كسارة الجوز ومتاعبها

2٬121

لعل تلك المقابلة نشرت قبل بدء الغزو الأميركي- البريطاني للعراق بستة أشهر أو أكثر قليلا، ولعلها نشرت في صحيفة الـ “نيويورك تايمز” أو الـ “واشنطن بوست”، وهي ضمن سلسلة مقابلات أجريت مع مسؤولين كبار في البيت الأبيض أو البنتاغون، اعتادت الصحف الأميركية أن تصرح في البدء أنها أقوال مسؤول بارز “لا يستطيع الكشف عن اسمه لأنه لم يصرَّح له رسميا بإعطاء تلك المعلومات”. وهذه الكليشة أصبحت مفهومة لمتابعي هاتين الصحيفتين اللتين تعتبران الأبرز والأكثر توزيعا في الولايات المتحدة، وهي بصيغة أو أخرى، تصريحات تدخل ضمن تهيئة الرأي العام نفسيا وذهنيا لحرب قادمة.

مع ذلك فإن هؤلاء المسؤولين الكبار سواء كانوا مدنيين أو عسكريين يصرحون بمعلومات أكثر قليلا مما كانوا ينوون تقديمه، وربما هذا يعود إلى الأسئلة التي يوجهها الصحفي لهم وبراعته في الحصول على أكثر مما خطط له.

من هذه التصريحات كانت نظرية الجوزات الثلاث التي بدأ البنتاغون بتطبيقها بناء على التخطيط الذي صاغه استراتيجيو البيت الأبيض الكبار. ما قاله المسؤول في المقابلة باختصار كالتالي:

هناك ثلاث جوزات يريد البنتاغون كسرها: سوريا والعراق وإيران. وحسب تقييم المسؤول نفسه فإن:

سوريا: جوزة سهلة الكسر.

العراق: جوزة يمكن كسرها ولكنها أصعب من الجوزة الأولى.

إيران: جوزة هي الأصعب كسرا من بين الجوزتين الأولتين.

لذلك اتبعت الإدارة الأميركية (البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية) المبدأ  التالي: “خير الأمور أوسطها”:

لنكسر الجوزة التي هي في الوسط من حيث موقعها ومن حيث درجة مقاومتها للكسر، ومن ثم يتم كسر الجوزة الأسهل كسرا: سوريا، وبعد ذلك نتفرغ للجوزة الأصعب كسرا: إيران.

بعد تحقق كسر الجوزة الأولى: العراق، بدأ التهيؤ لكسر الجوزة الأسهل كسرا تحت يافطة ما طرحه الرئيس بوش (الابن) نشر الديمقراطية من العراق إلى البلدين الجارين له.

لكن الجوزتين الواقعتين على طرفي العراق، وتحت تحريض غريزة البقاء، قلبتا الطاولة على الإدارة الأميركية، إذ أنهما أشغلتا كل من جانبها أو بالتنسيق مع بعضهما البعض الجيش الأميركي بمعارك شبه يومية مع الميليشيات والجماعات المقاومة للاحتلال بما فيها تنظيمات ذات صلة بالقاعدة. كانت المعركة معركة بقاء شرسة، قتل خلالها الكثير من العراقيين وقتل أيضا أكثر من 5000 عسكري أميركي وجرح أكثر من 30000 عنصر من الجيش الأميركي. وكان رهان الجوزتين على الوقت.

حال انتهاء ولاية الرئيس الأسبق بوش الثانية وقدوم الرئيس أوباما، بدلت الإدارة الأميركية استراتيجيتها لكنها لم تبدل نظريتها حول الجوزات الثلاث. ولعل التبدل بالاستراتيجية جاء لجملة أسباب أولها الخسائر الضخمة التي لحقت بالولايات المتحدة ماليا وبشريا، وثانيها بروز جوزة جديدة كان الاعتقاد السائد أنها كسرت منذ عام 1991، بعد انفراط شمل دول الاتحاد السوفييتي. إنها روسيا بوتين ذات الطموح بالعودة إلى الساحة الدولية كدولة عظمى.

