كفاءة من نوع خاص

2٬245

(1)

لم يكن حصولي على ذلك العمل إلاّ بفضل الصدفة المحض التي دفعتني إلى التقاط

الـEvening Standard من فوق أحد المقاعد الفارغة، إذ اعتدت على متابعة «برجك هذا اليوم» وأخبار كرة القدم الإنجليزية في تلك الصحيفة، كلما عثرت عليها في داخل المترو. ربما كان توقف القطار الاضطراري في نفقه هو الدافع الذي جعلني أمضي في قراءة الإعلانات، تجنبا لنظرات الركاب الضجرة من ذلك الانتظار الإجباري داخل عربة المترو المغلقة.

وسط صفحة إعلانات العمل، واجهتني ثلاثة سطور في عمود ضيق، تعرض عملا نادرا: «مترجم ومحرر في جريدة اقتصادية، يجيد العربية والإنجليزية، الرجاء، لمن يرغب بالتقديم الاتصال تلفونيا بهذا الرقم…»

جاء ذلك المستطيل المعبأ بالكلمات كدعوة شخصية لي بتسلم الوظيفة، بعد قضاء أشهر كثيرة، منتظرا وصول النقود من أهلي لبدء الدراسة، إذ حالت ظروف الحرب* دون وصول إي دفعة مالية منهم لتلك السنة، مما أضاع علي فرصة الاستفادة من القبول الدراسي لتلك السنة. ومع العمل المؤقت في المطاعم والمقاهي كنت مجبرا على التقشف الشديد لدفع ما أحصل عليه من أجر تافه لغرفة سكني الصغيرة، وللتدفئة الكهربائية الباهظة الثمن، بعيدا عن مغريات المدينة الكثيرة، مؤملا النفس باقتراب توقف الحرب.

حينما أدرت قرص التلفون توقعت مجيء الرفض من الطرف الآخر حال معرفته بعدم امتلاكي أي خبرة في مجال الترجمة والعمل الصحفي، لكن الصوت الرجالي الذي تسرب إلى سمعي بدا

وديا وخاليا من التكلف. تجنب من ناحية أخرى طرح أي سؤال يتعلق بطبيعة الوظيفة وكفاءات المتقدم لها. شيء واحد تأكد لكلينا أثناء تلك المكالمة المبتسرة: انتماؤنا إلى مدينة واحدة: بغداد.

ارتديت في يوم المقابلة أفضل ملابسي مع ربطة عنق حمراء منقَّطة باللون الأزرق، وحينما قرعت جرس المكتب الواقع عند تقاطع طريقين، فتحت لي فتاة الباب، وما أن ذكرت لها اسمي حتى انفرجت على محياها ابتسامة عريضة.

دعتني للدخول، حيث قابلني مربع الاستقبال الذي ينتهي بحجرة نصف مغلقة. في الزاوية اليمنى انحشر سلّم آخر يهبط صوب السرداب. أجلستني على كنبة صغيرة. سألتني إن كنت أحب احتساء كوب من الشاي أو القهوة؛ إن كنت أحبه بالحليب أو بدونه؛ مع السكر أو خاليا منه. كان حديثها عسيرا على الفهم، لغزارة تساقط الحروف، من أواسط ونهايات كلماته، مما دفعني إلى هز رأسي من وقت إلى آخر، تعبيرا عن موافقتي المؤدبة لها.

قدمت لي استمارة، ثم طلبت مني ملأها. قالت معتذرة إن صاحب المكتب سيهبط من غرفته للالتقاء بي، حال الانتهاء من زبونه الثري، الذي جاء لأمر طارئ، من دون موعد سابق. ما أثار دهشتي أكثر من أي شيء آخر، آنذاك أسلوب سوزان في ذكر اسم مخدومها، إذ كانت تكتفي بـ «سامي» (بدلا من الدكتور سامي الأدهمي!)، مما أعطاني انطباعا بأن رب العمل ليس إلا شابا في عمري. ذكرت السكرتيرة قبل أن تترك مربع الاستقبال، أن مديرها إنسان دقيق في تعامله مع الوقت، وأكثر ما يهمه تأدية مستخدميه للعمل، بنفس درجة الحرص التي يمتلكها هو نفسه أثناء ساعات الدوام. قالت ذلك بأسلوب ساخر، مبطن، قابل لأكثر من تأويل.

لم يكن على الجدران ما يشير إلى جنسية سامي الأدهمي، فعدا تلك النخلة المنقوشة على صحن معدني، وسط نصوص قرآنية مكتوبة بالخط الكوفي، ومزوَّقة بلون ذهبي، لا شيء يوحي بصلته بالشرق. أتذكر ذلك التقويم المزود بصور لسيارات «فيات»، معلقة بقربه نسخة فوتوغرافية للوحة رسم باهتة عن الريف الإنجليزي، تنتمي إلى القرن السابع عشر. هناك على الجدار المجاور لي تقويم آخر.

