“كوميديا الحب الإلهي” للعراقي لؤي عبد الإله .. حين يرسم القمع الدموي ملامح الرجال والنساء
الجمعة , 27 مارس 2009 م |
في روايته الجديدة “كوميديا الحب الإلهي”، يضع الكاتب العراقي لؤي عبد الإله حوادث عاصفة من تاريخ بلاده في خلفية الرسم الروائي ليصب اهتمامه على أبطاله، في تصعيد جميل يجعل الحياة الشخصية لأولئك الأبطال البؤرة التي يتأسّس بها وعليها معمار الرواية، من دون أن تغيب الوقائع التاريخية “تماما”.
لؤي عبد الإله المقيم منذ زمن طويل في العاصمة البريطانية يختار منذ البداية كتابة روائية تتابع سير رجال ونساء، تلاحق تفاصيل حياة كل واحد منهم من البدايات الأولى في زمن يبدو من وجهة نظرهم مفتوحا على الحياة المدنية، وأحلام التطور الطبيعي، قبل أن تدهمه الإنقلابات العسكرية الدموية فتحيل ذلك التاريخ مجرد ذكريات سوداء.
\”كوميديا الحب الإلهي\” (منشورات \”دار المدى\” 2008) تبدأ من هناك، من عراق الملكية قبل اطاحة رموزه صباح الرابع عشر من تموز 1958 في المذبحة الملكية الشهيرة التي فتحت الطريق لتاريخ من القتل في كل الاتجاهات، وأسقط أحلام أجيال متلاحقة من الرجال والنساء الذين وجدوا أنفسهم يغادرون بلادهم إلى لندن كي يحاولوا من هناك مواصلة حياة هي خليط متنافر من تقاليدهم مرةً، ومن صور ضياعهم مراراً.
من المهم ملاحظة مركزية المكان، وسطوته على أفكار شخصيات الرواية وسلوكهم. إنه وعي آخر يتأسّس في غياب “القمع المنظم” وبعيدا من سطوته. “وفق رؤية محيي الدين بن عربي، كانت عناصر العالم قبل ظهورها إلى الوجود جاثمة كممكنات في العماء، حيث يفصلها عن الذات برزخ الأسماء الإلهية\”. هذه المقولة الافتتاحية لابن عربي سوف تنتظم بعد ذلك سردا روائيا تأخذ معه الأسماء دلالات واقعية ورمزية كبرى، لعل أهمّها تلك التي تتعلّق بشخصية عبدل وإسمه “المنقوص” (عبد الوهاب)، والذي \”تناقص\” بسب اكتشاف والده عادة السرقة عنده مما دفعه الى الانتقام منه والاكتفاء بجزء من إسمه. هكذا أصبح عبد الوهاب عبدل الصغير، الذي اعتاد سرقة الأزرار الملونة من سترات أصدقاء أبيه حين يعلقونها على مشجب صالون بيتهم في زياراتهم المتكرّرة.
في موازاة شخصية عبدل، سوف نعيش طويلا وبتأمّل واهتمام شخصية بيداء، الفتاة التي يتزوجها عبدل ويعيش معها في لندن، والتي لا بد أن نلحظ دلالات رمزية كبرى في اسمها أيضا، وخصوصا أن بيداء في رواية لؤي عبد الإله تحمل كثيرا من ملامح رمزية أخرى تتجاوز الاسم لتطال صورة المرأة العراقية وقد عصفت بها حوادث كبرى وأورثتها فضاء جديدا مفتوحا على مزيج من الحرية الأوروبية والقيود الشرقية، في تكثيف بليغ، شائق، وعابق بنكهة حارّة تأخذنا إلى رؤية تكوين إنساني مختلف، هجين، ومترع بالرغبات المكبوتة، والخوف، فيما يضيف الروائي الى تلك الرمزيات رمزية أخرى من خلال سليم الطفل المعوق، والذي يبدو خلال “حياته الروائية” إشارة أخرى إلى تلك الحياة “الشائنة” التي تجمع عبدل وبيداء تحت سقف عائلي سوف تقوّضه ركائزه الهشّة في صراعها الطويل، الصامت والمكتوم مع نقائضها الإنسانية.
توقفت أمام “العصب البارد” الذي منح الكاتب “حرّية” التصرّف بأبطال روايته على هذا النحو الروائي البالغ الديموقراطية: استنطاق الرغبات الجنسية، بل والنفسية لرجال ونساء يقبعون في دائرة اجتماعية بالغة الضيق، ولكنها تنتشر من تلك المساحة اللندنية الضيقة، فيما تسوقهم أقدارهم ومآلات تلك الرغبات إلى ارتطام عنيف، مدمّر وغير متوقع منهم نحو فجائع لا تعد ولا تحصى، سواء فجائع البدايات التي تحوّل ناشطة سياسية معارضة إلى مجرّد خليلة لـ”المبدع”، الشخصية الأولى في جهاز أمن النظام العراقي، أو حتى بيداء في سيرها الحثيث نحو نهايتها البائسة في خاتمة الرواية.
توقفت طويلا أمام شخصية “المبدع” والتي جاءت مزيجا من “الوفاء” للزعيم والرغبة في تحقيق حلم الإنقضاض عليه والتحوّل إلى زعيم مطلق. هي ملامح تذكّر بالتاريخ العراقي القريب، وبالتحديد إلى مطلع السبعينات، حيث تقبع هناك شخصية ناظم كزار، رجل الأمن العراقي الأول في تلك الأيام وسلسلة المذابح المروّعة التي عاشتها بغداد وأطلق عليها العراقيون وقتها إسم مذابح “أبو طبر” في إشارة إلى طرق القتل التي تعرّضت لها عائلات بكامل أفرادها.
تنقلنا شخصية “المبدع” إلى الجموح الأسود من رغبة القمع في تطويع بلاد بأكملها لتخضع لـ\”فلسفة\” السلطة الدموية ورغباتها الشاذة. هي كوميديا عاصفة، مثخنة بالجراح، ومفتوحة على الدم. سنعود في فصل الختام من جديد الى محيي الدين بن عربي وصراع الأيوبيين على السلطة ومشاهده الدامية: هو تناسل القتل الجماعي، في بلاد تحمل تاريخا يقطر منه الدم ويوزعه بالقسطاس على القادمين الجدد من أبناء الأجيال الجديدة.
أهم ما في الرواية “المناخ الرّوائي”. ذلك ليس “تيمة” كتابية بقدر ما هو قبض على حياة بأكملها وإعادة رسمها على الورق، كي يمكن العيش معها وملاحقة مصائر أبطالها. “كوميديا الحب الإلهي” لون “آخر” في السرد الروائي العراقي، العاصف أصلا في سنوات العقد الأخير، والمفتوح على تحوّلات كبرى تشي بنهضة روائية متنوعة وجميلة. سفر حياة جارحة، جميلة وحادّة ومترعة بالمتعة.