ومع بروز هذه الجوزة وتحالفها مع الجوزتين المتحالفتين، الأسهل كسرا (من وجهة نظر الإدارة الأميركية): سوريا، والأصعب كسرا: إيران، أصبحت مهمة تكسير الجوزات الثلاث اكثر صعوبة، وكان من اللازم تبني استراتيجية إغراء كل بلد على حدة للتخلي عن الجوزتين الأخريين. ويبدو أن الجوزات الثلاث بعد انكسار الجوزة ذات القوة المتوسطة من حيث الانكسار: العراق. أصبحت تؤمن أكثر من أي وقت مضى بالمثل القائل: “أكِلتُ يوم أكِل الثور الأبيض”.

بدأ الإغراء لسوريا، دعوات رسمية متكررة لرئيسها وعقيلته، في أبرز عواصم الغرب، بناء جسور اقتصادية ومصرفية مع سوريا، بالمقابل تحقق قدر كبير من “اللبرلة” الاقتصادية والاجتماعية والفردية، فظهر الى الوجود العديد من منظمات المجتمع المدني داخل سوريا وتشكلت ورشات عمل كثيرة بدعم من منظمات تابعة للأمم المتحدة لتأهيل الكثير من اللاجئين القادمين من العراق قبل وبعد بدء الفتنة الطائفية عام 2006 في العراق، كذلك دخلت الفضائيات والموبايلات والانترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي الى الحياة العامة وأصبح الجميع يحلمون بتحولات سياسية أكبر.  كذلك وطدت تركيا وقطر والسعودية علاقاتها التجارية والاستثمارية والعقارية في سوريا وهذا ما عمق الشعور بالاطمئنان من أن هناك مستقبل رخيا ينتظر سوريا والمنطقة ككل.

لكن هذه الإغراءات لم تنفع بشيء أمام تحالف سوريا المصيري بالجوزتين الآخريين: روسيا وإيران.

كذلك هو الحال مع إيران: جاء الاتفاق النووي الأخير والتخفيف عن العقوبات المفروضة ضد إيران وإعادة قسم من الأموال الإيرانية المجمدة في البنوك الأميركية لتفتح الأمل ببدء تحقق السلم في المنطقة لكن إيران حين جاءت اللحظة الحاسمة لتتهي علاقتها بالجوزتين الاخريين كان جوابها بالرفض.

والحال مماثل لروسيا، فبعد كل الخيوط التجارية والاقتصادية التي تشكلت بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة، جاءت اللحظة الحاسمة حين طلب منها التخلي عن الجوزتين الأخريين فجاء جوابها بالرفض.

ونتيجة لذلك، فتحت روسيا على نفسها متاعب كثيرة، فها هي أوكرانيا التي يجمعها بروسيا أواصر تاريخية عريقة يقع فيها انقلاب مسلح وتطرد الحكومة المنتخبة التي كانت تربطها بروسيا أواصر صداقة وتعاون كبيرين، كذلك بدأت العقوبات تنهال عليها يوما بعد يوم جراء تحالفها مع الجوزتين الأخريين، ناهيك عن إحاطتها بقواعد عسكرية تابعة للناتو وبصواريخ وأنظمة تجسس دفعا لها لاستهلاك جزء كبير من دخلها القومي على التسلحز

ما يميز الجوزة الثالثة: روسيا عن الجوزتين الأخريين هو أنها في حال ما إذا كسِرت فإن احتمال اختفاء الحياة على الأرض قائم، فما تحمله في داخلها ليس اللب اللذيذ فحسب بل أسلحة نووية وأسلحة تشويش ألكترونية تضاهي ما تملكه أميركا، وهذا ما سيجعل الحرب إذا وقعت بين الجوزات الثلاث والولايات المتحدة مكلفة جدا للأخيرة، وللبشرية بشكل عام.

نسيت أن أضيف جوزة رابعة هي أشبه بالسكر المطحون فوق الكعكة للجوزات الثلاث، وأشبه بحامض النتريك لسلطات الاحتلال الإسرائيلي، وهذا ما يعقد نظرية الجوزات الثلاث قليلاً.

اقرأ ايضاً