قبل أن أكمل ملء استمارة طلب العمل، انفتح الباب في الطابق الأعلى، تناءى إلى سمعي صوت الزبون، وهو يكرر عبارات الشكر، تقابلها تأكيدات صاحب المكتب، عن قرب انفراج المشكلة التي جاء من أجلها. خمنت من لهجة الزائر وملابسه قدومه من إحدى إمارات الخليج: تاجرا أو صاحب عقار يتنقل بين لندن ومدن البترول، وحينما أغلق المحامي الباب وراءه تنفس الصعداء. تقدم نحوي فاركا يديه. نهضت لمصافحته بحمية، لكنه واجه اندفاعي بنظرة استغراب، كأنها تريد أن تقول لي «ما هكذا يتصرف المتقدم لوظيفة جديدة مع مستخدِمه». أخذ مني الاستمارة التي انتهيت منها، وأعطاني مقالة مقطوعة من مجلة اقتصادية موضوعها يدور حول التطور الذي شهدته بلدان الخليج، منذ ازدهار تصدير البترول فيها وحتى يومنا الحالي. طلب مني القيام بتلخيصها في ثلاث صفحات فقط. كان حديثه جافا ومبتسرا، ولم تترك نظراته المتغلغلة عبر زجاج نظارتيه السميكتين في نفسي إلا شعورا بالنفور منه. ما أثار انتباهي ذلك الأنف الكبير، المكوَّر، وسط وجه مبقَّع بآثار بثور، تعود لمراهقة قديمة، وفي أنفاسه كان ممكنا سماع ذلك الخوار الثقيل، لكأنه يشفط بمنخريه الهواء بنهم، بحيث لا يترك للحاضرين منه سوى نزر ضئيل.

راودتني الرغبة بالانسلال من كرسيي ومغادرة المكتب من دون رجعة أثناء ذهاب سامي إلى الغرفة الأخرى، لكن صورة صاحب المطعم القبرصي الذي كنت أشتغل عنده اخترقت مخيلتي فجعلتني أواصل الكتابة فوق تلك الطاولة الخشبية الصغيرة، مقتبسا فقرات من هنا وهنا، محاولا إيجاد أواصر بينها، باستخدام حروف الجر والضمائر وظروف الزمان والمكان، التي استطعت استحضارها. آنذاك، كان صوت المحامي يلعلع ساخطا، يقاطعه بانتظام صوت سوزان المرح، إذ ظلت تقدم له تبريرا أثر آخر لكل سؤال متشنج يطلقه سامي الأدهمي في وجهها، لكن شيئا فشيئا، تحولت نبرة السكرتيرة الواثقة من نفسها إلى جمل مفككة، حادة، ثم انتهت بالاستسلام إلى منطق محاورها الجارف الذي استطاع أخيرا إثبات تقصيرها بالعمل.

توقعتُ اكتشاف سامي لضعف كتابتي بالإنجليزية، حال تسلمه أوراق الاختبار، إلاّ أنه لم يقض سوى دقائق قليلة في قراءتها حتى سمعت صوته فجأة، «ممتاز». حينما سألته، متى أبدأ العمل، أجابني بدون أي تردد: «غدا إذا أحببت.»

(2)

قال سامي الأدهمي، «اليوم مخصص لمساعدتك على معرفة عملك،» ثم ألقى نظرة أخرى على ساعة يده، دفعتني إلى اجتراع رشفات أكبر من كوب القهوة التي أعدها لي بنفسه. قادني صاحب المكتب إلى السرداب، الذي سيكون موقع عملي الجديد. تحت أشعة المصباح النيوني البراقة، ظهر الممر القصير عامرا بقطع أثاث عتيقة، مبعثرة فوق أرضيته، إلى درجة تجعل الوصول إلى الحجرة الوحيدة في السرداب عسيرا. كان علي أولا رفع الآلة الكاتبة ومسندها الحديدي ووضعهما جانبا، ثم إركاء خزانة الأضابير الثقيلة على الجدار.

قال المحامي متباهيا، بأنه اشترى كل هذا الأثاث من صديق قرر إغلاق مكتبه والسفر إلى أمريكا، ولم يدفع مقابله سوى خمسين جنيها، لكنه استدرك، «كانت الخمسين لها قيمة قبل عشرة أعوام.» أضاف وهو يشعل مصباح الحجرة،« توقعت مجيء اليوم الذي سأستفيد فيه من الأثاث»، وحينما لمح على وجهي آثار الإحساس بالخيبة لحالة «مقر» عملي، بادر مؤكدا، بأنه اتفق مع منظفة ماهرة، كي تبدأ فورا بتطهير الحجرة وترتيبها لي قبل نهاية عطلة الأسبوع.

