالات الفوضى. لا بد أن الشراشف المشبعة برائحة العرق وأشنات البحر قد بُدّلت بأخرى، نظيفة، جافة، ومعطرة.
تنهض عروسي- أو من كانت عروسي- على مهل، من السرير، أستطيع أن أرى حواف ظهرها خطاً واهياً أقل عتمة من حوله، ها هي تتوجه في قلب ظلام الحجرة صوب الحمام. يشتعل الضوء فيه لحظة واحدة تكفيني لاسترجاع ملامح المكان ثانية قبل أن تغلق الباب وراءها، تسكنني العتمة مرة أخرى. أشعل سيجارة، أراقب ذؤابتها القرمزية وهي تتحرك في الفضاء بين يدي وفمي كأنها مرجل متحرك. أتذكر حساسسية “رجاء” من التبغ المحروق، وكيف جعلها تدخيني المتكرر تسعل بضراوة. قالت، في آخر مرة لي مع السيجارة، بنبرة اعتذارية خجول: “آسفة حبيبي.. ولا يهمك.. اِستمتع كما تريد، ولكن اعتنِ بصحتك من أجلي..” ثم لامست أناملها وجهي وفي عينيها أضاءت ابتسامة حنون وعلى خديها انبجست تفاحتان قرمزيتان. كم يبدو ذلك المشهد بعيداً الآن: ثلاثين، أربعين عاما، لا مجرد نصف يوم!
أنهض من السرير، تتخبط خطواتي حتى أصل إلى الباب الزجاجي العازل بين الشرفة والغرفة. أتركه مفتوحاً قليلاً. أسدل ورائي الستارة الزرقاء السميكة على الفراغ القائم بين لوحيه الزجاجيين، ثم أعيد لصقهما ببعض. ها هي السماء فوقي شاشة سوداء خالية من النجوم، مثلما هو الحال مع الطرق التي خلت من عابريها، فلا شيء يؤكد على استمرار الحياة في المدينة عدا تلك الأضواء الشاحبة المنعكسة على شوارعها والعربات القليلة العابرة وسطها من وقت إلى آخر.
لا بد أن “رجاء” عادت إلى السرير الآن. تُرى هل أغفت؟ أم هي مثلي تعيش ذلك الكابوس: إسطوانةً مشروخة تأبى الانزياح؟ كم أتمنى لو كنتُ قادرا على سماع صوتها الداخلي أو لو أنها قادرة على متابعة ما يدور في رأسي، كم سيكون سهلاً علينا رأب الجسور المقطوعة بيننا لو تحقق ذلك! من فوق الحاجز الفاصل بين الشرفة والفضاء أستطيع بسهولة العثور على تلك البقعة المظلمة، لكنها من الطابق الخامس تبدو مكشوفة تماماً، ولا استبعد أن بعض نزلاء الفندق تابعوا بأعين محايدة ما كان يجري، فكل شيء نراه من فوق هو مصدر فضول أو إمتاع أكثر من أي شيء آخر. لا بدّ أن شجرة السنديان تلك هي التي مكنتهم من الاختفاء وراءها، وهي التي استدرجتنا إلى عتمة ظلها. وهناك برزوا فجأة أمامنا قاطعين الطريق علينا.
تعود لندن إلى عادتها الأثيرة: مطر ناعم مائل يتسلل دون استئذان فوق جبهتي المبتلة بالعرق، كأنه جاء ليكسر ذلك الشعور المتجدد لحظة بعد أخرى، بالنفور العميق من الذات. أتحسس حافة الحاجز المعدني المبلل. لن يستغرق بلوغي تلك النقطة المضاءة من فناء الفندق أكثر من خمس ثوانٍ: نفس الزمن الذي استغرقه بروز تلك القبضة أمامي. في كلتا الحالتين هو انتحار: الأول انتحار ناجم عن جبن مطلق والثاني عن شجاعة مطلقة، وبجمعهما يزيل أحدهما الآخر، وقد أسترجع ثانية “رجاء” آنذاك.
يشق البرق عتمة السماء، متبوعا برعدة واهية، يعمق المطر جديته أكثر فأكثر، ها أنذا أسبح بشلاله المتواصل، دون الشعور بأن المتضرر هو جسدي. بل كأني مقيم في مكان آخر بعيد عنه. تحضرني رغبة بالعودة إلى السرير، لكن صورَتَي الفراش المبتل وعيني “رجاء” الممتعضتين تردعانها بشدة. كم سيكون رد فعلها مختلفا لو أن ما يحدث الآن قد وقع أمس.
لم تكن سوى أربع خطوات.