أثارت انتباهي تلك الأنسجة المشبعة بالغبار الثقيل، والمتدلية من سقف الحجرة الواطئ، حيث ينزلق بين خيوطها عنكبوت كبير، وبعث مرأى الأثاث المعدني نثار الجليد في أنفاسي. عند صعودنا السلَّم الضيق تهادت إلينا كركرات نسائية مرحة. قال المحامي محتدا: «جانيت لا تعرف العمل من دون ضجيج».

 

لم يبدد الأدهمي وقتا طويلا في مكتب السكرتارية، إذ اكتفى بتقديمي لكاتبة حساباته بطريقة آلية، معمقا فوق وجهه غضون التجهم. طلب منها أن تصعد إلى مكتبه بعد انتهائها من تدقيق رزمة الوصولات المرصوفة أمامها. التفت إلى سوزان متبرما،«لم تنته بعد من طباعة الوثيقة؟» هزت رأسها نافية بدون أن ترفع عينيها عن الآلة الكاتبة، «بقيت صفحة واحدة فقط». قال محتدا: «هذه المؤسسة تخسر يوميا مئات الجنيهات بسبب تضييعك لنصف وقت العمل بالتدخين».

قالت سوزان:«لكنني لا أتوقف عن الطباعة أثناء ذلك.» اندفع المحامي آنذاك في إثبات خطأ وجهة نظر سكرتيرته، ذاكرا بالتفاصيل كم يستغرق إشعال سيجارة واحدة؛ كيف يؤثر الدخان على البصر؛ وكيف يسبب التدخين ضعفا في التركيز. بدا لي أن سامي الأدهمي استعد لتلك المرافعة طويلا، إذ أنه استشهد بآراء بعض العلماء والباحثين في هذا الموضوع، ذاكرا المصادر التي جمع منها معلوماته. ولا بدّ أنه هيَّأ ملفا ضخما حول التدخين، وناقش الحجج مع نفسه مرارا، متقمصا تارة دور محامي المتهم وتارة أخرى دور المدعي العام، ما جعله يتقن تفاصيل المحاكمة، إلى درجة أصبحت معها إدانة المتهم أمرا حتميا. رغما عن ذلك، لم يترك انتصار الأدهمي الساحق تأثيراً كبيرا على مزاج سوزان، باستثناء تلك الحمرة الخفيفة التي تسربت إلى وجهها لفترة قصيرة، إذ ظلت عيناها تتنقلان بين المسودة والآلة الكاتبة، وظلت أصابعها تضرب مفاتيح الحروب برقة. أخرجت شريطا من اللبان من حقيبتها الصغيرة، وراحت تعلكه على مضض.

 

تبدلت لهجة المحامي العدوانية فجأة إلى نقيضها: أصبح حديثه مع سوزان حميما ووديا، ذكر لها أن غضبه لا يعود إلاّ إلى حرصه على صحتها، إذ كم زادت نسبة المصابين بسرطان الرئة في السنوات الأخيرة، ناهيك من أمراض أخرى كالربو، والتهاب القصبات المزمن الذي ما زال سامي يعاني منه، بسبب إفراطه في التدخين، أثناء فترة مراهقته وشبابه. عرض عليها أن تأخذ يوم الجمعة القادمة عطلة مدفوعة الأجر. سألها إن كانت تحب الانصراف فورا، بعد انتهائها من طبع الوثيقة. وللتخفيف من ثقل الهواء الذي سببته «المرافعة» روى نكتة سبق لأبي أن حكاها لأصدقائه قبل قرون، ولا بدّ أنه كررها كثيرا كآخر نكتة سمعها من أبناء وطنه، لكنها لم تترك أثرا على المرأتين، بالرغم من ترجمته الشيقة وأدائه اللبق.

لمحت قبل مغادرتنا الحجرة على عيني جانيت الجاحظتين ابتسامة نصف ساخرة، نصف ماكرة «لا بدّ أنك ستتمتع كثيرا بالعمل معنا». قالت لي ذلك، فحدجها المحامي بنظرة مستريبة، حانقة.

(3)

وكم كانت كاتبة الحسابات الخلاسية على حق!

ما زلت أتذكر بوضوح جناح الأدهمي الواقع في طابق المكتب الأعلى، إذا ما أن ينتهي المرء من المصعد الضيق ذي الاثنتي عشرة سلّمة ويدفع الباب حتى يواجهه ممر قصير، إلى اليسار باب آخر يقود إلى حجرة معتمة تتوسطها طاولة مصففة فوقها الأضابير، ويمينا يتجزأ الممر إلى حجرتين جد صغيرتين متتابعتين ومفتوحة الأولى على الثانية، ومن الواضح أن هذا الطابق لم يكن سوى مخزن احتياطي فحوَّله المحامي بعد شرائه البناية إلى متاهة يتنقل بين أرجائها: هنا موقع البرّاد والغلاّية الكهربائية، هناك تجلس جانيت لإجراء الحسابات، في موقع آخر قريب من الجدار الفاصل بين حدود دولة الأدهمي الرطبة والعالم الخارجي، نُصب جهاز التلكس الذي بواسطته يتصل بزبائنه المنتشرين في دول النفط الثرية، وما يشجعهم على الإئتناس بنصحائه، والاعتماد عليه وكيلا لمصالحهم شهادة الدكتوراه التي حصل عليها من أكسفورد، أصله العربي وسمعته الحسنة بين رجال الأعمال.

 

في تلك البقعة وحدها، كنت أرى سامي الأدهمي منسجما مع نفسه، برغم ضيقها، وبرغم غياب النوافذ الواسعة التي تسمح بدخول الضوء الطبيعي الكافي لإنارتها. في تلك الشرنقة كان ذلك المحامي يتقمص روح روبنسون كروزو، إذ من برجه المعزول يمسك بمهارة بخيوط اللعبة، حيث تتنقل النقود والسلع من قارة إلى أخرى عبر مكتبه. يعرف سامي الأدهمي ما يجري في سوق المضاربات، على الرغم من مشاغله المتنوعة. يتابع كل يوم ارتفاع سعر الجنيه الإسترليني وانخفاضه؛ كم هو سعر برميل النفط الحالي، وكم من المتوقع أن يكون بعد شهر. سألته ذات مرة كيف يستطيع ملاحقة أعماله الكثيرة والمتنوعة لوحده، «إنها القدرة على التركيز. حينما أجلس لإنجاز عمل معين أغلق ذهني عن أي شيء آخر سواه». سيظل يكرر عليَّ حكمته المفضلة من وقت إلى آخر، كلما وجدني «متقاعسا» عن العمل: «العلم تمكن من تجاوز كل العقبات إلاّ عقبة الزمن، وإذا أنت لم تستفد منه فلن يمكنك أبدا استرجاعه.» وغالبا ما يرفق تلك العبارة بنظرة حانقة، متذمرة، وإعادة ترديد المثل الإنجليزي القديم «Time is money». التفت إليّ منتفضا حينما سألته، ذات يوم إن كان يشعر بالحنين للوطن، «ما الذي سيكون موقعي في بلدك لو أنني رجعت بعد الدراسة؟ وزيرا لفترة قصيرة؟ ثم ماذا؟ السجن بعد انقلاب عسكري أو ربما الإعدام.»

 

لكن اختيار البقاء في الخارج لم يجعله سعيدا في حياته الخاصة. قالت جانيت إن زوجته قد تركته، مفضلةً سائق شاحنة عليه. ذكرت في المحكمة أن الاختلاف الحضاري بينها وبين زوجها جعل حياتها «مملة». لكنه استطاع بمهارته القضائية أن ينتزع ابنته شهرزاد من أمها مدعيا أن خيانة زوجته له، وقرارها العيش مع رجل عنيف، يغطي الوشم صدره وذراعيه لا يؤهلها لرعاية طفلتهما.

 

يمكنني اعتبار الشهر الأول من عملي فترة تدريب وائتلاف مع المكان والوسط الجديدين. أول واجباتي التي طلب الأدهمي مني تنفيذها كل صباح الصعود إلى حجرته وتسليمه الملف المخصص للصادرات، وتسلم ملف المواد الجاهزة للطبع. قد أستطيع القول إن عملي كمحرر للجريدة الاقتصادية، كما هو متوقع، أصبح تدريجيا يتضمن نشاطات أوسع لا صلة لها بالصحافة. قال المحامي حينما سألته عن مشروعه الجديد، إن ما ينوي إصداره نشرة شهرية بثماني صفحات متوجهة بشكل رئيس إلى الشركات الغربية، إذ أنها تتضمن معلومات مفيدة لرجال الأعمال حول المشاريع الاقتصادية التي تنوي البلدان العربية بناءها.

 

كجزء من مهمات عملي، عليّ متابعة الصحف العربية والبريطانية والكراريس التي تصدرها البنوك بحثا عن مواد «شهية» للزبائن! سيقوم من جانبه بمساعدتي على تحرير هذه المواد المقتطعة وتحويلها إلى مادة تنتمي بأسلوبها إلى نشرته.

 

يؤكد الأدهمي أن كل الصحفيين يسرقون من بعضهم البعض في العالم الغربي، «المهم طريقة التحرير التي تخفي الآثار…» حدثني عن تجربته العريقة في الصحافة حينما كان طالباً، إذ عمل محررا لصحيفة تمثل مجموعة من الطلبة العراقيين اليساريين. إلاّ أن تلك المنظمة انتهت بالانقسام أولاً إلى فصيلين، ثم انشطرت إلى أربعة، أمّا الجريدة فما عاد ممكنا تمويلها.