ونحن نقترب من الشجرة، شدت “رجاء” بكلتا يديها على ذراعي، كان الدم في عروقها ينبض بقوة على كمّ سترتي، كأنها استشعرت الخطر الكامن وراء جذع السنديانة الوحيدة. ها هي الأقنعة التي شاهدناها قرب محطة المترو تظهر ثانية، ولعل الابتسامة المرسومة فوقها زادت في خداعي. كانوا ثلاثة، ورابعهم كان وراءنا يراقب الشارع. اصطفوا أمامنا مشكلين مع الشجرة والجدار العالي طوقا، فلم يبق أمامنا سوى التراجع خطوتين ثم الانحراف يساراً لندخل في فناء الفندق، حيث الأضواء الساطعة، وحيث الأمان المطلق. كان عليّ أن أعتّ ذراع “رجاء” المتشبث بقماش سترتي وتنفيذ ذلك الخيار فوراً، كان عليّ..
تغرق المدينة بالصمت، ومعه يتوقف المطر أخيرا، يلتمع الفناء المفروش بالحجر تحت ناظري، تزوغ عيني دون إرادتي صوب تلك البقعة المشؤومة، أراهم الآن حال إغلاقي عيني كأنهم منقوشون فوق لحاء الذاكرة. أسمع صوتاً مختنقاً يصدر من فمي: “أهلاً”. ولا بدّ أنني تجاوبت مع التقاطيع المرسومة على أقنعتهم بابتسامة متخاذلة. جاء صوت الواقف وسطهم، خافتاً خشناً أقرب منه إلى الفحيح:
- حين مررتَ بنا، ألقيتَ علينا نظرة احتقار.
- أنا؟ أين؟
- بجانب المحطة.
- أقسم أنني لم ..
وقبل إكمال جملتي، أخرج المتحدث يده من جيبه، قبضةً ضخمة، تحمل سكيناً صغيرة: “أعطني نقودك.. بسرعة”. ها هي يدي اليمنى تتحرك دون إذني، فتقتحم جيب سترتي الداخلي وتُخرج المحفظة. وحال بروز نصفها انقضّت يد أحدهم عليها، ثم انطلقوا في الركض صوب الشارع الفرعي، بخطوات تكشف أنهم مجرد مراهقين أرادوا تقليد فيلم بوليسي ما، تتبعهم قهقهات شيطانية.
تمر أصابعي على حافة الحاجز المبلل، بينما تنحرف عيني صوب البقعة نفسها. يزعمون بأن مكان الجريمة يجذب القاتل كالمغناطيس، ولعل ذلك ينطبق على القتيل أيضاً لو عاد إلى الحياة. هناك على بعد مترين من “الحادث”، سحبت “رجاء” يدها المختضة من يدي، وشدت ذراعيها فوق صدرها. بدا لون وجهها تحت وهج البروجكترات شاحباً، خاليا من أي تعبير، كأنها ارتدت قناعاً استعارته للتو من متحف مدام توسو، ها هي تبتعد يسارا عني، تثقل خطاها قليلا كي تكون ورائي.
كل شيء تواطأ لتحقيق هذه الخطوة: مصادفات هنا وهناك، قرارات صغيرة وكبيرة، حماقات لا أول لها ولا آخر. نقطة البدء: لحظة الولادة؛ نقطة الخاتمة: تلك البقعة المخصصة لجثتي أمام باب الفندق الأمامي. بين النقطتين خط متعرج لم أره من قبل إلا الآن، لحظة انفصالي عن الجسد المتواطئ. الآلام الموغرة في الروح لا تعالَج إلاّ بآلام أكبر منها. ها هما يداي تقبضان على حافة الحاجز، بينما تتسلق قدماي بعناد المشبك المعدني. دوار يجتاحني، يتسارع شيئاً فشيئاً، شيئاَ فشيئاً، تتراخى أصابعي، ينفرج الإبهامان عن مقبض الحاجز، ثم، عاصفة تجرفني، تقتلعني من السياج، أهوي على ظهري، سقوط حر متباطئ يجرني صوب الهاوية، وحال ارتطام جسدي بها، يطبق صمت لحظة: هل النهاية هكذا؟ يتضاءل دوران المكان، أفتح عيني، بصيص ضوء متسلل من الحجرة يكشف لي أنني ما زلت في الشرفة منطرحا على أرضيتها، وبجانبي “رجاء” جالسة على ركبتيها، تمسك بقبضتها مزقة من قميص، وبالأخرى تمسد شعري. بدت لي بعينيها المتوفزتين، العازمتين، امرأة أخرى: محاربة أمازونية خارجة للتو من قلب أسطورة إغريقية قديمة. أحاول التكلم فتتفتت المفردات على لساني. تضع يدها على فمي. تردد ضاحكة بنبرة زاجرة: “لن تفلتَ من يدي أبداً..”.
_____________________________________________
*من كتاب لعبة الأقنعة: مجموعة قصصية، دار دلمون الجديدة، 2017، دمشق