قال هازا رأسه: «كانت فترة طيش».

رغما عن ذلك فإن فكرة إصدار المجلة (كما ظننت آنذاك) هي تحقيق حلم قديم بامتلاك دورية   ذات نفوذ كبير على مشاعر الناس وأفكارهم، لكن حلم المراهقة تحقق في هيئة مجلة إعلانات مشكوك بنجاحها التجاري. «سأكتب افتتاحية كل عدد،» قال المحامي متباهيا، «ولا بدّ أن أفكارها ستعجبك».

 

أكدت جانيت أن اشتغالي في المكتب ترك تأثيرا حسنا على سامي، إذ ما عاد يختلق الخصومات معها أو مع سوزان. هزت كاتبة الطابعة رأسها مؤيدة، وعلامات الاسترخاء بادية على وجهها. لا بدّ أن المحامي سُرّ كثيرا لقدرته على مدح نفسه بشكل متواصل أمامي. بوجودي معه استطاع أن يكتشف كم هو ناجح في عمله، وبحديثه معي باللهجة البغدادية العتيقة تعرّف إلى إنجازاته الضخمة في عالم غريب عنه. قال لي، ذات مرة، بنبرة خجولة: «هل تصدق أن كل أحلامي تدور في بغداد؛ على الأغلب في المحلة أو في بيتنا القديم.» أحيانا كان يرى أمه المتوفاة في المنام تتحدث بالإنجليزية مع أبيه وأخوته (وهي التي لم تتعلم قراءة جملة بلغتها الأم) فيستيقظ فزعا.

(4)

إذا كان الاستماع لأمجاد الأدهمي الضخمة إحدى مهام عملي الممتعة، فإن مواجهة طبيعته الخصامية شيء آخر يتطلب الكثير من الصبر وقوة التحمل. لم يحدث التبدل في سلوك رب العمل إزائي، إلا بعد انقضاء ما يقرب من ثلاثة أشهر عليّ في الخدمة. تنعمت خلالها بحظوة لم يمنحها الأدهمي لأي أجير قبلي. كأن تحالفا نشأ بيننا ضد الطرف الآخر: جانيت وسوزان، ما أتاح له الإفراج عما كمن في نفسه من مشاعر مرارة تجاه «تقصيرهما» في العمل. ويبدو أن الاصطدام معهما لم يكن يعطي المردود المطلوب، إذ ما أن تنتهي ساعات الدوام، حتى تنسى كل منهما ما وقع في المكتب، على الرغم من كل الدماء التي يسفكها المحامي في مصاولاته معهما!

 

يعزو سامي نواقص كاتبة حساباته إلى الوراثة، فالدماء التي تجري في عروقها كما يعتقد فوّارة بالتناقض: الأب الهندي ترك روح الصبر فيها، والأم السوداء منحتها روح التمرد، أما جزر «الكاريبي» التي قدمت منها، فقد أغدقت عليها طبعا مرحا، صاخبا، متعارضا مع أي عمل مكتبي رصين. مع ذلك، فإن هناك أواصر غريبة تجمعه بها، ما يجعل وجودها في المكتب ضروريا لتوازنه الداخلي. من جهتها، تجد جانيت نفسها مدفوعة للبقاء معه لأسباب «قدرية» غير قابلة للتأويل، إذ سبق لها أن تركت العمل مراراً، إثر مشاحنات عاصفة مع المحامي، لكنها في كل مرة تعود إلى مكتبه بعد مرور فترة قصيرة بمبادرة منه أو منها. «أسابيع قليلة، وأنسى كل شيء عدا طيبته ومدى حاجته إليّ.»

قد يكون سبب بقائهما في العمل سويا لأكثر من عشرين عاماً تشابه تجربتي زواجهما، فكلاهما مطلَّق، وكلاهما لديه بنت واحدة،؛ ابنة جانيت رافقت زوجها لتعيش معه في «الكاريبي» وشهرزاد تركت بيت أبيها في سن السادسة عشرة.

على غير عادته هبط الأدهمي ذات صباح إلى مكتبي، ولا بدّ أنه اشتم رائحة دخان السيجارة التي انتهيت منها على عجل قبل دقائق، لكنه لم يبد أي استياء، عدا زمّ قليل لفمه، وتأوه خفيض. حاول جاهدا أثناء تلك اللحظات إبعاد الشبهة عن انزعاجه من تصرفي. قال المحامي بنبرة هادئة: «سأذهب إلى البريد… هل تحب مرافقتي؟» أثار عرضه الحيرة في نفسي، ما جعله يضيف مطمئنا: «إنها دردشة فقط…» تخفيفا لحالة الارتباك التي داهمتني آنذاك.

مع كل خطوة رحنا نرميها كان المحامي يستجمع أفكاره وينضِّدها بتسلسل مثير ليصوغها بمنطق جارف. ابتدأ حديثه بالتعبير عن رضاه بعملي، إذ أصبحت مساعدتي له ضرورية في المكتب. كم خفَّفت عنه أداء تلك المهام الثانوية التي كانت تستهلك منه ساعات ثمينة كل يوم: لصق الطوابع على ظروف الرسائل؛ استلام برقيات التلكس من زبائنه؛ تصوير الوثائق… وعلى الرغم من أهمية هذا العمل، فإنه بعيد عن الوظيفة التي شغَّلني من أجلها. مع ذلك، فهو لم يفقد ثقته بقدرتي على التعلم منه، وتحمل أعباء المجلة في المستقبل القريب. بعد أن دفع رسائله في صندوق البريد التفت إليّ فجأة قائلا: «ألا تجد أن الأجر الذي تتقاضاه كمحرر أكبر من عملك الحالي.» لا بد أنني شعرت بالخجل من تلك المفارقة بين نوعية عملي الفعلية، قياسا بالعمل الذي عُيِّنتُ من أجله، مما جعلني أهز رأسي موافقا. توقع الأدهمي احتجاجي على هذا السؤال، ومن المؤكد أنه هيأ حججه الدامغة التي ستسمح له بالدخول في جدل حاد معي ينتهي بانتصاره، لكن صمتي أضاع عليه متعة الانغمار في لعبة استعد لها طويلا، فمضى ينفث أنفاسه بغضب. جاء هطول المطر منقذا للوضع. اندفعنا إلى المكتب بخطوات عجلى؛ هو تحت مظلته الكبيرة التي يحملها دائما معه؛ وأنا تحت رحمة الغيث المدرار.

(5)

أقبل«الكريسماس» في تلك السنة، مكللاً بالثلج، إذ بدأ الوفر بالتساقط فوق «لندن» بدأب استثنائي، منذ الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر، ولا بدّ أنني شعرت بالانفراج لحلول عيد الميلاد، فالناس تعتريها رقة خاصة تجاه الأقارب والأصدقاء والمعارف تتمثل بتبادل بطاقات التهنئة والهدايا الملفوفة بأوراق جميلة براقة. كأن تلك المناسبة تمنحهم فرصة الانغمار بمتعة البذخ بدون التفكير بعواقبها. إضافة لذلك، فإن أجواء «الكريسماس» أجبرت الأدهمي على الالتزام بهدنة غير معلنة معي.

 

منذ موافقتي على تخفيض أجري، انغمر رب العمل في حرب ضروس ضدي، مستخدما فيها كل قواعد منطق أرسطو، ومبادئ المرافعات بصرامة لا متناهية. ابتدأ أولا «بإقناعي» بزيادة عدد ساعات العمل كجزء من ضرورات «التدريب»، ثم توسيع مهام عملي إلى الحد الذي تضمن تدقيق ما تطبعه سوزان من نصوص. كان عليّ أن أقوم بأي عمل «مفيد» أثناء ساعات العمل، وألا أدى إلى انفجار المحامي في وجهي بسيل من الأسئلة والتعليقات تقود إلى إرباكي، وأحيانا إلى انفجار معاكس يجبره على التسلل من قبوي، ليبعث إليَّ من بعد، بجانيت الطيبة للتصالح، عارضا عليّ بواسطتها زيادة طفيفة في الأجر أو إجازة قصيرة.

 

أحيانا، وتحت وهم الإحساس بأهميتي في المكتب، كنت أبادر إلى اقتطاع أجزاء من مقالات، تناسب المجلة المنوي إصدارها، فأقوم بإجراء تعديلات طفيفة عليها، بمساعدة جانيت، لتقوم سوزان بطبعها. لكنني حالما أضعها أمام رب العمل حتى يمضي نائحا على الوقت الذي أهدِر في إنجاز ذلك النص «البائس»، والكهرباء التي استُهلِِكت أثناء الطبع. أحيانا، كان يندفع في محاكمتي عند مشاهدة المرأتين بدون عمل، فيردد ساخطا: «عليك أن توجد لهما أي شغل تنجزانه. أنت وكيلي هنا…»

 

كان المكتب موحشا في تلك الأيام، فالطابق الأرضي خلا من نزلائه: سافرت سوزان في إجازة إلى أهلها الساكنين في «برمنغهام»، وأخذت جانيت الطائرة لقضاء أسبوعين مع أسرة ابنتها في «الكاريبي». قالت لي ضاحكة: «سأكون برفقة الشمس الدافئة، في الوقت الذي ستقضي أيامك برفقة رب العمل.» همست بعبارتها الأخيرة وهي تشير بسبابتها إلى السقف. ما زاد إحساسي بالوحدة ذلك البرد الثاقب للعظام الذي قدم من القطب الشمالي، والذي حوّل المدفئة الكهربائية في قبوي إلى جسم صلد، عديم الفائدة، مما أجبرني على التلفع بمعطفي ولفّافي طيلة ساعات الدوام. عبر نافذة مكتب السكرتارية الواسعة كان ممكنا مشاهدة أشجار السنديان الرمادية، حيث تعلو ندف الثلج البيضاء أغصانها العارية، والشارع مغطى بطبقة سميكة من غراء أبيض وبني اللون.

 

لا بدّ أن رب العمل شعر بوحدة مضاعفة، إذ كما سمعت من جانيت، فإن ابنته قررت مع زوجها السفر إلى «اسكتلندا» برفقة طفليهما، لممارسة التزلج على الجليد. ومن المألوف أن يلتقي المحامي بهم في أيام الكريسماس وعيد الفصح فقط.

 

كم تبدو لي غريبة الآن حالة المكتب في تلك الأيام، فوسط جو مشحون بالمرح والألفة خارج بناية العمل الصغيرة كنا نعيش في الداخل حربنا بصمت: المحامي في طابقه الأعلى يبحث عن أسباب للجدال والمشاجرة؛ وأنا في قبوي أجاهد لتجنب التصادم معه، منقباً في ذاكرتي عن نواقصي وأخطائي التي كانت (كما ظننتُ آنذاك) سببا للخلاف سعيا لتجاوزها. كان كل منا حاضرا في وجدان الآخر. يذهب معي في سكني، فأدخل معه في نقاشات لا أول لها ولا آخر، ولا بدّ أنه كان منغمرا باللعبة نفسها مع تابعه الشاب!

 

كأن عملي مع الأدهمي أزاح عن روحه الشعور بالفراغ، ومنحه فرصة لإيقاظ ذلك الجزء الفعّال في شخصيته، وأعني به الجزء المجادل الذي خبا منذ توقف المحامي عن نشاطه السياسي. وإذا كان وجودي في المكتب ساعد على ازدهار شخصية الأدهمي، فإن لفارق العمر ونقص التجربة أثرهما السلبي عليّ: بالقدر الذي أشبع الآخر في نفسه الحاجة للشعور بالنجاح والتفوق، فإنه بالقدر نفسه زرع في داخلي شعورا بالعجز الذاتي والخيبة الكاملة من قدراتي. سألني ذات مرة ساخراً، إن كنت قد حصلت على أي تأهيل دراسي.

 

مع ذلك، فإن للإحساس بالضآلة حسناته. أتذكر تلك الأوقات التي كنت أقضيها في حجرة السكرتارية عند غياب رب العمل عن المكتب، حيث التمتع بدفء المكان وضوء النهار وتنشّق رائحة العطور النسائية والمشاركة في الثرثرة التي تؤججها جانيت دائما. وبفضل ذلك الإحساس نفسه دعوت سوزان إلى حجرة سكني، بدون أي مقدمات، ولا بدّ أن استجابتها لطلبي كانت تحت تأثير الاندهاش من جرأتي التي لا تتناسب مع وضعي الباعث على الشفقة داخل المكتب. نعم، كنت أتلذذ بما تمنحه لي جانيت من اهتمام أمومي؛ وكنت أتلذذ أيضا بساعات الدفء التي أقضيها مع سوزان في فراشي البارد مما يدفعنا للانصهار معا في ليالي عطلات نهاية الأسبوع. كنت أستمتع كثيرا بأحاديثها الجريئة عن عشاقها السابقين وعن مغامراتها معهم. وبفضل هاتين المرأتين أصبح البقاء في مكتب الأدهمي قابلا للتحمل، لكن بفضلهما أيضا فقدتُ أي رغبة في ترك ذلك العمل والبحث عن بديل آخر.

 

رن جرس الباب فأخرجني من أحلام يقظتي إلى قبوي الضيق، حيث تجثم أمامي تلك الرفوف في هيئة أقفاص ملصق على كل منها حرفا. لا بدّ أن الوقت كان ظهرا آنذاك، وحينما فتحتُ الباب واجهني ساعي البريد الشاب بابتسامة حقيقية: «نحن محظوظون هذا العام…» التفت إلى الخلف مشيرا إلى الوفر المتساقط ببطء،«كريسماس بدون ثلج غير حقيقي، أليس كذلك؟» قال ذلك، ثم سلَّمني رزمة رسائل رسمية، وبطاقة تهنئة مغلفة بظرف أرجواني، مكتوب عليه اسم الأدهمي بخط جميل.

 

بدا لي جو الحجرة غريبا في سكونه ورصانته، شبيها بمكتب لدفن الموتى حينما دخلت على رب العمل لإعطائه الرسائل، فالستائر البنية اللون مغلقة، ولا إنارة هناك سوى مصباح الطاولة الذي أضاء الصفحات المفتوحة أمامه.انعكست بعض الأشعة المتسللة على إطاري الصورتين ذهبيتي اللون، حيث وضِعتا فوق خزانة الكتب وراءه، كانت إحداهما لابنته الشقراء، والأخرى لحفيديه الصغيرين وقد ارتسمت على وجهيهما ملامح البهجة التي كادت تتمزق تحت وطأة صرامة الغضون المحفورة فوق وجه جدهما آنذاك. رغما عن ذلك، فقد علا وجهه هدوء نادر، جعله مختلفا كليا عن رب العمل المعروف بانفعاليته وسرعة غضبه.

 

قال الأدهمي بنبرة رقيقة، متسامحة: «تستطيع الذهاب الآن إن أحببت…»أثارت انتباهي ربطة عنقه الجديدة بألوانها الصارخة مما جعلني أخمن أنها هدية من شهرزاد بمناسبة أعياد الميلاد. لا بدّ أن شعورا بعدم التصديق قد خالجني حينما أغدق رب العمل عليَّ بإجازة مدفوعة الأجر مدتها أسبوعان بدءا من اليوم اللاحق. سألني ولأول مرة عن أخبار أهلي؛ إن كان أحد أخوتي قد أصابه مكروه في الحرب.

 

وتحت وطأة شعور فياض بالبهجة والعرفان بالجميل سألته إن كان يحتاج إلى أي مساعدة قبل مغادرتي المكتب. بعد تردد قليل (وبدافع تشجيعي بحت) قدم المحامي إليّ وثيقة مطبوعة بخمس صفحات. طلب مني عمل عشر نسخ مصورة عنها. وبدلا من مراقبة عملي عن كثب، تركني هذه المرة أهبط إلى مكتب السكرتارية لوحدي حيث وضِعت ماكنة التصوير في إحدى زواياه.

هل هي الصدفة السيئة التي جعلت الماكنة خاوية من أوراق التصوير آنذاك؟ كان علي أن أسأل الأدهمي عن مكان صندوق الورق المناسب لهذا الغرض، لكنني بدلا من ذلك سحبت رزمة ورق مركونة على إحدى الطاولات، ووضعتها في الجرّار المخصص لها، إثباتا لخطأ ظنون المحامي حول كفاءاتي العملية!

لم تمض سوى ثوان حتى راح أحد مصابيح التنبيه الصغيرة ينبض بلون أحمر، ثم توقف تماما مجرى أوراق التصوير. تحولت الماكنة إلى جثة هامدة أمامي. ضغطت على كل الأزرار متوسلا بهلع لكن بلا جدوى.. منذ تلك اللحظة كنت أستطيع مشاهدة رب العمل بعين العقل واقفا ورائي يولول نائحا لما ألحقته من خسائر باهظة للمكتب. ومنذ تلك اللحظة اندفعت ذكرياتي المريرة معه تتدفق كسيول اللافا، فتوقد بحركتها سطحا ظل ولزمن طويل ساكنا.تدحرجتُ بين الصالة بعشوائية، مطاردا أشباحا وعفاريت، مبعثرا غضبي وسعيري فوق الأوراق والكراسي والطاولات.. وحينما هبط الأدهمي شاهد أعجوبة لم يكن ليجرؤ أن يحلم بمثيل لها يوما.

كان المحامي قد هيأ نفسه لمغادرة المبنى؛ ارتدى معطفه الفرو، غطى رأسه بقلنسوة من الصوف ودثر رقبته باللفاف السميك، لكنه ما إن مدّ رأسه إلى مكتب السكرتارية ليودعني حتى واجهه عالم مدهش، جعل أنفاسه تصخب بأصوات غريبة: وسط تلك الخرائب، وقف شبح قادم من كوكب آخر، يحمل بيده معولا عملاقا يتمتم بتعاويذ غامضة.

وسط الصقيع الذي يطوقنا كان بإمكاني، ولأول مرة، رؤية الأدهمي صامتا كأبي الهول، محاصرا بين طبقات عزلة سميكة وبين كلاّبات الفوضى التي قضى أفضل سني عمره للسيطرة عليها.

 

لا بدّ أن الساعة قد تجاوزت السابعة آنذاك، ولا بدّ أن مصابيح الزينة قد توهجت في شوارع المدينة، ولعل شهرزاد كانت تفكر في الوقت نفسه بذلك الأب الغريب الأطوار، القادم من عالم شهريار والخرافة.

 

*من كتاب “أحلام الفيديو”، 1996، دار الجندي، 1996

[1] الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988

 

اقرأ ايضاً